Views: 23
#المراكبي_واستنطاق_الحكمة_بين_الفلسفة_والتفكير:
قراءة نقدية في المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” للقاص د.محمد المراكبي
#بقلم_سيد_فاروق
*****
توظئة:
****
إن مفهوم المفارقات يمثل دون شك آلية من آليات بناء الخطاب الأدبي على كافة أجناسه، ومن ثم فإنَّ دراستها تمثل آلية من آليات تحليل النص الأدبي، كما قد يقارب الكاتب بين الأفكار، والمعتقدات بتعبير فني يجسد أحاسيس ومشاعر البسطاء وآمالهم، أو رُبَّما يصحح بهذه المقاربات بعض المفاهيم والمعتقدات المغلوطة.
إن مصطلح المفارقة يتردد بكثرة في النقد العربي المعاصر وهي مفهوم حي تتنازعه مقاربات مختلفة اختلافًا شديدًا، وقد يجد فيها عالم الاجتماع تجليًا من تجليات العلاقات الاجتماعية بين الأفراد ويجد فيها الفيلسوف شكلًا من أشكال الوعي والجدل، وقد يري فيها المبدع ما يرنو الوصول إليه من أفكار يبثها في خطابه الإبداعي.
كما تُعد المفارقة ضمن المفاهيم المعرفية التي تغري حقولًا معرفية مختلفة إذ تكاد المفارقة لا تستثني نشاطًا إبداعيًّا يأتيه الإنسان، وتتبدى المفارقة في مظاهر شتى تتصل بالوجود والمجتمع ومن ثم تنعكس صورها في الأدب وتتمثل في أوجه التناقض والتضاد في علائق وأطراف يجب أن تكون متوافقة وكذلك في ما يظهر لنا عكس حقيقته حيث ترى العبث في الجد والزيف في الحقيقة ولهذا تتصل في كثير من صورها بالتهكم والسخرية والدهشة والألم والإحساس وأحيانًا بالفجيعة والمأساة.
إنَّ المفارقة تقوم على أساس أن ما نسلم به وما نقبله هو أمر لا يجب أن نسلم به من وجهة نظر موضوعية.
إذن يمكننا القول أنَّ: المفارقة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل، وبتعبير مقابل أن تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق في موضع الاختلاف.
ومن هذا المنطلق ندلف إلى القراءة النقدية للمجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” للكاتب د. محمد المركبي والتي ستكون من خلال العناصر التالية:
1- المواقع الاستراتيجية على خارطة النص
2- استنطاق الحكمة بالتفكير الفعال:
3- الوعي الفني وتأثر السرد بالفلسفة:
4- الفانتازيا بين الفضاء التخيلي والحدث الواقعي
5- الوقفة الوصفية وتوقف الزمن السردي
1- المواقع الاستراتيجية:
***************
عُرِّفت المواقع الاستراتيجية على خارطة النص(1). أو العتبات النصّية بمصطلحات شتى منها: النص الموازي، المناص، محيط النص الخارجي، الموازيات، الموازي النصي، النص الموازي، العتبات النصَّية، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تناولت مصطلح النص الموازي، وهي تعد حقلًا معرفيًّا متكاملًا مع المتن – له حدوده وفضاءاته وضوابطه ومؤلفاته – ولم يحظَ هذا الحقل باهتمام العاملين والباحثيين في الدراسات الأدبية والنقدية إلا عندما حاز النص حريته وتوسع مفهومه وشهد انفجاره وأخذت الأنظار تعنى بجزئياته وتفاصيله، وبهذا “كان التطور في فهم النص والتفاعل النصي مناسبة أعمق لتحقيق النظر إليه باعتباره فضاء، ومن ثم جاء الالتفات إلى عتباته” (2).
تساعدنا العتابات النصَّية على فهم خصوصية النص الأدبي كاسم المؤلّف أو الشّاعر، وتحديد الجنس الأدبي، وعنوان العمل الأدبي والعناوين الفرعية والفهرست إذا كان العمل نقدًا أو دراسةً، ويدخُل في العتباتِ المُقدّمة وكلمة النّاشر والتّصدير والإهداء…(3).
بيد أننا ذهبنا بالمصطلح إلى ما أطلقنا عليه “المواقع الاستراتيجية” ونعني بالمواقع الاستراتيجية على خارطة النص الإبداعي كل ما يحيط بالنص من الخارج أو ما يعرف بالعتبات النصية حيث أنَّ لمحيط النص الخارجي أهمية كبرى في فهم المتن، وتفسيره، وتأويله من جميع زواياه، والإحاطة به إحاطة شاملة، وذلك بالإلمام بجميع تفصيلاته البنيوية المجاورة من الداخل والخارج، وكل عتبة تمثل التعبير عن موقف ما، كما أنَّ كل عتبة لها موقع معين يحدده الكاتب على خارطة النص طبقًا لدرجة أهميَّتها، على أنَّ هذا المواقع تقوم بدور أساسي في ولوج القارئ إلى عالم الكتاب وتوغله التدريجي فيه، لأنَّها تحدد ملامح هويَّة النص، وتضيء إشارات دلالية أولية، تجعل القارئ يستبق معرفة النص الغائب من خلال المعطيات الأولية التي ينثرها الكاتب على خارطة النص كمواقع استراتيجية لها أهميتها الكبرى، في المداخل الافتتاحية للنص (4).
وقدد حدَّد محمد المراكبي بعض المنصَّات المهمة التي ارتأى أنَّه لا مناص للولوج إلى منجزه الإبداعي إلَّا من خلالها فكان لها أهميتها الاستراتيجية الخاصة كالعنوان والمؤشر التجنيسي، وكذا الإهداء للمجموعة القصصية والتي سيتم الوجوج إلى تيمة النص الإبداعي وفكرته العامة من خلال هذه المواقع الاستراتيجية، وكما نكرر دائمًا تناول العتبات النصية ليس على أنَّها دستورًا ولكننا نتناولها طبقًا لما تقتضيه شمولية القراءة النقدية للنص.
العنوان:
****
اهتمت الدراسات النقدية في الـسنوات الأخيـرة من القرن الماضي بموضوع العنوان بوصفه المدخل، أو العتبـة التـي يجري التفاوض عليها لكشف مخبوءات النص الـذي يتقدمه ذلك العنوان، وهذا ما عَدَّ العنوان جزءًا مهمًـا من أجزاء النص، أو مفتاحًا له، ورأسًا لجـسده، وعلى ذلك فإنَّ الحاجة إلى استنطاقه ومعرفته باتت ملحة، طالما وفـرت فهمًا يضاف إلى فهم المتلقي للنص.
وقد تناوله ضياء الثامري “بوصفه المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليها لكشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلك العنوان” (5)؛
وأصبح نتيجة لذلك بمثابة البوابة الأولى التي تضيء للقارئ طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، فهو مفتاح تقني يُجَس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي(6).
وإذا كان العنوان يمارس فعله السابق في إضاءة النص والكشف عن روحه كعتبة أولية ومفتاحًا ناجحًا في فهم أولي للنصوص التي يتبوَّأ عليها، فهو من جانب آخر يمارس فعل الإغواء والتعيين والوصف (7).
كما أنَّ العنوان يمثل أقصى اقتصاد لغوي في النص الأدبي، يختزن مكونات النص ويحرك المتلقي باتجاه تحفيزه في دخول تلك المكونات مع دلالاتها بوصفه -العنوان- “بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان بهذه الكينونة – بنية افتقار يغتني بما يتصل به من قصة، رواية، قصيدة، ويؤلف معها وحدة سردية على المستوى الدلالي ” (8).
أما عن عنوان المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” للمراكبي فهو عنوان مرتد من داخل نصوص المجموعة -بوصفه عنوانًا لأحدى قصص المجموعة – إلى خارجها متخذًا غلاف المجموعة مكانًا له ليضيء بطاقاته الدلالية والاشهارية النصوص التي انتخبته عنوانًا.
فإذا كان عنوان المجموعة القصصية الخارجي يعنونها ككل ليرسم الخطوط الأولية في فهم النص، فإنَّ العناوين الداخلية تسم الأجزاء الصغرى الداخلية وتحدد مضامينها، وتوحي بها، وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا ليتآزرا معًا –العنوان الخارجي مع العنوانات الداخلية – في فك رموز النص وتحديده دلاليًّا وحصره لدى المتلقي (9).
ولعلنا نظن في تفسير هذا الارتداد للعنوان وجعله عنوانًا رئيسًا لقصص المجموعة بعدما كان عنوانًا لإحدى نصوص القصة هو الارتباط القوي بين هذه النصوص، مما جعلها ترتبط بخيط واحد أو ربَّما غير ذلك وهو ما سيتَّضح فيما بعد للكشف عن انتخاب هذا العنوان “المَلِك وحده لا يكفي” ليكون عنوان المجموعة ككل.
