Views: 2
الحكاية الثامنة 8 رمضان 1446 هجري (أرجوك اقتلني):
لم يكن (فريد عبد الواحد) يعلمُ بأنه لن يرى قريتَه وأهلَه، بعد أن تمَّ القبضُ عليه خلال سفَرهِ من ريف حلب الجنوبي إلى مدينة حلب، لقضاءٍ بعض حاجاته، أوقفَ الحاجز الحافلةَ المهترئة التي يركبها، ولدى التدقيق في هويات الركاب أنزلوه وقالوا للباص: تحرّك..
لستُ شاهداً على الحكاية، لكني سمعتُها من ابن شقيقةِ هذ الرجل الذي ليسَ (فريداً في مأساته)، خلال إحدى جلساتنا التي جمعتْني فيه المصادفة.
فقد خرج من السجن خلالَ (عفوٍ رئاسيّ) أحدُ أصحابِ أسرتهم من الرقة، وكان يحمل أمانةً غالية، ثمّ بعد خروجه بفترةٍ جاء رفقةَ بعضِ أقربائه وزارهم كي (يوصل الأمانة) لأهلِها ويحكي لهم حكايتنا اليوم.
كل يوم كان الجلّادُ يتفنّن في تعذيب نزلاءِ المهجع 36 / الجناح 4 ، في سجن صيدنايا سيء السمعة، وعلى ما يبدو أنّ حُكماً بالإعدام صدر بحق المدعو (فريد عبد الواحد)، لكنّ السجّانينَ لا ينفّذون تلك الأحكام سريعاً، فهم يتلذّذون بتعذيبِ المحكومين حتى يُشبِعوا (ساديّتهم وساداتِهم) ويحاولون صبَّ نار حقدِهم الطائفي على الضحيّة للرّمق الأخير، وبكل الوسائل التي تخطرُ او لا تخطر على البال.
وفي جلسة التعذيب الوحشية سمعَ حاملُ الأمانةِ صوتَ (فريد) يقول لمن يعّذبه:
أرجوكَ اقتلني، لا إله إلا الله محمّد رسول الله، أرجوك اقتلني..
لكن الوحشَّ البشريّ قهقهَ عالياً وقال: ما حزرت، مارح أقتلك، لسّا فيك روح يا (كلب بسبع أرواح)..
في نهاية الليلة، شهق (فريد) شهقتَهُ الأخيرةَ قبل أن يسلّم روحَه لبارئها من قسوةِ التعذيب، وفي الصباح جاءتْ سيارةُ جمعِ الجثث، فرموه فيها، وغادروا بهِ وبأمثاله لعمقِ الصحراء، حيث حفرة ردم الموتى التي يعرفُها قلّةٌ من جلاوزةِ الجريمة فقط.
في جيوب ثياب (فريد) وجدَ (صاحب الأمانة) ورقةً فيها وصيّة زميله في المهجع 36 / جناح 4 وقد كتبَ فيها عدّة أشياء على شكلِ وصيّةٍ، منها:
– إذا تزوّج ابني الكبير ياسين ورزقهُ الله مولوداً، فسمّوه على اسمِ جدّه (فريد)..
– وإنْ متُّ في السجن وأعطوكم جثّتي فادفنوني في مقبرةِ القرية بجانبِ قبر أمي..
– لا تنسوا السجناء والشهداء ولا تسامحوا الظّالمين مهما طالَ الزمن..
دسّ الرجلُ الورقة في جيبه قبل أن يدريَ بها السجّان، وحين خرجَ من السجن جاء بالورقة المهترئة إلى أهل (فريد)..
خلال اللقاء والحديثِ كان (التلفزيونُ العربي السوري) يبثّ على القناة الأرضيّةِ برنامج (حُماة الدّيار) وهو برنامجٌ يبثُّ لقطاتٍ لبعض أنشطة (قواتنا المسلّحة الباسلة) وبطولاتِ (الجيش العربي السوري)، فقام أحد الحاضرين وأطفأَ التلفاز، ثم بصقَ على الشاشة وقال: (تفوووووو)، ثم جلسَ وقد أجهشَ بالبكاء…
يا إلهي!! هل هناكَ أصعبُ من أن يتوسّلَ المظلومُ للظالمِ كي يقتلَه؟؟؟
(فريد) ما كان فريداً بل واحداً من عشراتِ الآلاف التي لم يتمّ كشفُها، أو تلك التي سرّبها (قيصر) ليكون الإنسان فبها مجرّد رقم في لصاقةٍ قذرة على جبينه ، وتطولُ السّلسلة.
الحكاية كانت في طيّاتِ الخاطر، لكنّها اليوم تتجدّد، والحزنُ يستيقظ، رغمَ كلِّ بوارقِ الفرحِ بسقوط الطّغيان الطائفيِّ الحاقد، ما يجعلُ لساني يلوكُ الكلماتِ بمَرارةٍ ليقول:
القَولُ لا يَكفي لِنُصرةِ عاثرِ
(أَرجوكَ اقتُلْني): تَوَسّـُلُ خاطرِ
تبقى الجريمةُ في مَقابرِ ثأرِها
حَتَّى غَدا المَقهورُ رُعْبَ القاهِرِ
*****