Views: 24
فلسفة المجاز بين التوهج والمجانية في نصوص النثر
قراءة نقدية في المجموعة النثرية “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ”
للشاعرة ناهد بدران
بقلم سيد فاروق
***********************************
توطئة
****
لقد نشط فن الترجمة، في منتصف القرن الماضي فأصبح الأدب العالمي متاحًا وفي متناول الجميع، وظهرت أصوات تنادي بالتجديد والتحديث، فكان الشعر الحر / التفعيلة / وأول من طرق هذا الباب الشاعرة والأديبة العراقية نازك الملائكة، فكان لها السبق في نشر قصيدتها الشهيرة “الكوليرا” حيث استخدمت تفعيلة واحدة بنصها وهي تفعيلة بحر المتدارك وتخلت عن القافية، وقد لاقت الكثير من المعارضة والإنتقاد، وكأنها مسَّت كتابًا مقدسًا أرادت تحويره، إلى أنْ لاقت صدى تجربتها، وأبدع الكثير من الشعراء بهذا الاتجاه الجديد.
وفي عام ١٩٥٧م قدَّمت أطروحتها الأديبة الفرنسية سوزان برنارد، عن الشعر الحديث ونالت رسالة الدكتوراه بذلك، وظهر بعدها ما يعرف بقصيدة النثر.
فكان من روادها الأوائل الشاعران السوريان أدونيس، محمد الماغوط، والشاعر المصري أمل دنقل وغيرهم.
أمَّا شيخنا العقاد فقد كان له موقف حازم من الشعر الحر ناهيك عن ما يعرف بقصيدة النثر حيث ظهر العقاد في التلفزيون القومي لجمهورية مصر العربية وقال بصوت واضح وبانفعال شديد كأنه يسمع الصم، وينبه الغافل فأطلق الرصاصة الأخيرة صوب الهدف: (الشعر الحر ده مش شعر، الشعر الحر ده كلام فارغ).
فيما رأى بعض النقاد أنَّ ما يعرف بالقصيدة النثرية: هي حالة أدبية رائدة، أو نص، لأن القصيدة العربية لها شروطها وهي البحر الشعري، والقافية، والغاية، أي الغرض “هجاء، مديح، رثاء ،… “.
في المقابل وعلى الوجه الآخر عرَّفت سوزان برنارد ما يعرف بقصيدة النثر على النحو التالي:
هي: قطعة نثر، موجزة، بما فيه الكفاية، موحدة مضغوطة، كقطعة من بللور، خلق حر ليس له من ضرورة، كما أنَّها مجانية، وتعني مفردة مجانية أي ليس لقطعة النثر غرض شعري واضح كما في الشعر؛
فهي تبنى حسب رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كل تحديد وقيد، شيء مضطرب، وإيحاءات ﻻ نهانئية.
أننا نقول أن النصوص النثرية بعيدًا عن إشكالية المسمى هو نمط فني أو جنس أدبي جديد له رواده وكُتَّابه ومريديه، لا يضير كاتبه إذا كان قصيدة أو نصًّا طالما أنَّه نمطًا فنيًّا تمت إجازته طبقًا لقوانين الأجناس الأدبية المتعارف عليها والمعايير الفنية المعمول بها في تحديد الجنس الأدبي، فإذا كان النثر قد دخل سباق الإبداع، فعلى الكاتب أنْ يجود في إبداعه لأنَّ المبدع في الأساس هو من يقدر على إدهاشك كمتلقي.
ومن هنا نبدأ القراءة النقدية لمجموعة النصوص النثرية للأديبة السورية ناهد بدران “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ”والتي ستكون من خلال العناصر التالية:
– قراءة في العنونة والإهداء
– المجاز بين التوهج والمجانية
– الخيال بين الإبداع والمستوى الجمالي.
– القضايا القومية بين التكثيف والرمز
قراءة في العنونة والإهداء
******************
وهما -العنونة والإهداء- يدخلان ضمن مفهوم عتبات النص أو النصوص الموازية والتي أطلقنا عليها وعرفناها بمصطلح “المواقع الاستراتيجية” (١) وقد تعامل جنيت مع شاعرية النص انتقالًا من صيغته أو شكله الخطابي إلى أجناسه ثم إلى عتباته عاملًا في ذلك على المتعاليات النصية حينًا واخرى على المصاحبات النصية.
كما يدخل كلًا من العنوان والإهداء ضمن مجموع اللواحق أو المكملات المتممة لنسيج النص الدال، ذلك لأن كل منهما يعتبر خطابًا قائمًا بذاته له ضوابطه وقوانينه التي تقضي بالقارئ إلى القراءة الحتمية للنص(٢)؛
إنَّها حتمية ناتجة عن فضول أو افتتان أو ولوع أو عن حب للاطلاع والمعرفة أو هي محاولة لإشباع الذات في أولى المواجهات مع النص والتي تحفز القارئ وتستثير حافظته لسبر أغوار النص.