أن العنوان بهذه الصيغة التركيبية المراوغة “المَلِك وحده لا يكفي” يطرح على المتلقي عدة تساؤلات فما هو الملك المطلق على عمومه ؟!! هل هو ملك أحد الأساطير القديمة؟!!!، أم أنه موجود بالفعل على أرض الواقع؟!!!، أم أنه من وحي خيال الكاتب؟!!!، ما هو ذلك الملك الوحيد الذي لا يكفي ؟!!، وأيضًا لا يكفي لماذا؟!!
كل هذه التساؤلات وغيرها تضع المتلقي أمام مفترق طرق بين حالتي من الأغواء والإغراء المتعمد للمضي قدمًا في سبر أغوار النص الإبداعي للمجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات علَّها تسهم في فك رموز تيمة هذا المُؤَلَّف وفكرته الأساسية فتكشف النقاب عما توارى منه خلف أستار الظلام، فيكتشف المتلقي بعد أنْ يستحضر معنى المَلِك في أفق التوقع وبعد استطلاع قصة “المَلِك وحده لا يكفي” يجد أنَّ معنى المَلِك الذي يقصده المراكبي هو المَلِك الموجود في لعبة الشطرنج وأنَّ الكاتب رواغ بالعنوان ليستثير حافظة المتلقي ويشوقه لقراءة النص.
لقد صنع المراكبي من خطاب العنوان سياقات توظيفية تاريخية ولغوية ونصية، ووظائف تأليفية تختزل جانبًا مركزيًا من منطق الكتابة، فالعنوان بوابة مهمة وموقعًا استراتيجيًّا له مكانته الخاصة على خارطة النص يمكن الدخول من خلالها إلى عالم النص، في أولى المواجهات مع المتلقي، حيث تعطي القارئ تصورًا أوليًّا عن النص قبل قراءته فالحديث سيكون عن مَلِك وحيد لكنه لا يكفي.
وقد أدرك المراكبي أنَّ العنوان يعبر عن هوية النص الذي يمكن أن يختزل فيها معانيه ودلالاته المختلفة، بل حتى مرجعياته وأيدولوجيته، لذا فقد أبان المراكبي عن مدى قدرته كمبدع على اختيار العنوان المغري والمدهش، والممثل لنصه، وإن كان حسب رأينا لا يتجاوز كونه عنوانًا لأحد قصص المجموعة وتم انتخابه من الداخل ليعبر عن القصص داخل المجموعة ككل حيث يرتبط العنوان بباقي المجموعة القصصية إجمالًا في خط التفكير، لأنَّ المَلِك الذي ناورالكاتب به هو موجود داخل لعبة الشطرنج وهي لعبة الذكاء الأولى التي عرفها الإنسان منذ زمن فهي لعبة تحتاج إلى التفكير والتدبر والدهاء وهو نفس الخيط الرفيع الذي يربط العنوان بقصص المجموعة آلا وهو خيط إعمال العقل والتفكير الذي صاحب الخطاب السرد في المجموعة القصصية.
المؤشر التجنيسي:
***********
يقترح هيجل إقامة منظومة حقيقية للأجناس خاصة بالأدب ترتكز على مقولاته الفلسفية الأساسية، التي من خلالها يمتلك الأدب منظومته الدلالية الخاصة به، إذ لا تستطيع هذه المنظومة أنْ تسكن اللغة كما هي، بل تكون مرتبطة بمجموع فرعي من الممارسات اللغوية عبر جوهر خاص، وهكذا أصبحت نظرية الأجناس المكان الذي يتحدد فيه مجال الأدب وتعريفه (10).
الأمر الذي يقودنا إلى مفهوم الجنس الأدبي بوصفه مجموعة من الخصائص التي تحكم الممارسة الإبداعية (11).
رسم المراكبي الحدود الحاسمة لكل ما يدخل تحت مادة “القص” حين حددت المؤشر التجنيسي المصاحب للعنوان باعتباره أولى المواجهات مع القارئ، فأتبع العنوان بعبارة “مجموعة قصصية” ليستحضر الملتقي في أفق انتظاره ويستدعي في ذاكرته كل ما يتعلق بالموروث الثقافي لهذا النمط الأدبي المُقدِم على قراءته، وكذا يستحضر المتلقي في أفق التوقع كل الخصائص الفنية لهذا النمط، وهو أحد الأجناس الأدبية المرتبطة بفن “القصة القصيرة” والتي ظهت في مطلع القرن الماضي، حيث رسم المراكبي المؤشر التجنيسي على لوحة الغلاف الأمامية باللون الأبيض أسفل اسم الكاتب ليكن واضحًا وملفتًا للانتباه رغم البنط الصغير مما يعطي إيحاءات مباشرة للقارىء بطبيعة العمل الأدبي المُقدم على قراءته.
وهنا ربط المراكبي بين أيقونة اسم الكاتب وأيقونة التصنيف في تتابع وتسلل حيث كانت ثالث الموجهات ترتيبًا مع المتلقي، غير أنَّه رغم هذا الارتباط فقد جاءت أيقونة التجنيس منفرة مستقلة عن اسم الكاتب والعنوان، وقد جاء التصنيف بأيقونة على الغلاف صغيرة البنط ورغم ما تحملة من تقريرية ومباشرة لكنها مثيرة للجدل تعمل على تحفيز القارئ في استدعاء كل ما يخص هذا الجنس الأدبي ويستحضره في أفق انتظاره، أو ما يعرف بأفق التوقع، ولعل ما يثير استفهام القارئ في هذا المؤشر التجنيسي هو السؤال عنما تحويه تلك “المجموعة القصصية” حيث يتساءل المتلقي عن كنهها وماهيتها.
الإهداء :
*****
الإهداء عتبة نصية لا تخلو من قصديّة، ” تحمل داخلها إشارة ذات دلالة توضيحية “(12)، وهي عتبة ضاربة بجذور في أعماق التاريخ، يرجعها جيرار جينت إلى زمن الإمبراطورية الرومانية القديمة، وأهم ما “يفرق بين الإهداءات القديمة عما نعرفه الآن، هو أن الإهداءات في السابق كانت تتموضع في النص ذاته أو بدقة أكبر في ديباجة النص / الكتاب، أما الآن فهي تسجل حضورها الرسمي والشكلي في النص المحيط ( المناص عامة) “(13)، وهو -الإهداء- يشكل مُوجَّهًا رئيسيًّا للنص الأدبي، يعبر فيه الكاتب عما بداخله إزاء المقربين إليه سواء كان بشرًا، أم غير بشر وإزاء النص نفسه إذ تظهر أهمية النص من عدمه فيمن يهدى إليه، وهو واحد من هذه العناصر التي تشير إلى مرور رسالة قصيرة مقصودة من الكاتب الى الآخرين بصورة عامة، وإلى المهدى اليهم بصورة خاصة (14).
وقد كان الإهداء عند المراكبي من جنس الإهداء الخاص في عموميته حيث قال:
” إلى كل من تعثر ونهض “.
يؤكد المراكبي في صياغته للإهداء على مبدأ تكامل المنصات التي تتفق لتصبَّ في معين واحد فتتماهى جميعًا لتتفق على الهدف الأسمى، فإذا جاء الإهداء من جنس الإهداء الخاص “إلى هؤلاء الذين تعثروا” ليس فقط الذين عرقلتهم الحياة، وإنَّما الذين يتميزون بالصمود وهم أصحاب الهمم الإنسانية العالية، فرغم تعثرهم، إلَّا أنّ إصرارهم على إعادة المحاولة أقوى، فالنهوض لديهم كان أعلى ولذا فقد نجحوا في النهوض مرة أخرى وهنا نلمح عمومية الخصوص رغم قلة الفئة فهي لكل من تعثر ثم نهض ” في هذا العالم”
لننتقل بالخصوص إلى عالمية المناص فعندما يكون الخطاب بهذه الصياغة ينتقل من حدود القطر إلى محيط أكبر رحابة، فتكون رسالة الإهداء عالمية لأنه خطاب موجه لكل من تلعثم في خطى حلمه ثمَّ عاود المسير، فالكل يحمل نفس الصفات في العالم أجمع، هؤلاء القلة الصامدة هم المنوط بهم الثبات عند الشدائد، والإقدام والإصرار على الحلم، ليتماهي الإهداء مع العنون في دلالاته المتعددة، فإذا كان المَلِك وحده لا يكفي وسوف يتعثر فلا بدَّ له من النهوض بأنْ لا يظل وحيدًا كي ينهض من عثرته.
2- استنطاق الحكمة بالتفكير الفعال:
*****************
إن فعل التفكير مأخوذ من تردّد الفكر في الشئ، وقيل: هو من التأمل، واصطلاحًا: هو من تأمل القلب في معاني الأشياء حتى يفهم المطلوب (15).
