Views: 8
الإنشاصية جميلة الجميلات .
إطلالة – ربما – مغايرة على تحفة الشاعر الناقد الناثر المفكر /
محمود حسن ” أبى والقطط البيتية ” .
بقلم : ابن المحروسة
محمد أبو اليزيد صالح
محمود حسن : عندما يتجلى الوجد !!!
” لابد أن نعيد النظر فى مفاهيمنا القديمة فإن فى ذلك دلالة حياة . ”
ابن المحروسة
التصوف : متى الهروبية ومتى الثبات ؟
حاز التصوف على نصيب كبير من الاهتمام عند كل الأمم الحضارية القديمة . واختلفت النظرة إليه من حضارة لحضارة ، ومن شعب لشعب ، ومن عصر لعصر فيما نسميه بالفروق الفردية ، ولكن أحاطه جامع واحد مشترك فى كل الثقافات وهو الإخلاص ؛ فلا تصوف حقيقى بدون إخلاص .
ويقال أن لفظة التصوف إنما أشتقت من الصوف الذى تصنع منه الألبسة الخشنة التى تناسب حياة الزهد والتقشف التى يحياها المتصوف ، ويقال أيضا أن الكلمة أشتقت من كلمة ( Sophy ) اليونانية التى تعنى الحكمة .
و قد هذب الإسلام العظيم التصوف بتخليصه من الشوائب
وجعله خالصا لوجه الله تعالى ، فلا يبتغى المتصوف من وراء تصوفه سوى الإخلاص لوجهه الكريم بعد أن يكون طهر قلبه فأحب الناس جميعا على اختلاف مللهم ونحلهم ، ووقر بقية المخلوقات حتى الجوامد ؛ فهى تسبح بحمده سبحانه ولكن لا نفقه تسبيحها .
و المتصوف الحق يحيا فى بساطة وتقشف وإيثار متخلصا من أدران النفس كالحقد والحسد ، مترفعا عن الدنايا كالسعى المهين إلى منصب ، معرضا عن حطام الدنيا كالمال يتكسبه بغير عزة نفس ، قانعا بما قسم له بالأخير بعد استنفاد كل الحيل فى إنجاز عمل ما . وهو نظيف فى هيئته البادية ، فكأنه تخلص من أوضار الروح والجسد جميعا .
إن المتصوف الحق يفعل هذا بكامل وعيه ، وجماع عقله ، وتام إرادته ، ثم إن التصوف عنده مقرون بالعمل المتقن ، والسعى الدؤوب لاكتساب الرزق ، و العيش من عرق الجبين ، وذلك ما كان عليه أئمة التصوف الأول ومن يلف لفهم الآن ، وهذا ينفى عن التصوف فى الإسلام إتهامات من أبرزها أنه قرين التبطل وغياب العقل والإرادة المسلوبة وعلى هذا فإن ما نشاهده هذه الأيام من جمهرة كبيرة ممن يدعون التصوف ، الذين لا يتقنون عملا ، ولا يكدون فى كسب لقمة ، ويتراقصون ويتمايلون فى حلقات يدعون أنها حلقات ذكر لله ليس من التصوف مطلقا !!! إن ذكر الله فى الإسلام يكون بالتفانى فى أى عمل يتكسب منه الإنسان معاشه على أن يمزج ذلك بالإخلاص لوجه الله الكريم ، وحب البشر ، وسائر المخلوقات ، والتفاعل معها بإيجابية ، والإيثار ، والتسليم بإرادة الله …. إلخ كما سبق القول .
إننا نتفهم أن يكون هناك الشيخ الواعى الطيب الذى يغرس فى مريده صحيح الدين و غاياته العظيمة فى تكوين الإنسان والرقى به ، فهما بهذا بمثابة الأستاذ المستنير القدوة و التلميذ الواعى ، وأما أن يكرس الشيخ التبعية العمياء فى مريده و يتقبل هذا المريد ذلك حتى ليصدق عليه القول : المريد بين يدى شيخه كالميت بين يدى مغسله ، فهى الهروبية عندنا لا التصوف ، فلا كهنوت فى الإسلام ولا تبعية لأحد أيا مايكون ، والحساب يوم القيامة يتم بصورة فردية ، فكل نفس بما كسبت رهينة . وأما أن يملك المرء زمام إرادته ، و يؤدى عملا ، وينذره نفسه خالصا مخلصا لله ، فذلك عندنا هو التصوف الصحيح عينه الذى يغدو فيه أو معه المسلم وليا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ويصير بهذا من أهل الفيوضات اللدنية ، والمنح الربانية ، والفتوحات الإلهية .