وقد أهتم جنيت بهذا الموضوع معتبرًا إياه كل “ما يصنع به النص من نفسه كتابًا ويقترح ذاته بهذه الصفة على قرائه وعمومًا على جمهوره”(٣)
إنَّ طريقة تنظيم بنية النص الخارجي يعتبر شكلًا من أشكال معمار العمل الإبداعي، وطبيعة البنيات المصطفة والمتراصة تتفاعل وتتآلف لإضفاء طابع خاص في تأثيث فضاء النص، وعند التأمل في بنية النص ” لا يمكننا الانتقال بين فضاءاته المختلفة دون المرور من عتباته، ومن لا ينتبه إلى طبيعة ونوعية العتبات يتعثر بها”(٤).
وبالتالي فإنَّ من يتعثر يالعتبات يخطئ الطريق إلى الأبواب وعند الدخول لمحراب النص يبقى خارج فضاءه، ومن هنا جاءت أهمية قراءة المواقع الاستراتيجية واسهامها في فهم النص وفك شفراته وإضاءته.
العنونة
****
لقد شكَّلت العنونة في الأدبيات المعاصرة بابًا مهمًا من أبواب الدراسات النقدية الحديثة التي طرقها النقاد بأطراف أقلامهم فتنبه إليها أصحاب النصوص الأدبية، فأصبحت في نصوصهم فنًّا وصناعة بعد أنْ كان العنوان لا يعطى تلك الأهمية أنَّه أصبح يمثل موقعًا استراتيجيًّا مهمًّا على خارطة النص الإبداعي “بوصفه المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليها لكشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلك العنوان”(٥).
وقد أصبح نتيجة لذلك بمثابة البوابة الأولى التي تضيء للناقد طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، فهو مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي(٦).
وإذا يمارس العنوان فعله السابق في إضاءة النص والكشف عن روحه كعتبة أولية ومفتاحًا ناجحًا في فهم أولي للنصوص التي يتبوأ عليها، فهو من جانب آخر يمارس فعل الإغواء والتعيين والوصف(٧).
فيما يرى رولان بارت أنَّ العنوان “عبارة عن أنظمة دلالية سيميولوجية تحمل في طياتها قيمًا أخلاقية واجتماعية وإيديولوجية”(٨).
أمَّا العنوان الذي أطلفته الشاعرة ناهد بدران لمجموعة نصوصها التي بين أيدينا “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ” فهو يحمل رسالة خاصة إلى شخص لم تفصح عنه وذلك ما جعله يوشي بشيء من الترميز والإبهام رغم مباشرته وتقريريته التي جاء بها، وكذا يحمل نوعًا من الفلسفة التي تثير التساؤلات لدى القارئ، الأمر الذي يجعل المتلقي في حيرة من أمره، فمن هو المعني بالضمير “لك” إنَّه شخص معلوم لدى الكاتبة لكنه مجهول للقارئ، كذا ماذا أعطى الشعر للكاتبة ؟!!! ، وماذا أخذ؟!!!، وكيف تكون الهبة في عطية الشعر وأخذه لهذا الشخص المجهول المعلوم.
إنَّ أغلب العناوين التي تثيرالتساؤلات لدى المتلقي مثل العنوان “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ” هي التي تضع القارئ في حالة من حالات الإغواء والإغراء القصدي المتعمد التي تستثير حافظة القارئ لفك رموز تلك المناوشات التي صنعها خطاب العنوان، كما تستثيره لإضاءة ما توارى منها للوقوف على حلٍّ لتلك الأسئلة التي داعبت فكر القارئ مما جعلته متأهبًا متشوقًا للمضي قُدمًا في سبر أغوار النص الإبداعي.
الإهداء
****
يعد الإهداء عتبة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، يرجعها جيرار جينت إلى زمن الإمبراطورية الرومانية القديمة، وأهم ما “يفرق بين الإهداءات القديمة عما نعرفه الآن، هو أنَّ الإهداءات في السابق كانت تتموضع في النص ذاته أو بدقة أكبر في ديباجة النص/ الكتاب، أمَّا الآن فهي تسجل حضورها الرسمي والشكلي في النص المحيط ” (٩)، ويعني هذا أنَّ للإهداءات وظائف تداولية وتأويلية وتفسيرية، غير الوظائف المرتبطة بالتقدير والعرفان.
لا يخلو الإهداء من دلالات قصدية، غير أنه من المتعاليات النصية المصاحبة للنص والمحيطة به؛ فهو عتبة نصية مهمة “تحمل داخلها إشارة ذات دلالة توضيحية” (١٠).