إنّ تذكّر الآيات والاتعاظ والاستفادة من معانيها يتحقق بالتفكّر، فكلَّما زاد التفكر كُشف للقلب المعنى المراد من الآيات والمواعظ، فإنّ للمعاني غطاءٍ يُكشف بعمق التفكر حتى تزول غفلة القلب، فيتعلق بخالقه حبًا وطاعةً (16).
إذ أمر الله سبحانه بالتفكُّر والتدبر في كتابه العزيز، وأثنى على المتفكِّرين بقوله: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ) (17).
إنّ التفكر في خلق الإنسان وخلق الكون، من أقربِ الطرق للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، المُستحق للعبادةِ والمتفرد بالوحدانية، فإعمال العقل والتفكر بمخلوقاته عظيمها ودقيقها، يُثَبّت الإيمان في القلب، ويغرس اليقين داخله، فلا يوثر فيه الشبهات، ولا تغيره تقلبات الزمن ونوائب الدهر وعثرات الحياة بين شدة، ورخاء (18).
ولا يخفى على القارئ عند مطالعة المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” ما يجده من خيط رابط يجمعها يمكن ان تمثله مقولة ديكارت المشهورة (أنا أفكر إذن أنا موجود) فهي مجموعة أغلب قصصها يدعو للتفكير على اعتبار إن الوعي والعقل هما أساسا الوجود.
وعند مطالعة أول قصص المجموعة والتي كانت تحت عنوان “البرزخ” تشعر وكأنك أمام لوحة سردية أشبه بالفن السريالي فيأخذك عنصر التشويق إلى فك رموزها والوقوف على مناص الجمال فيها والحكمة المستفادة من ورائها، فنرى البطل على لسان الراوى العليم وهو أحد دعاة الفكر الوجودي (19)، والذي فتح له القدر نافذة على العالم الأخر ليرى البرزخ ومراسم ما بعد الموت في القبر رأي العين فيذكر أفكاره ومن كانوا يناظرونه في الغيبيات، وبصوت الراوي العليم بالأحداث الذي يحكي عن البطل ومناظريه قائلًا: ” كانوا دائما عاجزين عن مناظرته إذا ما سألهم عن الإيمان وعن العوالم الخفية التي يسمونها “بالغيب”، كان يصف من يؤمن بتلك العوالم بالحمق وبأنهم وجدوا في الإيمان بتلك العوالم ذريعة للهروب من التفكير وتشغيل الدماغ ….”
“إنه الآن وحيد في مكان مظلم لا يدري من أدخله فيه ولا كيف حدث ذلك؟، إن هناك قترة زمنية ما، لا يعلم مقدارها بالضبط، كان فيها خارج الزمان والمكان، كان خارج الخدمة، ما عليه الآن وقد أفاق إلا أن يفك بعض الرموز………”
” ارتعد وأخذ يلف ويدور داخل المكان كالخفاش كلما حاول الهروب اصطدم بأحد الجدارن…………”
وتستمر حالتي التأهب والرعب تتصاعدان في شكل متنامي وفي صورة مشهدية وصفية للبرزح وما بعد الموت إلى نهاية القصة حيث قال: ” إن كل المسلمات التي كان يؤمن بها قد أصبحت خزعبلات، إنه يتمنى لو تباطأ الملك بعض الشيء حتى يعدل عن معتقداته فلا يقدس إلا الله، كان يظن نفسه عالمًا فلم ينفعه علمه لما تراءت له بعض العوالم المحجوبة، إنه يقترب من التلاشي، يقاوم بتأوه، سمعت زوجته تأوهاته، أيقظته من النوم، نهض مضطربًا، تفل عن يساره ثلاثًا وقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين ثم أجهش بالبكاء.”
إن هذا الحلم المزعج قد أحدث تحولًا جذريًا في فكر هذا العالم الوجودي الذي أراد الله له الخير فأرسل له رسالة عن طريق الرؤيا ليرى عين الحقيقة عيانًا، كي يتفكر ويعُمل عقله جيدًا فيما بعد المعرفة.
والحكمة المستفادة من قصة “البرزخ” هذه أنه لا تقحم مخالفيك في الرأي فربَّما هم على صواب وربَّما تعتنق أنت رأيهم فيما بعد، وليكن شعارك دائمًأ إذا اشتدَّت حدة الحوار والمناقشة، هو أنَّ: رائي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
إن المواقف هي التي تجعل العقل يتدبر ويتفكر فرُبَّ رؤيا كهذه تعدل مسار الحياة بأكملها كما فعلت بصاحبنا الذي لا يؤمن بالغيبيات ابتداءً، بل وتصحح المفاهيم والمعتقدات.
وخلاصة القول: فإنَّ رحلة المعرفة لا يغذيها الا نسج الفكر الذي يتواجد في التدبر في الكونيات والتفكر في الغيبيات والسباحة الفكرية في ملكوت الله عزَّ وجل، ومؤداها ليس فقط من قبيل النزهة النفسية والروحية بل لا بدَّ أنْ يصل بك بيرق هذه الرحلة إلى الحقائق الهامة التي تؤول بك في النهاية إلى الإهتداء للصواب والثبات على الحق والتأكد من أنك على الجادة؛
وكيف لا ؟!!! وهذه الرحلة في الأساس دعوة قرآنية في كثير من الآيات علَّنا نعي ونتدبر.
أما في قصة “المَلِك وحدة لا يكفي” فقد ساقنا المراكبي إلى إعمال العقل والتفكير من خلال لعبة ذكاء بالدرجة الأولي وهي لعبة الشطرنج التي يهواها البطل ولا يمل منها “كان يلعبها دائمًا “أون لين”عبر أحد تطبيقات الهواتف المحمولة وهذا التطبيق هو الذي يختار المنافس بطريقة عشوائية ”
وهنا يأخذ السرد القصصي منحى مغاير حيث ترى مظاهر التقدم المعلوماتي الهائل في البنية السردية لمادة القص فقد أبانت هذه القصة عما وصل إليه الإنسان المعاصر من تقدم تكنولوجي ورفاهية، كما أنَّ السارد في هذه القصة سلَّط الضوء على نظرة الغرب العنصرية للعرب لذا كان البطل دائمًا يختار أحد أعلام الدول الأجنبية إلى أن أختار له التطبيق منافس إسرائيلي، فتذكر حرب أكتوبر وفي البداية فكر أن ينسحب إلا أنَّه آثر المُضي قُدمًا في الأمر وكله عزم على الفوز وظلَّ اللعب حتى فقد كل منها كافة الجنود فلم يبق مع منافسه إلَّا الملك وحيدًا وبقى معه الملك وأحد الجنود وترك النهاية مفتوحة فلم ينته الدور بعد.
لقد بث الحكمة من خلال لعبة الذكاء وإعمال العقل ومفادها أن من أرد النصر فلابد أن يتحلى بقسط من الصبر والمناورة والإقدام وأن سر النجاح يكمن في الإصرار وبث الطاقات الإيجابية في النفس لرفع الروح المعنوية والتي تعد من أهم أسباب النصر، ثم ترك العنان للقارئ لإعمال العقل والتفكير ورسم النهاية التي تسنح بها مخيلته وتفكيره.
جعل المراكبي في قصة “المَلِك وحدة لا يكفي” مبدأ التحدي ومبدأ الإقدام هما الأكثر سيادة وإنَّ الإرادة هي التي تحدد اتجاهاتنا واتجاه الحياة نفسها، بل تلك الإرادة هي سبيل لتحقيق النصر إذا لامَسها شيئًا من المثابرة والعزم والتفكير الفعال والتأهب الدائم لردود أفعال الخصم بحسابات عقلية ومنطقية دقيقة.
هذا وقد مزج المراكبي بين التفكير والحكمة، وهو ما دعاه لانتخاب هذا العنوان الخاص بلعبة الذكاء “المَلِك وحدة لا يكفي” ليكن عنوانًا لمجموعته القصصية التي تتسم بالتفكير الفعال وإعمال العقل بشكل دائم.
3- الوعي الفني وتأثر السرد بالفلسفة:
************************
يُعد الوعي الفني الناضج أحد أهم الدعائم التي طوَّرت جنس القصة القصيرة، ومن ثمَّ تأثرت القصة بالاتجاهات الفلسفية والواقعية في معالجة الحقائق الكبرى، أو المشكلات الاجتماعية المهمة.