لقد قابلنا أثناء ترحالاتنا فى دنيا الله وما نزال ، متصوفين أجلاء منهم الفلاح والصانع والتاجر والمعلم وأستاذ الجامعة والطبيب والمهندس ، وكلهم كانوا على بساطة وتقشف وزهد ومحبة ورحمة ومودة وإيثار وطهر وتسامح ، فلا غل ولا حقد ولا حسد ولا ضغينة ولا فحش فى قول ولا تبذل فى سلوك ، وأنت لا تكاد تعرفهم فلا إعلان منهم عن فضل ولا إشهار لمحمدة ، فقط هى أفعالهم تدل عليهم بهدوء .
لمحة عن التصوف فى صعيد مصر ؟!
ينتشر التصوف فى أرجاء مصر المحروسة ، لكن تخالطه بعض السمات المغايرة حتى ليأخذ شكلا أعمق بعد الشيئ فى الصعيد ، فلعل مرد ذلك إلى القبائل العربية التى استقرت هناك منذ الفتح الإسلامى ، إضافة إلى قبائل عربية أخرى استقرت لبعض وقت فى المغرب العربى ثم وفدت إلى مصر منذ العهد الفاطمى وفى عصور أخرى بعده واتخذت من الصعيد موئلا . بل وفقا لمصادر تاريخية معتبرة فإن عددا من قبائل العرب قبل الإسلام جاءوا إلى مصر فى رحلات تجارية واستقرت فى وادى الحوف نزولا للصعيد ، ويقال أن الصحابى عمرو بن العاص وفد إلى المحروسة قبل اسلامه ، وهو من أشار على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بفتح مصر لمعرفته بها وبطبائع أهلها . . ولكن لم القبائل العربية تحديدا هى التى يأتى ذكرها فى معرض تمايز التصوف بعض الشيئ فى الصعيد ؟؟
إن البيئة التى قدمت منها القبائل العربية إلى مصر فى الأساس بيئة صحراوية ؛ والصحراء منفتحة مترامية تبعث على التأمل بكواكبها ونجومها و نجادها ووهادها وحياتها البرية ، و هى حياة خشنة متقشفة تميل إلى الزهد والرضا بالقليل ، وعندما استقرت هذه القبائل فى صعيد مصر لم تشعر بكبير فرق لتشابه البيئة إلى حد كبير ؛ فالصعيد باستثناء الشريط الزراعى الملاصق للنيل منفتح على الصحراء شرقا وغربا ، وجوه جاف ، وموارد رزقه محدودة إلى حد ما مثل صحراء العرب .
وهناك أسباب أخرى منها أن الصعيد يحوى الكثير من آثار الحضارة الفرعونية ممثلة فى المعابد والأطلال وهذا يعطى فرصة للتأمل والتدبر .
إضافة إلى ما تقدم فإن اللغة العربية الفصيحة التى حملتها تلك القبائل إلى مصر تجلت فى جزالة القصائد الصوفية التى خطها متصوفة الصعيد . وقد طالت روح هذا التصوف النوعى إلى حد ما الكثير من قصائد شعراء الصعيد المحدثين و المعاصرين ؛ بل وحتى ناثريهم ، ولعل القصيدة التى بين أيدينا مثالا على ذلك .
إن كل ما تقدم أعطى بعض التمايز من قديم للتصوف فى صعيد مصر ، لا بل للشخصية الصعيدية كما وللهجة الصعيدية ذاتها .
إذن كان الصعيد – لكل ما تقدم وبحسب رأينا الشخصى – جاذبا للكثير من المتصوفة الذين جاءوا إلى مصر حتى منذ عهود قريبة ، وهذا هو السر فى انتشار أضرحة لأئمة كثر من الصوفيين هناك .