يعد الإهداء فعل إخبار من الكاتب للقارئ، وكأنه يقول له: لقد أهديت هذا العمل إلى فلان، لكنَّه ليس فعلًا لازمًا للأعمال الإبداعية بالضرورة، بما أنَّ عددًا كبيرًا منها قد يغيب عنه الإهداء تمامًا؛ (١١).
الإهداء يحدد علاقة الكاتب مع الأخرين أو المُهدي بالمُهدى إليه فهو بمثابة رسالة يبثها الكاتب إلى من يحمل لهم مشاعر معينة أو يرتبط بهم بعلاقة محددة أو ربَّما علاقة الكاتب بالمظاهر الكونية والأشياء الحسية والمعنوية في آنٍ جميعًا.
وقد كان الإهداء عند ناهد بدران في مجموعة النصوص النثرية “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ” كما يلي:
الإهداء :
عصارةٌ من ألمٍ معجونٍ بالفقهِ
رتّبتْ سطورنا مرّة تلو مرّة
ونظفتْ عدساتِ المقل … لننظر للبعيد
عصارةٌ فيها مرارةُ الفقدِ و حلاوةُ التّواصل
و ما بين البينِ قلوبٌ تنزفُ و تبتسم .
أقدم حروفي المتواضعة إلى أسرتي
إخوتي و زوجي تثمينًا لدعمهم لي في مسيرتي الأدبية
و إلى كل صديق تركَ عطراً من باقات ذائقته
بين بتلاتِ سطوري
دمتم النّبض الذي يجوهر الحرف.
******
لقد جاء الإهداء يحمل خارطة تفصيلية توضيحية لمضمون التجربة الإبداعية للكاتبة ناهد بدران فأوضحت فيها أن التيمة العامة لتجربتها هي “عصارةٌ من ألمٍ معجونٍ بالفقهِ” على أنَّ هذه العصارة الفكرية الموشومة بالألم المختمرة بالفقة ترتبط بخطوط عريضة تحمل المفارقات فهي بين الفقد والتواصل، بين نزفٍ و تبسمٍ، ربَّما يحيلنا هذه التضاد إلى موقع التجربة الإبداعية وتواجدها في المنطقة الرمادية الوسطى وهي منطقة البين بين هذا من جهة؛
ومن أخرى جاء الإهداء ليوطد مفهوم الترابط الأسري والعلاقات الاجتماعية فكان إلى الأسرة الأخوة والزوج “تثمينًا لدعمهم لي في مسيرتي الأدبية” هذا الإهداء يوضح مدى عرفان الكاتبة ناهد بدران بالجميل لأسرتها التي دعَّمت تجربتها، ثم حدد الإهداء أيضًا علاقتها بمجتمع الأصدقاء وهم كل صديق كان له بصمة على أحرفها ” إلى كل صديق تركَ عطراً من باقات ذائقته بين بتلاتِ سطوري” هؤلاء هم الروح التي تحيي الحرف وتمده بالنبض وتضفي عليه رونقًا وتألقًا “دمتم النّبض الذي يجوهر الحرف”.
وحسبما نرى أنَّ الإهداء عند ناهد بدران كان للتجربة الإبداعية ذاتها فحدد ملامحها وما تحمل من تضاد، لأن طبيعة الإنسان لا تستقر على حال فهي بين حزنٍ وفرح، بين بعدٍ وتواصل، كما كانت رسائل الإهداء لكل من له علاقة بتلك التجربة من بعيد أو من قريب، فهو من جنس الإهداء الخاص المقتصر على كل من قدم يد العون والدعم والمساندة في مسيرتها الإبداعية، فقد أختصت من العائلة الأخوة والزوج لدعمهم تلك المسيرة الزاخرة، كما أختصت من الإصدقاء كل من كان له بصمة أعطت لحرفها حياة نابضة كانت بمثابة الضوء المتوهج الذي أقتبس حرفها من نوره.
إنَّنا نرى مدى ارتباط ناهد بدران بمحراب القلم وقداسة الكلمة في مسيرتها الإبداعية من خلال خطاب الإهداء، كما نلمح هذا الاتباط أيضًا من خلال انتقاء الكاتبة من الأسرة ومجتمع الأصدقاء كل من هو داعم لموهبتها فمن خلال خطاب الإهداء والرسائل التي بثتها لتعبر عن مضمون كتاباتها، وكذا العرفان والتقدير للأسرة والأصدقاء الذين اهتموا بتجربتها وأعاروها دعمًا ومساندة فكانوا النبض والجوهر لأحرفها.
المجاز بين التوهج والمجانية
********************
يُعد استخدام أسوب المجاز اللغوي في النصوص الأدبية من أهم ما يميز النص الأدبي ويضفي عليه شاعرية خاصة بما يتميز به من الدلالة المتعددة التي تنماح عن الدلالة المعجمية للمعنى وهو ما يسمى انحراف اللغة عن مسارها الطبيعي وهو ما يؤكد عليه جون كوهين حيث قال “وظيفة الشعر الإيحاء”(١٢).
