Views: 3
(طرائف لغويَّة)
ـ بين ثعلب والمبرّد ـ
حدَّث أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، قال: كنت يومًا بحضرة ثعلب،
فأسرعتُ القيام قبل انقضاء المجلس، فقال إلى أين؟ ما أراكَ تصبر على
مجلس المبرّد، فقلت له: لي حاجة، فقال لي: إنِّي أراه يقدِّم البُحتريَّ على
أبي تمَّام، فإذا أتيتَه فقل له: ما معنى قول أبي تمَّام:
أآلِــفــةَ الـنَّـحــيــبِ كـمِ افــتــراقٍ أظـلَّ فـكـان داعـيـةَ اجـتـمـاع!
قال أبو الحسن: فلمَّا صرتُ إلى أبي العبَّاس المبرّد، سألته عنه، فقال:
معنى هذا أنَّ المتحابَّيْن والمتعاشقيْن قد يتصارمان ويتهاجران دلالًا، لا
عزمًا على القطيعة، فإذا حان الرَّحيلُ، وأحسَّا بالفراق، تراجعا إلى الوداد،
وتلاقيا خوف الفراق، وأن يطول العهدُ بالالتقاءِ بعده، فيكون الفراقُ حينئذٍ
سببًا للاجتماع، كما قال الآخر:
مُـتِّـعـا بـالــفــراقِ يـوْمَ الــفــراقِ مُـسـتـجـيـريْـن بالـبُـكا والعِـناقِ
كـمْ أسَـرَّا هـواهُـمـا حَـذَر الــنَّــا سِ وكـم كـاتَـما غلـيـلَ اشتـيـاقِ
فـأظــلَّ الـفِـــراقُ فـالـتـقــيـا فــيــــــه، فِـراقٌ أتــاهُــمـا بــاتِّــفـــاقِ
كـيـف أدعو على الـفِـراق بحتفٍ وغــداةَ الـفِـراقِ كـان الـتَّــلاقي
قال: فلمَّا عدتُ إلى ثعلب سألني عنه، فأعدتُ عليه الجوابَ والأبياتَ، فقال:
ما أشدَّ تمويهَه! ما صنع شيئًا، إنَّما معنى البيت: أنَّ الإنسان قد يفارق
محبوبه رجاءَ أنْ يغنمَ في سفره، فيعود إلى محبوبه مستغنيًا عن التَّصرُّف
فيطولُ اجتماعه معه، ألا تراه يقول في البيت الثَّاني:
ولـيـسَـت فــرحــةُ الأوبـاتِ إلَّا لـمَـوْقـوفٍ على تَــرح الـوداعِ
وهذا نظيرُ قول العبَّاس بن الأحنف، بل منه أخذ أبو تمَّام:
وأطلـبُ بُعدَ الدَّار عنكم لِـتـقـرُبوا وتسكبُ عينايَ الـدُّموع لـتجـمُدا
هذا هو ذاك بعينه.
(معجم الأدباء لياقوت الحموي ج2 ص 548، ومعاهد التنصيص على
شواهد التلخيص للعبَّاسي ج1 ص19 بتصرف)
قلت: في قوله:
أآلِـفـةَ الـنَّـحـيـبِ كــم افــتــراقٍ أظَـلَّ فـكـان داعِـيَـةَ اجـتـمـاعِ
إنَّ هذا القول فيه المواساةُ والتفاؤلُ بأن يكون الفراق سببًا للقاءٍ جديدٍ يجلب
الوصل والسَّعادة الدّائمة؛ لأنَّ أطيب الوصل لا يكون إلَّا بعد الاشتياق
والتلهُّف للِّقاء بعد الانقطاع. وكنتُ قد عبَّرتُ عن هذا المعنى بالقول:
لا تــقــلْ يَــوْمُ الـــوداعِ إنَّــــه يـــومُ الـلِّـــقــاءِ
إنْ تـــنــــاءتْ بــكَ دارٌ فـالهـوى لـيْس بـنائي
يـعـبَــقُ الــوردُ شَــذيًّـا بـعـد تـبـريـحِ الـشِّتاءِ
يـولَـــدُ الــبــدرُ فَـتِـيًّــا بـعــد إظــلام الـمَساءِ
يـبــزغُ الـفـجْـرُ جَـلِـيًّا بــعـد لـيْـلٍ وانـكِـفــاء
ويُـشار الـشَّـهـدُ حلـوًا بعــد لَـسـعٍ واعـتــداء
ويـمورُ الـشَّوقُ بعد الـــــــهَـجـرِ يـبـري والعـناءِ
فـيَـعـود الـوصـلُ فـيَّــا ضًا بأسباب الهـناءِ
والمعنى يحتمل أكثر من وجه. والله أعلم.
محمد عصام علوش
11/3/2022م
Discussion about this post