إطلالة على القصيدة
أبي والقِطَطُ البيتية
كان الشيخُ إذا نامَ الليلُ
المتكاسلُ
عنْ وِرْدِه
أيقظَ لَيْلَه
زقزقَ عصفورٌ
أو حطَّ يمام
شَدَّ المئزرَ وَضَّأَ كُلَّه
تتنزَّلُ فَوْقَ الْبَيْتِ ملائكةٌ
إثرَ ملائكة تتْرى
أتَنَسَّمُ روحَ اللَّهِ فتسري
الرِّعْدَةُ في جسدي
لكنْ ليستْ رِعْدةَ عِلَّة
الله أضاءَ البيتَ ..
وغُرفَتَهُ ..
وحديقَتَهُ
زرعَ الله سماواتِ القريةِ
بدراً وأَهِلَّةْ
كانت أمي
إن وضعت فَوْقَ الطَّبْلِيَّةِ ..
رزقَ الله
وفضلهْ
مدَّ يَدَيْهِ ونالَ أَقَلهْ
كانَ الرَّجُلَ البكَّاءَ العارِفَ
كيفَ يقودُ إلى الرَّحِمِ ..
المقطوعةِ رَحْلَهْ
و إذا مَسَّ الأرضَ بكفِّهْ
يعرفُ أينَ يكونُ جنينُ النَّخلةْ
والقِطَطُ البَيْتِيَّةُ
كانت تجلسُ في حِجْرِهْ
لا يأكلُ
لا يشْرَبُ
إلّا إنْ أكلتْ
إن شَرِبَتْ
لا تحتاجُ خشاشَ الأرضِ فقدْ
أمِنَتْ وافْتَرَشَتْ
ظِلَّهْ
كان أبي
مثلَ طيورِ الجنَّةِ
يطْعِمُنا من فَمِهِ
يقتسمُ اللقمةَ نِصْفَيْنِ
ويَمْنَحُنا قُبْلَةْ
يا كَمْ كنتُ تَصَنَّعْتُ صُداعاً
في رأسي
حتَّى يأْخُذَني
بين ذراعيهِ لعلَّ أبي
وَلَعَلَّهْ
من مكارم البساطة أنها ساعات تبعث على التساؤل ، و “أبى القطط البيتية ” عنوان بقدر بساطته إلا أنه عنوان غامض داهش ، فليس من المعقول أن يعنون به نص أدبى هكذا دون وظيفة أو سبب وجيه . هذا ما يدور بخلد المطلع على هذا العنوان وهذا يكفيه ليدلف إلى النص منذ بدايته ، فإذا ما ييمم وجهه شطر النص فإن أول ما يلقاه الشيخ الذى تحفه العناية فيوقظ الليل المتكاسل عن أداء ورده . ولكن أهو الليل الذى نعرف فى سنن الكون ؟؟!! وهل فى الليل الذى نعرف زقزقة عصافير أو حط يمام ؟؟!! إن زقزقة العصافير وحط اليمام قرينا النهار ، فمالذى يجرى ؟؟!! أيبدل وجد الشيخ الذى يشد المئزر و يوضئ كله شيئا من سنن الكون فتتنزل الملائكة تترى حتى ليشعر بهم الراوى متنسما روح الله فتسرى فى جسده رعدة عجيبة ليست كرعدة
المحموم ؟! والبيت كله بغرفة الشيخ وحديقته فى ضياء لأن الله زرع سماوات القرية بدرا وأهلة .
ويعدد الراوى بعضا من فضائل الشيخ الأخرى : فحين يمد له الطعام يأخذ أقله ، وكان ذلك البكاء يعرف كيف يقود رحله لصلة الرحم المقطوعة ، و إن يمس الأرض بكفه يعرف أين يكون جنين النخلة . وأما القطط البيتية فكانت تجلس فى حجره يطعمها قبل أن يطعم نفسه ، ولا يتركها لخشاش الأرض وجدته أو لم تجده ؛ لقد أمنت معه . لقد كان الشيخ مثل طيور الجنة يقتسم اللقمة مع ذويه ويمنحهم قبلة ، وكم تصنع الراوى صداعا ليأخذه الشيخ بين ذراعيه رحمة وحنوا .