إنَّ ما يسمى بقصيدة النثر يبنى أساسًا على المجاز، والتشظي فهو نص يكتب في نظام الفقرات، يركز على الصور والاستعارات، يتخلى عن الوزن والقافية، كما تحتوي كنايات سردية تعتمد في المقام الأول على اللعب باللغة، وانزياح الألفاظ عن معانيها المعجمية، كما يستخدم تقنيات فنية مثل التكرار والتكثيف والاختصار، أما بالنسبة لمجموعة النصوص النثرية “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ” لـ ناهد بدران فقد تجلى فيها المجاز والتوهج بشكل كبير لننظر على سبيل المثال في مستهل نص “ودقُ السّلام” حيث تقول:
****
يا أطيافًا زمرديّة
تزورُ رقعةَ السّوادِ بأبيضِ المنى
تغسلُ أصابعَ اللّيلِ برذاذِ النّدى
بهمسِ الوردِ وقصصٍ كتبها الشّذى
موسومةً برحيقِ المحبة
مرصوفةً على خلجانِ الرّوح
فسيفساءُ القلبِ الغارقِ بتأملاتهِ
على رصيفِ الشّمسِ
يقطفُ نبذةً من شعورها
في سلالِ الشّهب ..
ورداً من ممالكِ النّور
تتفتّحُ عيونهُ تحتَ ظلالِ القمر
مسقيّ من طيباتِ الكوثر …
***********
إننا نشير دائمًا إلى أنَّ الشاعرية تعتمد في المقام الأول على المجاز اللفظي وترجع أهمية ذلك الاعتماد إلى ما تصنعه لغة المجاز من انزياح دلالي وهو الأمر الذي يفترض أنْ لا يستغنى عنه الشاعر.
ومن ثمَّ فقد اهتم كوهين بما يعرف بالأسلوب وأقر بأنَّ الشاعرية مرتبطة به، لأنَّه يمثل انزياح اللغة الشاعرية عن طبيعتها، وهو ما يؤول في النهاية إلى لغة المجاز فالأسلوب عنده “هو كلام ليس شائعًا وليس عاديًّا ولا مطابقًا، للمعيار العام المألوف، ويبقى مع ذلك الأسلوب مؤثرًا في الأدب ويحمل قيمة جمالية، إنَّه انزياح بالنسبة للمعيار العام”(١٣).
إنَّ التجربة الإبداعية في النصوص النثرية للشاعرة ناهد بدران تؤكد على ما ذهب إليه أنسي الحاج من شروط لما يسمى بالقصيدة النثرية والتي حددها في “الإيجاز- التوهج ـ المجانية” كما تؤكد أيضًا على حضور المجاز بشكل ملحوظ والذي يتجلى في أغلب جُمَل النص فنرى الشاعرة تجسد الطيف وتنادي عليه “يا أطيافًا زمرديّة – تزورُ رقعةَ السّوادِ بأبيضِ المنى – تغسلُ أصابعَ اللّيلِ برذاذِ النّدى” أنها تحاكي الطيف تارة وتناديه وأخرى تشخصن الليل وتغسل أصابعه بتلك الأطياف وثالثة تسمع للورد همسًا “بهمسِ الوردِ وقصصٍ كتبها الشّذى” ورابعة يكتب الشذى قصصًا موشومة بخاتم من رحيق المحبة ثم تتفاعل الجوارح مع المظاهر الكونية فترى القلب غارقًا “بتأملاتهِ على رصيفِ الشّمسِ” أنه يقطف من الشعور ورد النور لتتفتح عيونه تحت ظل القمر يسقى من “طيباتِ الكوثر” وهنا نلمح حالة من حالات التأمل النورانية في كافة منابع الضوء فالقلب على رصيف الشمس يقتبس الوهج والدفء ثم يستمد من ظل القمر هالات الضوء الناصح.
إنَّنا من خلال مطالعة نصوص ناهد بدران نلمح عبورًا خارجًا عن نطاق الزمان وهو ما يشير إلى المجانية المنوه عنها في خصائص النصوص النثرية أي “اللازمنية” إنْ جاز لنا هذا التعبير، كما نلمح هذا التكثيف والذي سنتكلم عنه باستفاضة فيما بعد، إنَّ الجمل الشاعرية لدى الشاعرة محملة بكم هائل من المجاز اللفظي وهو ما يحيلنا إلى الإيجاز الذي ذكرناه سالفًا، ثم حالات الإشراق المتتابعة في النص بين الشمس والقمر، وهو عين التوهج، أمَّا عن الحالة الوجدانية للنص فيكفي أنَّ قصص الشذى مرصوفةً على خلجانِ الرّوح، ناهيك عن سباحة القلب في مرايا الكون متأملًا.