ﻻ ﻋﺟب أن ﻧﺟد اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ، – ﺑﻣﺎ ﻫﻲ ﻧﺷﺎط ﻣﻌرﻓﻲ وﺗﻔﺳﯾر ﻋﻘﻼني ﯾروم اﻟوﺻول إﻟﻰ اﻟﺣﻘﯾﻘﺔ – ﺗﺣث ﻋﻠﻰ اﺳﺗﺛﻣﺎر ﻣﻧﺟزات اﻟﺧطﺎب اﻟﺳردي ﻓﻲ ﻣﺣﺎوﻟﺔ ﻟﺧﻠق ﺑرادﯾﻐﻣﺎت(20) ﺟدﯾدة ﺗﺗوﺳل ﺑﺎﻟﻘﺻص و اﻟﺣﻛﺎﯾﺎت ﻟﻣﻌرﻓﺔ اﻟذات اﻹﻧﺳﺎﻧﯾﺔ “ﻓﻬﻲ ﺗﺄﻣل ﻓﻲ اﻟوﺟود و ﻓﻲ ﻛل وﺳﯾﻠﺔ ﯾﻣﻛن أن ﯾﻔﻬم ﺑﻬﺎ ﻫذا اﻟوﺟود” (21).
لقد كان اﻟﺳرد ﻋﻧد ﺑول رﯾﻛور ﯾﺄﺧذ ﺑﻌدًا ﻣﺧﺗﻠﻔًﺎ، ذﻟك أﻧَّﻪ ﯾﻬﺑﻧﺎ رؤﯾﺔ ﻋن اﻟﺣﯾﺎة، وﻣن ﻫﻧﺎ ﻛﺎن ﻟزاﻣًﺎ اﻟﻧظر ﻓﻲ ﻫذا اﻟسرد وﻋﻼﻗﺗﻪ ﺑﺎﻟﻔﻠﺳﻔﺔ، ﻓﻲ ﻣﺣﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺗﻘﺻﻲ ﻋن طﺑﯾﻌﺔ ﻫذﻩ اﻟراﺑطﺔ اﻟﺗﻲ ﺗﺷﻬد ﻣﯾﻼد ﻧوعًا ﺟدﯾدًا ﻣن اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ، “ﻓﻠﺳﻔﺔ ﻟﻠﺳرد” ﺗﺗﺟﺎوز إﻧﺷﺎﺋﯾﺔ اﻷدب و ﺻراﻣﺔ اﻟﻔﻠﺳﻔﺔ ووتعمل من خلال اﻟﺗﻘﺎطﻊ ﺑﯾﻧﻬﻣﺎ.
فإذا كان السرد سؤل وجودي، و فعل كتابي یستبطن الإنسان لیكشف عن الذات والعالم والوجود، فكیف استطاع المركبي أن یجمع بین التاریخ بوصفه فلسفة وبین السرد بوصفه نموذجًا أدبیًّا؟.
أنَّنا بمطالعة قصة “الآذان في مالطا” ندرك الإجابة على السؤال السابق حيث جمعت القصة بين التاريخ القديم للقرية وطقوس الحياة فيها من بساطة وعفوية وما كان عليه أهل القرية من طبيعة وما تعانيه من نقص في البنية التحتية ودور العبادة والعادات والتقاليد، القرية التي كانت عبارة عن أسرة واحدة فلا أسرار بينهم، مسجد وحيد يجمعهم ليس فقط في أوقات تأدية الشعائر، إنَّما يجمعهم في المناسبات المختلفة، فكان بمثابة الإذاعة المحلية للقرية “يعلن عن اسم من توفى لحظة الوفاة – النداء على المفقودات – استنفار الناس حال المصائب …ألخ”، كذا شخصية “المزين” حلاق القرية الذي كان يؤدي دور الطبيب الجراح، والطبيب البيطري…، وسائل النقل البسيطة التي كانت تعتمد على الدواب في التنقل بين الأماكن، قصة البقرة وغرقها في الترعة وهي تشرب ومحاولة أهالي القرية انقاذها، الفنتازيا التي عمد المركبي إليها في العرض فنتازيا ساخرة تنقد وضع البقرة عند أصحابها حين شبهها بأنها أصبحت “كبقرة بني إسرائيل”، وعلى حدِّ تعبير الكاتب “كانت بقرة فيها حاجات كتير حلوة” إنها فلسفة السارد الخاصة في عرض التاريخ الأصيل لأحد القرى المصرية من خلال استحضار بعض طقوس الحياة الريفية البسطية وما تحمله من سيمات أصحابها وسجيتهم الطبيعية، وتدور الأيام إلى أن: “أصبح الطفل المنطوح طبيبًا فيرى أن من واجبه أن يرد الجميل لأهله وعشيرته فبيبن لهم خطأ بعض معتقداتهم فلن يحدث شيء إذا رأته بقرة نفساء وهو عائد .. بعدما حلق شعره، ولن يحدث شيء إذا تخلصنا من البشيمة (المشيمة) بالحرق ولم نرمها في نهر جار، ولن تعوض لنا السِنَّة المكسورة بمداعبة شمس الشموسة، ولن تزداد خصوبة البقرة أو الجاموسة برجاء الطفل الصغير.
لم يكن حكيمًا، فكان ينهرهم كلما نصحهم ويتهمهم بالجهل والسطحية، وكان يستهين بنعمان بن الأسطى نصار -الحلاق- التي كانت كلمة واحدة منه تقضي على نصائحه وتجعله يعيش كمن يؤذن في مالطا.”
لقد كشف الراوي العليم عن طبيعة الصراع الأزلي بين القديم والجديد، العلم مقابل الجهل العادات والتقاليد والمعتقدات التي ربَّما كانت خاطئة في أغلب الأحيان خاصة عند البسطاء، لكن ما يؤخذ على الطبيب أسلوب التعالي في النصيحة وذم الأهل والعشيرة وعدم اتباع الحكمة واللين في توجيه السلوك، وإنه لا بدَّ لنا أن نستعمل في النصح الموعظة الحسنه كما قال تعالي ” ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ”(22).
إنَّ فلسفة السرد تحيلنا في قصة “الآذان في مالطا” إلى أن الطبع دائمًا يغلب التطبع وكما قال الشاعر أبو العلاء المعري:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا
عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن
يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ
لقد كشف لنا المراكبي في فلسفته السردية لهذه القصة عن حقيقة مهمة حسبما يرى إنَّ الطبع دائمًا في الإنسان يغلب محاولات التطبع، كما يغلب على نظرة صاحب هذا الطبع للآخرين؛ إنَّها حقائق حياتية ساقها المركبي ضمنيًّا من خلال الوعي الفني والفلسفة السردية، أنَّ الطبع يغلب التطبع، وأن الخُلق كالخَلق لا يقبل التبديل أو التغيير، وأن من شبَّ على شيءٍ شاب عليه، وإنَّ من يحاول الاقتراب من هذه المناطق “كمن يؤذن في مالطا.”
لكنَّنا في المقابل نؤمن إنَّ تغيير العادات أمر ممكن، على خلاف ما هو شائع بين الناس من أنَّ الطبع تحت الروح، ولا يزول إلَّا بخروج الروح من الجسد، نعم هناك مقاومات للتغير وتصحيح المفاهيم وهو أمر فطري طبقًا لبطائع النفس البشرية، ولكي تنجح في تغيير طبع معين لا بدَّ من إقناع صاحبه بسوء هذه الطباع، واعترافه بها، لذا علينا أنْ ندرك أنَّ تغيير الطباع ليس بالشيء الهيّن، وتبقى عدة أساسيات مهمة لتصحيح الطبائع وتعديل السلوك لدى البشر من أهمها: الحكمة، والموعظة الحسنة، ولين الجانب، والإخلاص في النصح، والتواضع، هذه الأساسيات هي المَحَك بل هي مفتاح القلوب كي تصحيح المفاهيم والأفكار والمعتقدات.
4- الفانتازيا بين الفضاء التخيلي والحدث الواقعي
****************************
إنَّ غاية الأدب الفانتازي لا تختلف عن غاية الأدب الواقعي، لأنَّ ما يعرف بالحقيقة في النص الأدبي يحمل صفة الافتراض (حقيقة مفترضة)، بوصفه نسيجًا فكريًا يتحدد ضمن حدود مخيلة المؤلف ويتضمن في نفس الوقت صفة أخرى وهي قابليته للتصديق (23)؛
وهذا ما يشير إلى حقيقة الأعمال الأدبية التي تأتي عن طريق وحدة سيمات الشخصية وتوازن الدوافع النفسية أو الأحداث أو الفكرة في النص، بل تمتد إلى أبعد من ذلك عن طريق عملية الكشف عن آفاق وطرق جديدة، من شانها تسليط الضوء على عملية توظيف وكشف الاحتمالات الواردة في النص لإعطاء معادل موضوعي يتناسب مع الواقع.