عند هذا الحد من القصيدة لنا ملفتتات كثيرة لعل أبرزها الحقيقة التى لأهل الفضل من المتصوفة الأصلاء والتى تناولها الشاعر باقتدار .
إننا نتحصل على الحقيقة فى حياتنا بطرق : منها التجربة ، والمنطق ، وما تواضع عليه الناس بقرائحهم ، ومما توارثناه ، و كل هذه الأصناف عرضة للنقد والتعديل بل للدحض إلا هذا الضرب من الحقيقة مثار حديثنا و هى الحقيقة العرفانية .
إن الحقيقة العرفانية حقيقة فردية لا تتهيأ لكثيرين ، بل هى لخاصة الخاصة ممن خبروها لصفات وخصائص شخصية جدا تناولناها فيما تقدم الأمر الذى ينتج عنه الوجد والعشق الإلهى
والانصهار فى كون الله والذوبان والتلاشى ، ويصير المرء فى حالة تلاشيه اللامتناهية تلك بمحض إرادته وتمام وعيه وإلا فهو التصوف المغلوط ربيب الإختلال النفسى كما تقدم أيضا .
والحقيقة العرفانية هنا ينقشها هذا النص الصوفى بامتياز ؛ مفردة وأسلوبا وروحا عامة لدرجة أنه لم يترك ريبا لمرتاب فى أمر هذا الضرب من الحقيقة ، على الرغم من عدم اعتياد الناس عليه لخصوصيته المفرطة .
إن الحقيقة العرفانية على فرديتها كما أشرنا ، تتطلب ما نسميه ( كلية / جمعية الطرح ) بحسب مسمانا. فالتصوف لا يكون صحيحا إلى بالكليات ؛ فالحب والإخلاص والإيثار فيه فيه لسأئر البشر وجميع خلق الله الآخرين ، والتطهر فيه للبدن والروح جميعا . وقد ساعدنا الشاعر على صياغة مسمانا هذا ( كلية الطرح ) بما يسطر فى القصيدة من كليات إنعكست على اللفظة والأسلوب وفى ذلك براعة منه ؛ أيما براعة . فالشيخ يوضئ كله ؛ ترى أهو وضوء الناس المعتاد ؟ إن الوضوء المعتاد يكون بالماء ويكون قاصرا على أعضاء ظاهرة بعينها ، ومعنى ( يوضئ كله ) هنا أنه يوضئ الظاهر والباطن جميعا ( كليات ) بدليل أن السياق يأتى بلا تخصيص للداخل وحده أو للخارج فقط ، بل الأمر على عمومية . والوضوء هنا بالماء لأجل الظاهر ، وأشياء أخرى غير الماء تناسب الباطن الذى تحتشد فيه الذات لتتخلص من أوضارها وأدرانها لزوم التطهر الداخلى ( الجوهر ) . والملائكة تتنزل أفواجا تترى الفوج إثر الفوج ؛ أى فى جماعية ( كليات ) . والشاعر يتنسم روح الله فتسرى فى جميعه بدنا وروحا رعدة ( كليات ) . والله أضاء البيت كله بعد أن زرع ليس سماء القرية ، ولكن سماواتها بدرا وأهلة ( كليات ) . والشيخ كان يقود رحله إلى الرحم المقطوعة بلا تفرقة ( كليات ) . …..إلخ .