ثم تكمل الشاعرة ناهد بدران رحلة التأملات في نص “ودقُ السّلام” بتصعيد حالة السابحة الفكرية في مرايا الكون فتتساءل:
********
هلّا صافحتَ الوردَ بكفّ الرّؤى؟؟
ستداعبُ أنفاسَكَ نهنهةُ الشّوق
تحتَ أوزانِ قصيدته ..
تشاكسُ الموجَ المقفّى على
امتدادِ البحور
تلبسكَ تويجاتهُ قشيبَ المرمر
أبيضَ الشّغافِ .. عقيقيّ اللّمى
لؤلؤيّ البوح
نسغهُ يغذّي شرايينَ الإنسانية
فاحتكموا إلى الوردِ إن عربدَ الشّوك ..
إن تشقّقتِ التّربُ و لفظتْ جذورها
أخيطوها بوردة
ما أحوجَنا .. لكفٍّ رهيفةٍ
تلملمُ بعثرةَ أعراقنا في بوتقة
تمزجُ ألوانَ وجوهنا
لتعودَ بيضاءَ كما كانت
خلفَ غطْرسةِ موشور …
الحبّ هو الله ..
هو العبادةُ الأسمى
كما الصّلاةُ تغسلُ حيطانَ الحقد
بودقِ السّلام
لتنمو تباشير النّورِ في رئةِ اللّيل
و تطغى أبجديّةُ العطرِ
و قبلاتُ الوردِ تمهرُ خدّ الزّمان …
و تسري في خدرِ النّفوس .
********
إنَّ النصوص النثرية تحمل في جوهرها أهمية خاصة تتمثل في ميلها إلى الإحياء الجزئي للأصوات الضائعة، التي دأبت أجيال من الكتّاب والنقّاد على اعتبار كلامها النثري وصراعاتها اليومية التي ظن البعص عدم جدواها وأنها غير جديرة بالاهتمام.
بيد أنَّ هذا النمط الفني أكَّد أهتمامًا فائقًأ من قِبَل العالم النثري واندماجه في المجتمع وقضاياه وتعبيره عن الموضوعات المادية في الحياة اليومية وفي انسجامها مع التوتر الذي يشير إليه إسمها كما يطلقون عليها “قصيدة النثر” لذا فقد مالت إلى إلزام نفسها ليس فقط بالصراعات الجارية داخل النوع الأدبي بالمعنى الإجمالي الضيّق، بل أيضًا بالصراعات السياسية الاجتماعية والطبقية فأصبح الصراع هنا له جدوى يهتم بها كثيرًا من كُتاب ذلك النمط الفني الجديد نسبيًا، أنَّه الصراع من أجل سلطة الكلام لاستبيان الحقائق وكشف المضمون وصولًا إلى التيمة العامة للنص حسب رؤية الكاتب.
لقد كشفت ناهد بدران عن حقائق مهمة نقلتها من حالة اللا وعي إلى حالة تمام الوعي كي تبث ما خلد في خلجاتها من موروث قيمي ومعتقد ذاتي فالشعر، بطبيعته، “ينطوي على الكشف” – كما يقول غوته (١٤)؛
إنَّه حين يتناول الجزء المفرد في طابعه الحي إنَّما يستبصر، فتتجلى الحقيقة عيانًا بلا حجاب، في الوقت نفسه، استبصارًا ضمنيًا بالكلِّي الفعال المبدع في كلِّ شيء حي.
إنَّ خطاب الشاعرة ناهد بدران للأخر بهذا السؤال المفاجئ “هلّا صافحتَ الوردَ بكفّ الرّؤى؟؟” يؤكد على أنَّ: الانزياح بهذه الرؤية له مفهومًا عميقًا متسعًا جدًّا، يجب تخصيصه من خلال التساؤل عن علة أنواعه جماليًّا، ويمكننا الإشارة من خلال عدة اسهامات نقدية إلى أنَّ شعرية كوهين تحددت بالانزياح الذي اعتبر الدعامة الأساسية التي ارتكز عليها في مفهوم الشعرية من خلال بحثه عن نقاط مشتركة بين مختلف انزياحات سواء كانت صوتية أو دلالية، وهذا بغية خلق لغة شعرية تتسم بالإيحائية الدلالية التي تختلف في مجملها عن المعيار العام للغة.