تشكل الفانتازيا ظاهرة لها حضورًا في المنتج الأدبي يتجلى من خلالها اهتمام العديد من الكُتَّاب بالنظر إلى ذلك الشكل، مما أسهم في ولادة أشكال متباينة تمتلك سمات خاصة بها ترتبط بتشكيلها داخل المنتج الأدبي، مثل الروايات المتعددة الأصوات والروايات الشعرية والروايات العجائبية (الفانتازية) ذات الواقعية السحرية وغيرها من الخطابات الأدبية التي تنتشر في جميع أنواع الإنتاج الأدبي بصورة عامة (24)؛
ومما لا شك فيه إنَّ الفانتازيا تعد واحدة من أبرز الأشكال الأدبية الجديدة للتعبير الفني، التي يتجاوز بها المنتج الحدود التقليدية للمألوف المتعارف عليه واقعيًّا، ليدخل هذا الشكل في مظاهر التغير داخل الشكل الأدبي الجديد، بالرغم من عدم تغير الشكل الخطابي المتعارف عليه من شخصية ولغة وأحداث وزمن ومكان، ذلك لأن الشكل الفانتازي في الأدب يمثل لونًا أدبيَّا يتشكل داخل عناصر الجنس الأدبي، ليتخذ وضعيات مختلفة وبدرجات متفاوتة، حيث تباينت رؤى النقاد في تناولهم النقدي للأدب الفانتازي، وقد عبرت تلك الرؤى عن رأيين وهما:
1- بعض النقاد يرى بأنَّه جنس يعتمد على الخيال (متخيل) سائب بحاله، إذا لم يحسن تقييده وضبطه من خلال عوامل الزمن والمكان والخلفية الثقافية والتراثية لتثبيته بوصفه جنسًا أدبيًّا.
2- فيما يرى البعض الآخر بتحويله إلى جنس (تخييلي) بإسناده إلى لغة ووعي متميز.
بيد أنَّنا نؤمن بأنَّ الفنتازيا تُؤسس بالضرورة على “مفهوم المحاكاة الذي تكلم عنه أرسطو”(25)، أي أنَّنا نرى وجوب المزج بين الفضاء التخييلي من جهة وبين الواقع المعاش من أخرى للوصول على ما يطلق عليه “فانتازيا الواقع” وهو ما يعني إسقاط بعض هذا التخيل على مشاهد وأحداث واقعية، ارتكازًا على مفهوم المحاكاة الذي يتحقق بين قطبي الواقع والخيال، فإذا انتهى النص الأدبي إلى إنَّ الأحداث تفسر ضمن نظام مألوف، فهذا يعني أن النص قد اتخذ منحًا واقعيًّا، أما إذا فسر ضمن نظام اللا مألوف فقد اتخذ منحًا متخيًّا وإذا انتهى النص إلى التردد بين (المألوف واللا مألوف) فأن ذلك يدل على أنَّ ثمة حيرة إزاء وجود النص على الحد الفاصل بين الواقع والخيال، ليأتي دور (الفانتازيا) في رسم تلك الحدود التي تتأرجح بين الواقعي والمتخيل.
لقد أردركنا الآن معنى العبارة التي قدَّم بها المراكبي لهذا المنجز الأدبي قبل أنْ يشرع في طباعة المجموعة القصصية التي بين أيدينها “المَلِك وحده لا يكفي” وبعد صياغة الإهداء جاءت التقدمة :
“أي تشابه بين أحداث أي قصة من المجموعة القصصية والواقع.. هو من وحي الصدفة والخيال”
من هنا ندرك إن نفي النفي هو في حدِّ ذاته عين إثبات الإثبات، لكنه أرد أن يبث للقارئ أنه سيعمد إلى الفنتازيا في تسليط الضوء على بعض القضايا والمشاهد وإنْ تشابهت بالواقع فإنها على سبيل الصدفة لأنَّه في حقيقة الأمر مجازًا مسقطًا على أرض الواقع.
إنَّنا بمطالعة قصة “السلام حاجه وتسعين” ندرك تمامَ الإدراك كيف أنَّ المراكبي وعى فن التخاطب مع البشر وكذا أدرك فقه الحديث معهم، وكيفية تلفت النظر إليك إذا كان لحديثك شأن، فمن خلال تقنية التكرار في السرد استطاع المركبي جذب انتباه القارئ، على أنَّ تكرار الكلمات عند مخاطبة الناس له دورًا مهمًا في انتباه المتلقي وجذب إدراكه كما تعلمنا من الحديث الشريف: «ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت».(26).
إنَّ من أهم الأنماط الفنية الجديدة إعادة هيكلة أليات السرد ووظائفها، وقد تمثلت تلك التقنيات في (اللغة والتكرار والوصف وتغيير خصائص وإحداثيات الزمكان واستخدام تقنية السرد البصري واتساع أفق الحوار) (27).
لقد أدرك المراكبي أن التكرار هو أحد أهم فنون القول التي تلفت نظر المتلقي وهو أيضًا أحد التتقنيات السردية الحديثة فعمد إلى استهلال القصة بمخاطبة الآخر “كان ينظر إلي خريطة العالم ويتساءل: كيف استطاع ماجلان أن يجوب البحار بقارب أو بمجموعة قوارب ربما كانت بدائية؟ وكيف كان المسلمون من قبله يرتادونها محاربين…؟”
” كان ينظر في الخريطة فيرى العالم فيها مستويا، فينعجب من هؤلاء اليابانين المجانين، إذ كيف لهم وهم في أقصى اليمين أن يحاربوا عدوا هو في أقصى اليسار….كان يتعجب من المحيط الهادي، وكيف أنَّه يوجد على الخريطة في كل مكان على الأرض، فلما علم أنَّ الأرض كروية اتضح الأمر بعض الشيء”
وهكذا أخد يخاطب الآخر ويسترسل في الحديث عن البحر فيأخذه التاريخ تارة وتسيطر عليه الجغرافيا أخرى لكنه كان يتأمل البحر وصفاته “إنه يبدو هائجا ثائرًا والناس على أعتابه سعداء غير وجلين منه رغم مهابته ”
ثم ينتقل بالحديث من تأملات البحر وخيالاته والوقوف أمامه إلى وقائع حقيقية حينما يرصد وفود الناس إليه في العطلات الرسمية والاستجمام وما إلى ذلك تميهدًا للحدث الأهم الذي يود رصده وقد وصف المراكبي مشهد الميناء والزحام كيوم الحشر وعمد إلى رسم صور مشهدية تحمل وصفًا تصويريًّا دقيقًا يمتاز بالحركة الدينامية التي تجسد الحدث للقارئ فتنقله إلى الميناء والعبارة كأنَّه يراها رأي العين فالناس تتدافع والسلم الحديدي المؤدي إلى البولمان والسطح والمعاناة التى يعيشها الفقير على متن المركب بداية من السلم الواقف الذي يأخذ زاوية شبه مستقيمة وتخطى الرقاب حال الذهاب للخلاء للوضوء أو قضاء الحاجه مشهد مشين لا إنساني بالمرة، ثم انتقل إلى الوجه المقابل وجشع مُلاك العَبَارة في زيادة أعداد الركاب وعدم أخذ إجراءات السلامة والصحة المهنية، والتعامل اللا إنساني وقلة عدد القوارب على السطح ناهيك عن عدم استخدامها لفترة طويلة من الزمن وكأنَّها خارج الخدمة، وعدم تلقين الركاب ماذا يفعلون في الطوارئ، ثم الإقلاع رغم الظروف الجوية القاسية والبرد القارص، وسرعة الرياح وتلاطم الامواج، وأصوات الرعد والبرق الخاطف للبصر، كل الظروف التي ساقها الكاتب سوف تؤدي حتمًا إلى كارثة “إنها ستقلع في هذا الطقس السيئ، وبهذا العدد من المسافرين الذي تجاوز أضعاف أقصى حدٍّ لها. إنهم يعتمدون على ستر ربنا فقط.
قد لا يحدث شيء لتلك الباخرة هذه المرة، ولكنها حتما ستغرق يومًا ما وسيطالب ملاكها حينها بمعاقبة البحر فهو الذي أغرقها.”
لم تعتمد القصة على رسم واقعيًا دقيقًا، بل كانت صورة ذهنية نابعة من احتمالية حدوث الحدث، لذا فلم تخلُ من الفانتازيا والغرابة السردية، فهي تقف في المنطقة الوسطي بين الواقع والفنتازيا.