والشاعر يأخذنا إلى تجليات التصوف التى يجسدها لنا تجسيدا لنقتدى أو لنعتبر أو لنتأمل أو لنتذوق حلاوتها بعد أن عاينها . وهو يستخدم فى ذلك تكنيكا رحبا طيعا يرتبط بالأسلوب أداة التعبير ، يمزج فيه المادى باللامادى، والفيزيقى بالميتافيزيقى يستأنس به وحشى الطير والحيوان و يستنطق الأرض الصماء ؛ ينهض الكون كله مع هذا التكنيك، فتخرج الخلائق على غير مألوفها ؛ إنه تكنيك ( الواقعية السحرية ) الذى نرى اندياحاته البهيجة فى كتابات ماركيز ونجيب محفوظ المتأخرة وجمال الغيطاني وسيد فاروق وعبد الحكم العلامى وخالد رطيل . ولعل الشاعر استخدم هذا التكنيك بدافع من سليقته أو عقله الباطن أو كان ناتجا لانطباعه أو لذوقه الفردى . فها هو الشيخ يوقظ الليل المتكاسل عن ورده !!!! وهاهى الملائكة تتنزل فوق البيت !!!! والشاعر يتنسم روح الله !!! وتنتثر فى السماء الكواكب ؛ البدر والأهلة !!! إن هذا التكنيك ينسج حوارية خاصة بديعة تليق بمتصوف حقيقى ، وقصيدة روحية .
وإننا فى هذا المحفل الصوفى أيضا ليجذبنا ( التناص ) جذبا لا نستطيع معه إغضاء وإلا كنا من المفتئتين – لا قدر الله – .
والتناص هنا دينى المبعث والطبيعة . وهو تناص فريد مركب يجمع بين الكلامى والحدثى و السيرى ( من السيرة ) كما نحب أن نسميه !!! فشد المئزر على تناص حدثى مع أفعال الرسول العظيم وسنته الفعلية صلى الله عليه وسلم ، و تنزل الملائكة على تناص كلامى مع الفرقان المبين كما جاء فى سورة القدر ( إن لم يكن على مستوى الحدث أيضا ) ، و ” يقود إلى الرحم المقطوعة رحله ” و ” خشاش الأرض ” على تناص كلامى مع الحديث النبوى الشريف ، ” وكان الرجل البكاء ” على تناص سيرى تبعثه أخبار البكائين من المتصوفة الأبرار …إلخ .
وأنا الآنَ إذا
ضلَّتْ خُطُواتي
في صحراءِ التِّيهِ الممتدَّة
واهترأت بوصلتي
حتَّي لم يسْعِفْني
دربُ التبَّانةِ أستوحي ضحْكَتَهُ
فتلوحُ
القِبْلةْ
إنَّ الشيخ الأكبر
صوفيّ القلبِ إمَامِيَّ
الطلَّة
إن لفَّ عِمَامَتَهُ
شاهدتَ ملوكاً
وسواريَ ،
جُنْداً وخيولاً
وملائكةً
وشَمَمْتَ العطرَ
وريحانَ الجنَّةِ في الحُلَّةْ
فغلامُ القريةِ كان أبي
من قَتَلَه
خرقَ الفُلْكَ على
علمٍ لمساكينَ بلا
حولٍ أو قوَّةْ
وأقامَ جدارَ غلامَيْنِ يَتيمَيْنِ
وفسَّرَ سرَّ الكَنْزِ لمنَ سأَلَه
وأبي
من قال أنا آتيكَ بِهِ
فأبي كلُّ فيوضاتِ
النورِ المكتملَةْ
فى هذا الجزء من القصيدة يحدثنا الشاعر ما يزال عن مكرمات الشيخ الغائب الحاضر ؛ الغائب جسدا ، الحاضر
روحا وأثرا . فالشيخ هو المرشد الهادى فى صحراء التيه ؛ ( صحراء الحياة المادية ) إذا ما تهترئ بوصلة الشاعر ، و تقصر ثريات درب التبانة كلها ( المقصود حيله وتدابيره الكثيرة ) عن هديه فيستوحى ضحكته وسرعان ما تلوح له القبلة ( أى تنضبط حركة الحياة ) لأن الشيخ الأكبر كان صوفى القلب إمامى الطلة ( أى صاحب رؤى وحضور واجتباءات متقدمة ) حتى إن يلف عمامته تشاهد ملوكا وسوارى ، جندا وخيولا وملائكة ، وتشم العطر وريحان الجنة فى جبته .
ويتمثل الشاعر الشيخ فى العبد الصالح ( قصة النبى موسى والخضر ) ثم فى هدهد النبى سليمان مؤكدا أنه ( أى الشيخ )
هو فيوضات النور مكتملة .