تتأرجح الشاعرة بين المجاز والتوهج لتصل بنا إلى بيت القصيد الذي ينبع منه الضوء فيزداد المعنى توهجًا وألقًا فبين التشظي المتأمل تنتقل من حالة انعدام الوعي “اللا وعي” إلى حالة الوعي الكامل لتقرر حقيقة مهمة “الحبّ هو الله ..” تلك هي الأية الكبرى “كما الصّلاةُ تغسلُ حيطانَ الحقد – بودقِ السّلام – لتنمو تباشير النّورِ في رئةِ اللّيل – و تطغى أبجديّةُ العطرِ – و قبلات الوردِ تمهرُ خدّ الزّمان … – وتسري في خدرِ النّفوس .” هنا محراب القصيد ومنابع الضوء، وإشراقات التوهج ومسك الختام وأنس الروح وسجود الأبجدية التي جعلت قبلات الورد تُمهر خد الزمان بخاتم العطر المخضب بالضوء في أبهى صور التوهج.
الخيال بين الإبداع والمستوى الجمالي
**************
أنَّ الخيال في الأدب عمومًا وفي الشعر على وجه الخصوص هو اللغة المعتمدة التي يجب أنْ يبنى عليها النص الإبداعي والخيال عند الأدباء يقوم على شيئين:
الأول: دعوة المحسوسات والمدركات أمَّا الشيء الثاني فهو عملية بنائها من جديد من خلال رؤى الأديب وملكته الإبداعية، وقد حظى موضوع الخيال في الخطاب الإدبي اهتمامًا كبيرًا لدى النقاد في مقارباتهم النقدية ومساجلاتهم الأدبية والتي سنعرض بعضًا منها فيما يلي:
فحسبما يرى (كول ريدج) أنَّ الخيال هو القوة السحرية التي توافق بين صفات متنافر وتظهر أشياء قديمة ومألوفة بمظهر الجدّة والنضارة أي أنَّه اجتماع حالة غير عادية من الانفعال بحالة غير عادية من النظام(١٥)،
كما يعرفه أيضًا في موضعٍ أخر بكونه قوة تركيبية تشيع نغمًا وروحًا ، حيث يقوم بزج وصهر الملكات الإبداعية واحدة بالأخرى وتكشف هذه القوة عن نفسها بتوازن الصفات المتنافرة وأشاعة الانسجام بينها أي أنَّه عبارة عن حالة عاطفية غير عادية وتنسيق فائق للعادة (١٦).
فيما يراى الدكتور شوقي ضيف أنَّ الخيال: هو عبارة عن ملكة يستطيع بها الأدباء أنْ يؤلفوا صورهم (١٧)،
أمَّا ورد زورت يقول في تعريفه للخيال هو “تلك القدرة الكيمياوية التي تمتزج بها العناصر المتباعدة في أصلها والمختلفة كل الاختلاف كما تصير مجموعة متألفة منسجمة” (١٨).
وارتكازًا على ما سبق فإنَّنا نرى أنَّ الخيال طاقة روحية وملكة إبداعية محملة بالإحساس والمشاعر الوجدانية التي تنزاح بطبيعتها في رؤيتها للأشياء والمظاهر الكونية، كما أيضًا تصف تلك الطاقة الروحية الشعور والأحاسيس وتفاعل الإنسان مع الطبيعة من حوله بشكل مبتكر يمثل خلق إبداعي إن صح التعبير.
أمَّا الخيال في النصوص النثرية لناهد بدران فقد جاء محمل بطاقاته الإيحائية ولغته المائزة التي تنزاح بطبيعتها عن اللغة المعجمية بشكل لافت ومائز، لنرى على سبيل المثال نص ” صهيلُ الشّمس” حيث تقول:
****
صمتٌ في عِواءِ الرّيح
يقصّ مواسِمَ الغناءِ المبحوح
يسرجُ مواعيدَ الرّبى لحلمٍ أخضرَ
يصهلُ في أثيرِ نبوءاتٍ غامقة
جبٌّ عميقٌ تلقّفَ أبناءَ النّور
وأطبقَ أنفاسَهُ على حديثِ الشّمس
فكمّمتْ أشداقَ صيفِها وأحرقتْ وشوشاتِ
الغيمِ المرتّبةِ على حزنِ الشّغاف …
بضعٌ من شوقٍ نذرتهُ القوافي على
مرمرِ الدّربِ التّائهِ …
تحصدُ منَ اورقاقِ الحلمِ صفرةَ الهشيمِ …
لجامُ السّحابِ مقطوعُ الأمل
عاصفةٌ بعثرتْ ملامحَ الغيثِ في الخواء
تختَّر النّدى قبلَ أنْ يلاطفَ الورد
ألفُ عينٍ مكحولةٍ بالحسرةِ ..
تسألُ ضريرًا عن مترجّلٍ شقّ سَرجَ اليقين
ثمّةَ أبكم يترجمّ الصّمتَ في حديثِ
الشّوقِ المتسامي ..!!
*****
وهنا نجد الشاعرة في هذه القطعة النثرية الفنية التي جعلت للشمس صهيل في أولى المواجهات نجدها تسبح في بحر الخيال بالاضافة إلى النظرة الفلسفية التي نلمحها من خلال النص تتضح لنا براعة الشاعرة في نسج الصورة التي تموج بالحركة والحياة اعتمادًا على سعة الخيال التي تمتلكها والتي تتجلى لنا من خلال الصور المبتكرة التي أتت بها مما يؤكد لنا القدرة الفنية التي تمتلكها الشاعرة.