اعتمد المراكبي في رسم تشظي الشخصية المحورية من خلال ضمائر الغائب، أو الأفعال الماضية الناقصة والتي أتى اسمها ضميرًا محذوفًا دائمًا ( كان – هو – كانوا – هم) حيث اعتمد علي فكرة ما يعرف بـ ( التلبس )، والتشويق السردي الذي يثير حافظة المتلقي ويحفزه على فعل القراءة حتى يستبين ذلك الحدث المثير الذي يعج بالدهشة والحيرة، ثم عمد إلى رسم نهاية يحفها التفاؤل رغم قتامة المشهد، لكنه نأى بالقارئ عن نهاية مأساوية حتمية، بيد أنَّه حذر من وقوع المأساة فيما بعد، وقد وظف المراكبي الفانتازيا لطرح أيدولوجيات من أجل تصحيح الأخطاء الاجتماعية والتاريخية في الواقع الراهن كما يراها،
إننا نرى أنَّ كاتب الفانتازيا هو كاتب اخلاقي في الأساس، يعالج مسائل الواقع بنمط من التخيل المجازي الذي يعيد صناعة البنى المعرفية للواقع والمجتمع، وهو ما أشار إليه “ب، ي، ايتر ” حيث ارتأى أنَّه نادرًا ما يتجاهل أدب الفنتازيا المسائل الاخلاقية، إلَّا أنَّه في الوقت ذاته يعبر عن الخبرة العميقة بخصوص كيفية الشروع بالاستنارة، فالمشكلة لا تتضمن حقائق غير معروفة بل طرائق غير معروفة في التعامل مع الحقائق، فضلًا عن ذلك فإنَّ الحقائق تفقد الاستقرارية المقنعة التي يطرحها الكاتب الواقعي، والكثير من الكُتَّاب يرون أنَّ الأدب بكافة أنواعه لا يكتب قصصًا واقعية بل اشخاصها من اختراع الخيال وهذه الآلية هي الأكثر انتشارًا في الكتابة، أي الخروج عن المالوف، لأنَّ الكتابة الواقعية لا تطل على شيء أدبي بل خروج النص عن الواقعية.
واللغة هي العنصر المركزي في بناء الفانتازيا فليس موضوع حكاية الفانتازيا هو خرق العادات والسحر وما إلى ذلك، وما نقرأه من أدب الفنتازيا هو في الحقيقة أدب مسقط على الواقع بشيء من وحي خيال المُؤلف، أنَّ الأدب بكل أجناسه تخطى هذه الأصناف في الطروحات، واصبح يعمل على التشكيلات اللغوية، وخلق علاقات اتصال جديدة ومتنوعة بين النص والقارئ.
5- الوقفة الوصفية وتوقف الزمن السردي
***********************
أنَّ كل بناء سردى هو محاولة بشكل أو بآخر إلى قول الحقيقة، وهذه الحقيقة إنْ كانت ترتبط بشكل خاص بوضعية اجتماعية- ثقافية معنية فهى محاولة للاعتراف وإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية المهدرة فى العالم المعاصر والثقافة التى تسمح بتعدد الأصوات والمبادرات اللغوية الواقعية القائمة على احترام التنوع والتعددية والحوارية الديمقراطية الفاعلة تعبر عن الرسالة الحقيقة للفن على أنَّ الفن الحقيقى هو عبارة عن “آمر مسرحي كامن في أعماق نفوسنا؛ آمر يدفعنا دائمًا إلى أنْ ننتج شيئًا لا يكون على غرارنا، وكأنَّنا نحاول في كل أعمالنا الفنية ألَّا يبدو على ما نحن عليه بالفعل في قرارة نفوسنا” (28).
إنَّ من تقنية السارد (الراوي)، وتقنية الصورة، أو الوصف بحسب ما يتضح عند المقاربة البنيوية للنماذج القصصية التي قسمتها الدكتورة آمنة يوسف إلى الاتجاهات الأدبية الآتية: القصة التقليدية ذات الحساسية القديمة، القصة الحديثة ذات الحساسية الجديدة، القصة الأجد، مشيرة إلى الصورة الوصفية، وهي التقنية التي يعرّفها النقاد البنيويون بمصطلح الوقفة الوصفية وسبب تسميتها بهذا المصطلح الذائع الصيت لأنها – بحسب النقاد – توقف سيرورة الزمان السردي عن المضي في سرد الحدث أو الأحداث واستمرار ديناميته، ذلك أن السارد يتوقف أسطرًا طويلة أو قصيرة كي يصف المظهر الخارجي للشخصية القصصية وكذا (الروائية) أو يصف المكان وهندسته وتفاصيله وأشياءه ثم يتابع بعد ذلك ما كان قد توقف عنه من أحداث السرد، عدا (جيرار جينيت) الذي لا يعتبر الوصف أبدًا وقفة للحكاية أو تعليقًا للقصة، بل هو وظيفة بنيوية تأملية وما دام الوصف كذلك فهو لا يفلت أبدًا من زمنية القصة.
وقت تجلت الوقفة الوصفية في بعض قصص المجموعة القصصية ” المَلِك وحده لا يكفي ” ونأخذ على سبيل المثال قصة “النعام” والتي سأل فيها البطل البروفسير الذي كان يناقشه دومًا وكان يستعرض عليه في النقاشات ليريه أن العرب ليسوا جهلاء بيد أنَّه استحضر أرواح العظماء من العرب الذين برعوا في العلوم وكان لهم بصمة أفادة العالم في شتى المناحي وكأن البطل تتلبسه أروح هؤلاء “ابن سينا والرازي وابن الهيثم وكل الفراعنة ” وفد تجمعوا كي يثنوه عن السؤال الذي ساقه في مستهل قصته “نعام” حيث قال: ” بكل ثقة سألت الخواجة: إيه رأيك في مستواي كطبيب” وقد كانت الإجابة دبلوماسية للغاية من البروفسير حين قال “على المستوى النظري أنت رائع، أما على المستوى العملي فلم يسعدني الحظ بأن أعمل معك” وكيف أوضح الكاتب أنه أضاف كلمة “يسعدني” لانَّ البروفسير “لم يكن مجاملًا إلى هذا الحد”
وقد تشكلت قصة “نعام” علي أساس الشد والإحالة، إذ شُدَّ المتلقي بواسطة ركني الحكي الرئيسين السرد والحوار اللذين كانا يحيلان المتلقي إلي ما سماه غريماس بـ تضام الصور -أي دمجها- وتجميعها في مسار صوري حسي(29).
المدهش في هذه القصة هو أنَّ الكاتب أبان عن قضية جوهرية في واقعنا المعاصر وأماط اللثام عن الفجوة الحقيقية بين الجامعة وما يُدَرَّس فيها وبين الواقع العملي الذي يفاجئ به الجريج الجديد ويستشعر عمق الفجوة بين ما تم تحصيله من علوم وبين ما يمارس عمليًّا على أرض الواقع.
لقد استمرت هذه الوقفة الوصفية التي أوقف فيها المراكبي زمن السرد عند تلك اللحظة لأكثر من ثلث القصة “وهي لحظة سؤاله للخواجه” على حدِّ تعبيره، ورغم أن هذه القصة بها من الفانتازيا والواقعية والدراما والفكاهة في آنٍ جميعًا، إلَّا أنَّنا بصدد ما أطلقنا عليه “دينامية الوقفة الوصفية” في هذه القصة وقد يتساءل البعض كيف تكون “وقفة” وفي الوقت ذاته دينامية أو حركية؟!!! ؛
وحسبما نرى للإجابة على هذا السؤال أنَّ “الوقفة” تعني توقف زمن السرد عند لحظة معينة، أي أنَّ ما يتسم بالسكون فيها هو “الزمن” وحسب، لكنها “حركية” تصف أدق تفاصيل المشهد فتكون “وقفة دينامية” متحركة داخل إطار الزمن الساكن أو المتوقف لذا نرى إيماءات وحركات كثيرة فيها، فترى البروفسير “يتحدث بسعادة وثقة وحرص على إيصال المعلومة بدقة وبساطة” وترى في نفس اللحظة استخدام جميع الجوارح حركة “تشبيك الأصابع”، حركة تغير وضع الجلوس، “يهدد بسبابته” لقد كان البطل منبهرًا بالخواجة سعيد وهو يتعلم من البروفسير حتى وصف هذا الحالة “بمتعة التعلم” واستمر المركبي في هذه الوقفة الوصفية يصف بدقة كل ما فيها لقرابة نصف القصة، إلى أنْ استخدم خاصية الفلاش باك ليستحضر بعض أساتذته ويلقي عليهم باللائمة لأنَّهم جعلونا “نتقدم للخلف” فاستحضر مواقف وطرائف أستاذ البيولوجي “سليط اللسان لا يتردد في توجيه الشتائم”، إلى أنْ جاء امتحان العملي وإجابته الخاطئة وصوت الدكتور يركض خلف نظارته المقعرة “قال لي بصوتٍ عالٍ: انت هتبقى دكتور فاشل” ثم يسلط الفلاش باك على دكتور التشريح، ومراقبة الامتحانات، وكأن البيروقراطية الأكاديمية صنعت جيل من “الجهلاء المتعلمين” إن صح لنا هذا التعبير، أميز من فيهم قام بتحصيل بعض العلوم والمعارف النظرية التي لا علاقة لها بالواقع العملي.