لن نتوقف فى هذا الجزء من القصيدة عند التناص الأخاذ ، ولا عند المفردة بديعة المشرب ، ولا عند الصور البلاغية الآسرة , ولا عند الحوارية الفاتنة …إلخ . لا ، لن نتوقف عند شيئ من هذا لظننا أننا تناولنا بعضه من قبل وإن لم يكن بالعمق الجدير به .
ستتوقف فقط عند شيئ يؤرق كل ذى ضمير حى يتعرض لشؤون الأدب . ونحن نجزم بأن ما ينصرف عنه جل الشعراء الآن ، ويعزفون عن تناوله فى قصائدهم بوعى منهم على أساس أن ذلك هو ما يتطلبه عفوا ( سوق الشعر و ذائقة المتلقين !! ) أو لجهالة منهم پأغراض الشعر والأدب عموما ورسالتهما التوعوية التنويرية ليس من الصحة فى شيئ .
لا بد من الاستطراد قليلا فى هذا الأمر والأمة تمر بمنعطف خطير يكاد بودى بكينونتها وبروح أهلها جميعا لنكوص نراه
فتاكا من طائفة من بنيها كان من المأمول حملهم لرسالتها العظيمة وإيقاظ شعوبهم والنهوض بهم فكريا وثقافيا وهذا أمر لعمرى فى الحياة جليل !! فما الواقع ؟؟!!
يؤسفنا القول بأن من يتربع الآن على عرش الشعر بخاصة والأدب بعامة ينقصهم الكثير من الثقافة والاطلاع والفكر ، كما ويتخبطون فى عناصر الضبط اللغوى من نحو وصرف وغيرهما ، ولن نتطرق إلى قواعدالأمالى ، فتلك وحدها أم الأعاجيب !!!! نقول يتخبطون فى اللغة التى هى أداة التعبير ، فعلى أى شاكلة يا ترى يكون نتائجهم المحروم من الفكر واللغة جميعا ؟؟!!( طبعا إلا من عصم الله من الأدباء ، حتى لا نقع فى خطأ التعميم المطلق . )
نعم ، لقد انتهى عصر الأديب المفكر واسع الاطلاع الذى تحكمه أخلاقيات كثيرة ذاتية و محلية وعالمية ضرورية فى عالم الإبداع بعامة ,والإبداع الأدبى بخاصة ، وبتنا نلهث وراء تفكيكية ، ودادية ، و تكعيبية ، و بنيوية ، وسريالية ، وعبثية ، وحداثوية ، وما بعد الحداثوية . أفكار مستوردة يجوز أنها تفيد من ابتدعها من الغربيين و تلائم ظروفه الحضارية و النفسية ، لكنها جرت و تجر علينا الويلات لأنها كالنبت الغريب فى غير أرضه . إن فى تراثنا ما يغنينا عن كل ذلك ، فهل من منقب ؟؟!!
ولا يظنن ظان أننا نعنى بالأديب المفكر إنه صاحب الأدب الذى يتحول معه العمل الأدبى إلى نص تكون الغلبة فيه للفكرة على ما عداها فذلك ما لا نرومه ولا ننادى به لأنه يحول العمل الأدبى إلى كائن هو والمقالة سواء .
وبالمقابل ، نحن لا نريد للنص الأدبى أن يصبح كالدمية المزركشة بأصباغ بلاغية محضة ، جهيضا بلا روح قد جاء خلوا من فكرة . فالأدب أى أدب لا بد وأن يحوى فكرة معتبرة بها جدة تحرك ذهن المتلقى وتجنح به إلى عمل إيجابى ما ، وكذا بلاغة جاذبة مؤثرة تؤسس لبهجة ما لدى المتلقى . بلاغة بمشتملاتها التى نعرف وربما التى لانعرف ؛ فقد يبتكر الأديب أوجها بلاغية فريدة غير تلك الموارثة المعروفة . إنه عالم الإبداع الذى يتسع لكل جديد طريف غير مطروق .