تُرى بما يتكلم الصمت في عواء الريح “يقصّ مواسِمَ الغناءِ المبحوح” ينير مواعيد الرُبى لحلم لم يزل في المهد فهو إلى الآن أخضر “يصهلُ في أثيرِ نبوءاتٍ غامقة”
“جبٌّ عميقٌ تلقّفَ أبناءَ النّور – وأطبقَ أنفاسَهُ على حديثِ الشّمس – فكمّمتْ أشداقَ صيفِها و أحرقتْ وشوشاتِ – الغيمِ المرتّبةِ على حزنِ الشّغاف …”
تؤكد الشاعرة في هذا النص على أنَّ للرمزية حضور جميل وجلي فيما يسمي بالقصيدة النثرية، وكثيرًا ما تتكئ على الخيال الخصب مما يزيدها جمالًا، كما أنَّ الحالة الحركية التكثيفية التي صنعتها ناهد بدران جعلت القارئ يشعر بالإيقاع حيث لامس من خلال القراءة حالة إنسيابية في الجملة الشاعرية، المسبوكة بعناية فائقة، فقد عمدت الشاعرة إلى استخدام مفردات حداثية تتوافق والنص النثري، متكئة على الرمز والتكثيف ولغة المجاز، فدفعت بكم هائل من الصور والتشبيهات المبتكرة التي صنعت حالة من الدهشة والصدمة لدى المتلقي، فلا يكاد يستوعب صورة وتشبيهًا حتى يفاجئ بتشبيهات أخر متتالية وهو ما يوشي بأنَّ ناهد بدران تمتلك خيالًا خصبًا وملكة إبداعية فريدة في صياغتها للنصوص.
إنَّ الشاعرة ناهد بدران عندما تنظر إلى مظاهر الطبيعة ذاتها فتكون نظرتها مختلفة عن الإنسان العادي وهو ما يجب أنْ يكون عليه حال الأديب، فيما نرى أنَّ الشاعرة تنهال عليها طائفة من المشاعر يثيرها خيالها عندما تتأمل تلك المظاهر الكونية المتمثلة في “الريح – النور – الشمس – الغيم – الندى – الورد ” تلك المشاعر التي تبثها الشاعرة توضح لنا جانبًا من أسرار الطبيعة وصلتها بالنفس الإنسانية في هذا المظهر أو ذاك وتتوقف قيمة النص على مقدار الخيال الذي يحمله، ولا تكاد الشاعرة تترك شيئًا في الطبيعة إلَّا وتنفث فيه عواطفها وخواطرها ومشاعرها فالريح عندها تعوي، والغيم مرتبك على حزن الشغاف، أمَّا الشمس فما أجمل حديثها وهو يحرق وشوشات الغيم والشاعرة تقف بجانب كل هذا مترقبة العاصفة وهي تبعثر ملامحَ الغيثِ في الخواء وترى الندى يتختر قبل أنْ يلاطف الورد، ثم كيف للعيون المكحلة بالحسرة أنْ تسألُ ضريرًا عن مترجّلٍ شقّ سَرجَ اليقين؟!!!، ثم كيف الأبكم يترجم الصّمت في حديثِ الشّوقِ المتسامي؟!!!، قد تبدو لنا حالة الوجد الشديدة والمعاناة التي تعانيها الذات الشاعرة فتتراءى لها المظاهر الكونية تشارك وجدانها تئن معها وتصرخ في صمت وتسأل لكن كيف يجيب عن صورة مرئية الأعمى وكيف يفسر الأبكم الصمت؟!!!
ثم تتابع ناهد بدران حالة التشظي للشعور المبعثر المتنامي وجْدًا والعابث في ذاكرة الحنين فتقول:
*****
غبارٌ في شرنقةِ الذّاكرةِ .. ينفضهُ الحنين
و عذريّةُ الجّوري يفضّها شوكُ الغياب
أيّ جناحٍ عرّجَ بطيفكَ سدرةَ النّسيان
هيتَ لكَ صهوة بتولُ
نداءٌ يصلّي فوقَ وجعِ الياءاتِ
المكلومةِ بسهمِ الصّد …
ملحٌ يغسلُ وجهكَ القمحيُّ من
غرورِ الشّمس ..!
عربدتْ ظلالُ الألمِ تغرغرُ بماءِ العين
جرحٌ في كاحلِ الأملِ ينزّ
و بريقٌ في خواطرِ التّوقِ
ترمّمُ معابرَ الخطوات
حينَ تمسحُ نبوءةَ وجهكَ
بأكفِّ النّور .