لقد كان للوقفة الوصفية في المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” حضورًا سرديًّا رَسَّخَ مبدأ تقطيع السرد إلى أجزاء، لأنَّ القصة لم تعتمد على العناوين الفرعية وحسب في الفصل بين الأحداث مثلما هو الحال في أغلب القصص، لذا استعمل المراكبي الوقفة الوصفية بجوار العناوين الفرعية كي يفصل بين حدث وآخر ويوقف السرد عند زمن معين ليصف المشهد وصفًا تفصيليًّا بليغًا.
أن الصورة الوصفية التي ذهب إليها المراكبي في مجموعته القصصية هي التقنية التي عَرَّفها جمهور النقاد بمصطلح الوقفة الوصفية وحسبما نرى فهي تعني توقف سيرورة الزمان السردي عن المُضي في سرد الحدث أو الأحداث واستمرار ديناميته. ذلك أن السارد يتوقف أسطرًا طويلة أو قصيرة كي يصف المظهر الخارجي للشخصية القصصية وكذا الشخصية الروائية أو يصف المكان وهندسته وتفاصيله وأشياءه ثم يتابع بعد ذلك ما كان قد توقف عنه من أحداث السرد، وهو ما فعله المراكبي في أغلب قصص المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” وخاصة في تجلياته السردية لقصة “النعام” حيث وازن المراكبي بين عدة أساليب وتقنيات سردية كأسلوب الفنتازيا الساخر الذي يرسم الواقع بشيءٍ من التأمل، إلى أنْ تأخذ هذه الفنتازيا ملامح تقنية البلاك كومك “الكوميديا السوداء”، ثم يستخدم تقنية الوقفة الوصفية فيُوقف الزمن السردي كي يصف تفاصيل الشخصيات التي تتسم بالدينامية في لحظة الزمن السردي الساكن، وللخروج من هذه الوقفة، واستمرار المضي في زمن السرد يستخدم أسلوب الفلاش باك فيسترجع أحداث مرَّت في الماضي ليعوِّل على ما آل إليه الوضع الراهن، وكما قرر علماء الإدارة أنَّ الاعتراف بالمشكلة يعد بمثابة نصف الحل وغالبًا ما يكون الاعتراف بالمشكلة سببًا في حلها.
ونخلص إلى ما يلي:
***********
– حدَّد محمد المراكبي بعض المنصَّات المهمة التي رأى أنَّها لا مناص من الولوج إلى منجزه الإبداعي إلَّا من خلالها فكان لها أهميتها الاستراتيجية الخاصة كالعنوان والمؤشر التجنيسي، وكذا الإهداء للمجموعة القصصية والتي سيتم الوجوج إلى تيمة النص الابداعي وفكرته العامه من خلال هذه المواقع الاستراتيجية وكما نكرر دائمًا ليس على أنها دستورًا ولكننا نتناولها طبقًا لما تقتضية شمولية القراءة النقدية للنص.
– جاء عنوان المجموعة القصصية -“المَلِك وحده لا يكفي” للمراكبي- منتخبًا من الداخل إلى الفضاء الخارجي للمجموعة القصصية، أي أنَّه عنوانًا مرتدًا من داخل نصوص المجموعة –بوصفه عنوانًا لأحد قصص المجموعة- إلى خارجها متخذًا غلاف المجموعة مكانًا له ليضيء بطاقاته الدلالية والاشهارية للنصوص التي انتخبته عنوانًا.
– وقد أدرك المراكبي أنَّ العنوان يعبر عن هوية النص التي يمكن أنْ يختزل فيها معانيه ودلالته المختلفة، بل حتى مرجعياته وأيدولوجيته، لذا فقد أبان المركبي عن مدى قدرته كمبدع على اختيار العنوان المغري والمدهش، والممثل لنصه، وإنْ كان حسب رأينا لا يتجاوز كونه عنوانًا لأحد قصص المجموعة ولا يرتبط بباقي المجموعة القصصية إجمالًا إلَّا في خيط رفيع وهو إعمال العقل والتفكير الذي صاحب مجمل قصص المجموعة.
– ربط المراكبي بين أيقونة اسم الكاتب وأيقونة التصنيف في تتابع وتسلل حيث كانت ثالث الموجهات ترتيبًا مع المتلقي، غير أنَّه رغم هذا الارتباط فقد جاءت أيقونة التجنيس منفرة مستقلة عن اسم الكاتب والعنوان، صغيرة البنط ورغم ما تحمله من تقريرية ومباشرة لكنها مثير للجدل تعمل على تحفيز القارئ في استدعاء كل ما يخص هذا الجنس الأدبي ويستحضره في أفق انتظاره، أو ما يعرف بأفق التوقع، ولعل ما يثير استفهام القارئ في هذا المؤشر التجنيسي هو السؤال عنما تحويه تلك “المجموعة القصصية” حيث يتساءل المتلقي عن كنهها وماهيتها.
– يؤكد المراكبي في صياغته للإهداء على مبدأ تكامل المنصات التي تتفق لتصبَّ في معين واحد فتتماهى جميعًا لتتفق على الهدف الأسمى، فإذا جاء الإهداء من جنس الإهداء الخاص “إلى هؤلاء الذين تعثروا” الذين يتميزون بالصمود وهم أصحاب الهمم الإنسانية العالية، فرغم تعثرهم، إلا أنَّ إصرارهم على إعادة المحاولة أقوى، فالنهوض لديهم كان أعلى، ولذا فقد نجحوا في النهوض مرة أخرى وهنا نلمح عمومية الخصوص رغم قلة الفئة فهي لكل من تعثر ثم نهض “في هذا العالم” لننتقل بالخصوص إلى عالمية المناص، وبذلك صنع المركبي من خطاب الإهداء رسالة عالمية.
– وحسبما نرى أنَّ المراكبي بث الحكمة من خلال لعبة الذكاء وإعمال العقل ومفادها أن من أرد النصر لا بدَّ أنْ يتحلى بقسط من الصبر والمناورة والإقدام وأنَّ سرّ النجاح يكمن في الإصرار وبث الطاقات الإيجابية في النفس لرفع الروح المعنوية والتي تعد من أهم أسباب النصر، ثم ترك العنان للقارئ لإعمال العقل والتفكير ورسم النهاية التي تسنح بها مخيلته وتفكيره.
– جعل المراكبي في قصة “المَلِك وحدة لا يكفي” مبدأ التحدي ومبدأ الإقدام هما الأكثر سيادة وإنَّ الإرادة هي التي تحدد اتجاهاتنا واتجاه الحياة نفسها، بل تلك الإرداة هي سبيل لتحقيق النص إذا لامسها شيء من المثابرة والعزم والتفكير الفعال والتأهب الدائم لرود أفعال الخصم بحسابات عقلية ومنطقية دقيقة.
– هذا وقد مزج المراكبي بين التفكير والحكمة، وهو ما دعاه لانتخاب هذا العنوان الخاص بلعبة الذكاء “المَلِك وحدة لا يكفي” ليكن عنوانًا لمجموعته القصصية التي تتسم بالتفكير الفعال وإعمال العقل بشكل دائم.
– لقد كشف لنا المراكبي في فلسفته السردية لقصة “الآذان في مالطا” عن حقيقة مهمة حسبما يرى إنَّ الطبع دائمًا في الإنسان يغلب محاولات التطبع، كما يغلب على نظر صاحب هذا الطبع للآخرين؛ إنها حقائق ساقها المراكبي ضمنيًّا من خلال الوعي الفني والفلسفة السردية، أنَّ الطبع يغلب التطبع، وأن الخُلق كالخَلق لا يقبل التبديل أو التغيير، وأن من شبَّ على شيء شاب عليه، وإنَّ من يحاول الاقتراب من هذه المناطق “كمن يؤذن في مالطا.”
– لكننا في المقابل نؤمن إن تغيير العادات أمر ممكن، على خلاف ما هو شائع بين الناس من أنْ الطبع تحت الروح، ولا يزول إلا بخروج الروح من الجسد، نعم هناك مقاومات للتغير وتصحيح المفاهيم وهو أمر فطري طبقا لطبائع النفس البشرية، ولكي تنجح في تغيير طبع معين لابد من إقناع صاحبه بسوء هذه الطباع، واعترافه بها، لذا علينا أن ندرك أن تغيير الطباع ليس بالشيء الهيّن، وتبقى عدة أساسيات مهمة لتصحيح الطبائع وتعديل السلوك لدى البشر من أهمها: الحكمة، والموعظة الحسنة، ولين الجانب، والإخلاص في النصح، والتواضع، هذه الأساسيات هي المَحَك في تصحيح المفاهيم.
– اعتمد المراكبي في رسم تشظي الشخصية المحورية من خلال ضمائر الغائب، أو الأفعال الماضية الناقصة والتي أتى اسمها ضميرًا محذوفًا دائمًا (كان – هو – كانوا – هم) حيث اعتمد علي فكرة ( التلبس )، والتشويق السردي الذي يثير حافظة المتلقي ويحفزه على فعل القراءة حتى يستبين ذلك الحدث المثير الذي يعج بالدهشة والحيرة، ثم عمد إلى رسم نهاية يحفها التفاؤل رغم قتامة المشهد، لكنه نأى بالقارئ عن نهاية مأساوية حتمية، بيد أنَّه حذر من وقوع المأساة فيما بعد.