وعلى هذا ، فإننا من المنادين بتعادلية ما فى العمل الأدبى ، لكنها تعادلية بلا نسبة وتناسب وكأنها خطت ( بمازورة) حائك . إنها تعادلية تشتمل على الفكرة والبلاغة فى آن .
نسوق هذا ونؤكد عليه لأننا ندرك كم عانى الشعر العربى على مدارات عصور طويلة من طغيان البلاغة وفقط بلا أفكار تعطيه زخما ومصداقية وحيثية وجود حقيقى !!! إن شعر المديح فى معظمه والذى يستحوذ على نصيب وافر من ديوان الشعر العربى – برأينا – من هذا النمط الخالى من الفكرة ، وكذا جل شعر الهجاء والتكسب !!! والأمر ذاته يكون فى فجاجة أيضا إذا ما يكون العمل الأدبى محض بلاغيات وفقط . نعم ، لابد من تعادلية ما تبعد العمل الأدبى عن جفوة الفكرة الجافة ، وتبعده أيضا عن الإغراق فى الطنطنة البلاغية ، لابد من تعادلية كالتى تحققت فى عصر النهضة الشعرية منذ أوائل القرن التاسع عشر . لقد تفاعل الشعر منذ ذلك الحين فصاعدا مع هموم الأوطان والقومية العربية من تحرر وعدالة إجتماعية وقضايا حقوقية …إلخ بتوليفة فكرية بلاغية عظيمة وقبل أن ينتكس مرة أخرى مثلما هو الآن ؛ شعر بلا فكرة ، أو شعر مغرق فى البلاغة وفقط بعد تخليه عن رسالته التنويرية بما يتناوله من غرض أو عرضين على فجاجة وعلى أكثر تقدير ، وبعد انغماس معظم أهله فى
أنديتهم ؛ أندية (الشللية ) والمجاملات والمؤتمرات و المؤامرات !!!! إن من يمن طالعنا أن نعثر على شاعر يتحقق فى شعره ما ننادى به من تعادلية كتلك التى تحدثنا عنها توا .
إن التعادلية متحققة فى هذه القصيدة وفيما إطلعنا عليه من أشعار الشاعر ، وتكفينا مسرحيته الشعرية ( العباسة ) بما تحويه من فكرة ( أفكار ) ثرية وبلاغة نافذة لنحكم بشاعريته .
إن قصيدة ” أبى والقطط البيتية ” تسبح فى تعادلية الفكر و الفن . فالشاعر يؤكد لنا فكرته التى فحواها أن لا تصوف حقيقى بلا عمل بدنى أو عقلى بتكسب منه المتصوف كى لا يكون عالة على غيره ، ولا تصوف حقيقى أيضا بلا ممارسات فعلية و عملية أخرى قوامها الحب الشامل لخلائق الله جميعا ، والرحمة بها والحدب عليها . و الشاعر يقدم لنا الشيخ على هذا . فهو الشيخ الذى يوقظ الليل ، و يشد المئزر ، ويوضئ كله ، و يقنع بالقليل من رزق الله ، و يقود رحله إلى الرحم المقطوعة ، و يمس الأرض بكفه فيعرف أين يكون جنين النخلة ، ويطعم القطط البيتية قبل أن يأكل ، ويحنو على أهل بيته … إلخ . إنها فكرة العمل فى الإسلام التى يشدد عليها الشاعر مذكرا كى يصح تصوفنا ، وكأنى به يتبرأ من أولئك الأدعياء ، أدعياء التصوف كما وأدعياء الأدب .
والشاعر يقرن فكرته بفنيات كثيرة ظاهرة وباطنة لعل أبرزها انتقاء المفردات المناسبة لجلال نص صوفى والصورالبلاغية التى يضيق المقام عن ذكرها هنا والتناص البديع ، وروحية السياق العام …إلخ .
بقى وجه إعجاب خاص بصاحب القصيدة لتبنيه المناداة بتجديد النقد العربى ، و لأطروحاته الفكرية العميقة و خاصة الدينية منها .
طاب / محمود حسن شاعرا و ناقدا و ناثرا ومفكرا ومجددا .
Discussion about this post