– وقد وظف المراكبي الفانتازيا لطرح أيدولوجيات من أجل تصحيح الأخطاء الاجتماعية والتاريخية في الواقع الراهن كما يراها،
– إننا نرى أنَّ كاتب الفانتازيا هو كاتب أخلاقي في الأساس، يعالج مسائل الواقع بنمط من التخيل المجازي الذي يعيد صناعة البنى المعرفية للواقع والمجتمع، وهو ما أشار إليه “ب، ي، ايتر ” حيث ارتأى أنَّه نادرًا ما يتجاهل أدب الفنتازيا المسائل الأخلاقية، إلَّا أنَّه في الوقت نفسه يُعبر عن الخبرة العميقة بخصوص كيفية الشروع بالاستنارة، فالمشكلة لا تتضمن حقائق غير معروفة بل طرائق غير معروفة في التعامل مع الحقائق، فضلًا عن ذلك فإنَّ الحقائق تفقد الاستقرارية المقنعة التي يطرحها الكاتب الواقعي، والكثير من الكُتَّاب يرون أنَّ الأدب بكافة أنواعه لا يكتب قصصًا واقعية بل اشخاصها من اختراع الخيال وهذه الآلية هي الأكثر انتشارًا في الكتابة، أي الخروج عن المالوف، لأنَّ الكتابة الواقعية لا تطل على شيء أدبي بل خروج النص عن الواقعية.
– لقد كان للوقفة الوصفية في المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” حضورًا سرديًّا رَسَّخَ مبدأ تقطيع السرد إلى أجزاء، لأنَّ القصة لم تعتمد على العناوين الفرعية وحسب في الفصل بين الأحداث مثلما هو الحال في أغلب القصص، لذا استعمل المراكبي الوقفة الوصفية بجوار العناوين الفرعية كي يفصل بين حدث وآخر ويوقف السرد عند زمن معين ليصف المشهد وصفًا تفصيليًّا بليغًا.
– أن الصورة الوصفية التي ذهب إليها المراكبي في مجموعته القصصية هي التقنية التي عَرَّفها جمهور النقاد بمصطلح الوقفة الوصفية وحسبما نرى فهي تعني توقف سيرورة الزمان السردي عن المُضي في سرد الحدث أو الأحداث واستمرار ديناميته، ذلك أنَّ السارد يتوقف أسطرًا طويلة أو قصيرة كي يصف المظهر الخارجي للشخصية القصصية وكذا الشخصية الروائية أو يصف المكان وهندسته وتفاصيله وأشياءه ثم يتابع بعد ذلك ما كان قد توقف عنه من أحداث السرد، وهو ما فعله المراكبي في أغلب قصص المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع:
***********
1- راجع: سيد فاروق: المواقع الاستراتيجية ” على خارطة النص الإبداعي “، (د.ط)، المؤسسة العربية للعلوم والثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ، مصر ، ط1، 2019م.
2- جيرار جينيت : عتبات، تر: عبد الحق بلعابد و سعيد يقطين: الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت/ لبنان، ط1، 1429هـ/2008م، ص 14.
3-Gérard Genette, Seuils, Collection poétique, Seuil, Paris, 1987 –
4- راجع: سيد فاروق: المواقع الاستراتيجية، مرجع سابق، ص27.
5- ضياء راضي الثامري: العنوان في الشعر العراقي المعاصر، انماطه ووظائفه، مجلة جامعة القادسية في الآداب والعلوم التربوية،م (9)،ع (2)،2010م، ص13.
6- راجع: د.جميل حمداوي: سيميوطيقيا والعنونة، بحث، مجلة عالم الفك، م (25)،ع(3)،يناير مارس 1997، ص96.
7- راجع: حسب الشيخ فرج: العنوان في الشعر العراقي الحديث، (د.ط)، دار ومكتبة البصائر، ط1، 2013م، ص16.
8- عبدالرحمن ابو علي: مع امبرتو ايكو، مجلة نزوى، العدد14، 1998م.
9- محمد بازي: العنوان في الثقافة العربية، منشورات الاختلاف، ط1 ،2012م، ص 18.
10- جان ماري شيفير : ما الجنس الأدبي، ت: غسان السيد، 1989م، ح.م/ اتحاد الكتاب العرب، ص 14- 15.
11- محمد عبد العال: مقال: عن النقد وقصيدة النثر، الحوار المتمدن ، العدد 1474، بتاريخ 15/9/2006م.
12- حسن محمد حماد: تداخل الأنواع في النصوص العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص 64.
13- عتبات (جيرارجينت من النص إلى المناص): ص 94 ( المقتبس ترجمة لكلام جينيت ).
14- محمد فكري الجزار: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1998 م ، ص 35.
15- مجموعة من المؤلفين: كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم،(دط)، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، ط1، 1418هـ – 1998م، ص 1065.
16- راجع: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: كتاب مجلة البحوث الإسلامية،(دط)، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، صفحة 166.
17- سورة آل عمران، آية:191.
18- راجع: عبد المجيد بن محمد الوعلان: ماجستير الآيات الكونية دراسة عقدية،(دط)، جامعة الملك سعود، السعودية – الرياض، 1433هـ – 2013م صفحة 58.
19- الوجودية هي المدرسة الفلسفية التي تتخذ من الإنسان موضوعًا لها، ليس فقط من خلال التفكير وإنما من خلال الفعل والشعور أي أنها ترتبط بالإنسان كفرد حي والوجودية تتفق على مبدأ أنه لا يوجد هدف واحد أو حقيقة واحدة يعيش من أجلها الجميع وكل فرد في الأرض له الحق والحرية الكاملة في اختيار الحياة التي يرغبها والهدف الذي يسعى له ويعيش من أجله وليس من حق الغير تحديد خيارات الآخرين.
20- مفهوم البراديغمات: يعتبر البراديغم ذاك النموذج الفكري، أو الإطار النظري لعلم ما، وهو نمط تفكير في علم ما أو العلم بصفة عامة، ويمكن اعتبار أي تخصص علمي له براديغم خاص، وهنا يمكن الإشارة أن هناك براديغمات متعددة، تخضع لمنطق ذلك العلم، سواء في الطبيعية، أو العلوم الإنسانية، فكثيرًا ما نسمع عن براديغم علم الإجتماع، الفلسفة والفيزياء، والكمياء….
– البراديغم هو: ذاك النموذج الذي يشكل البناء التحتي لفكر ما ويحدد بنيته ويطرح أسئلة حوله، فضلًا عن هذا ينظم معطياته وفق بنى ومحيطات متعددة هذا من جهة، ومن أخرى يعتبر البراديغم في الفكر السياسي، والإجتماعي العام الحديث، هو نطاق أو محيط في داخله نفكر بالمشاكل المتعلقة بالمجتمع والدولة.
21- فلسفة بول ريكو: الوجود والزمان والسرد، تر: سعيد الغانمي: (دط)المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م، ص78 ، نقلا عن ريكو: الزمان السردي، البحث النقدي، المجلد 7، 1980م، ص188.
22- سورة النحل، آية: 125.
23- ت.ي.ابتر: أدب الفنتازيا “مدخل إلى الواقع”، ترجمة: صبار سعدون السعدون: (دط)، دار المأمون، بغداد، 1989م، ص 12.
24- ينظر: شعيب حليفي: بنيات العجائبي في الرواية العربية، مجلة فصول، المجلد 16، العدد 3، القاهرة، 1994م، ص 114.
25- – ينظر: أرسطو طاليس: فن الشعر، ترجمة وتحقيق: عبد الرحمن بدوي: (دط)، دار الثقافة، بيروت، 1973م، ص 4.
26- صحيح البخاري: “أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلتُ: لا يَسْكُتُ”.
الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 5976 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح].
27- سيد فاروق: تقنيات السرد الحديثة في القصيدة المعاصرة، (دط)، نساِئمُ الشعر والأَدب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، ط1 2019م، ص 2.
28- زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، من سلسلة مشكلات فلسفية معاصرة ، (دط)، مكتبة مصر، (دت)، ص 173.
29 راجع: محمد الناصر العجيمي: في الخطاب السردي نظرية قريماس، (دط)، الدار العربية للكتاب، تونس، 1991م، ص79.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#المركــبي_واستنطاق_الحكمة_بين_الفلسفة_والتفكير:
قراءة نقدية في المجموعة القصصية “المَلِك وحده لا يكفي” للقاص د.محمد المركبي
#بقلم_ســيد_فاروق
*****
Discussion about this post