****
وحسبما يرى بودلير أنَّ الخيال قوة خالقة تحليلية تجميعية معًا وله دور كبير في تعليم الإنسانية الأولى معنى الرموز في الطبيعة إذ بث فيها الروح الخلقية والشعرية عن طريق الأساطير وهنا يتفق بودلير مع كَانْت في سيطرة الخيال على جميع الملفات الأخرى ولا غنى عنه في العلم نفسه (١٩).
فيما ذهب عبد الرحمن شكري برؤيته للخيال على أنَّه كل ما يتخيله الشاعر في وصف جوانب الحياة وشرح عواطف النفس وحالاتها والفكر وتغلياته والموضوعات الشعرية وتباينها والبواعث الشعرية وهذا كله يحتاج إلى خيال واسع لذلك نجد أنَّ الخيال لدى عبد الرحمن شكري يكون مقترنًا بالعاطفة كما هو الحال لدى سابقه كول ردج وأنَّ وصف الأشياء لا يكون شعرًا ما لم يكون مقترنًا بعواطف الإنسان وفكره وأمانيه (٢٠).
يا لها من من صورة مائزة حين ينبش الغبار شرنقة الذاكرة فإذا كان الغبار هو الحاجز للأشياء فكيف له أنْ ينفض الحنين؟!!!
أما عذرية الورد “فيفضها شوكَ الغياب” ثم تتساءل عن عروج الطيف إلى “سدرةَ النّسيان” ويستمر الخيال الخصب بين الإبداع والمستوى الجمالي في حالة من حالات التوق إلى اللقاء بين الحنين والشوق المخملي المخضب بالورود والندى وحالة وجدٍ عارمة تلك التي مزجتها ناهد بدران بهالات من نور في معتكف الضوء.
وحسبما نرى أن للخيال أهمية كبيرة في الكتابة الأدبية والشعرية على وجه الخصوص إذ أنَّ هذا العنصر له إسهامًا كبيرًا في نجاح الكاتب فكلَّما كان الأديب يمتلك خيالَا واسعًا كان أكثر قدرة على إنتاج صورًا جديدة مبتكرة غير مطروحة يكون لها تأثير بالغ الأهمية في الملتقي وخير مثال على ذلك النص المرصوف على بساط الريح حيث تتخيل الشاعرة أنَّها في رحلة فوق الغيوم وتلتقي بالطيف عند سدة النسيان ويكون بينهما اتحاد وتنطلق حالة نورانية منهالة على النص دون أي توقف ورغم أنَّ نبرة التشاؤم والحزن والشجن وعذابات الوجد إثر الغياب لدى الذات الشاعرة كل هذه المشاعر تهيمن على النص وهذه الصفات من أشهر صفات الرومانسية، كما أن المشاعر تنصهر مع المظاهر الكونية في بوتقة المشاركة الوجدانية لحالة الشاعرة وهو ما يدلل على سعة الخيال الذي تمتلكه الشاعرة.
القضايا القومية بين التكثيف والرمز
*************************
يعد “اﻟﺘﻜﺜﯿﻒ اﻟﻠﻔﻈﻲ” هو ما سعت إليه النصوص النثرية مذ نشأتها في منتصف القرن الماضي ﻣﻤﺎ ﺠﻌﻠﮭﺎ ﻣﻌﻘﺪة إلى حدٍّ ما، وﺤﻮَّﻟﮭﺎ إﻟﻰ ﻋﺎﺋﻖ ﻓﻲ وﺟﮫ اﻟﻮﺿﻮح، وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ كانت ﺳﺒﺒًﺎ ﻓﻲ ﻓﻮﺿﻰ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺸﻌﺮي، واﺿﻄﺮاﺑﮫ ، وﺗﻌﻘﺪه(٢١).
وﻗﺪ ﻟﺤﻆ ﻛُﺘَّﺎب هذا الجنس الأدبي ذﻟﻚ، ﻓﮭﺬا أﺣﺪھﻢ، وھﻮ ﺟﺒﺮا إﺑﺮاھﯿﻢ ﺟﺒﺮا ، ﯾﺼﻒ “اﻟﺘﻜﺜﯿﻒ اﻟﻠﻔﻈﻲ” بأنه “اﻟﻮﺣﺶ اﻷﻛﺒﺮ ﻓﻲ اﻟﺸﻌﺮ” (٢٢).
الأمر الذي جعل صعوبة في فهم النص النثري وتأويله حيث أنَّ فهمه وتأويله ينبثقان من هذه المنطلقات، عبر مقابلة مقوماته “الاختزال ،التكثيف ،الإيحاء ،الترميز …” (٢٣)؛
وبذلك تتعذر كشف طاقت النص الدلالية ورمزيته وتأويله إلَّا بقراءة متأنية ومتعددة للنص حتى يصل المتلقي إلى تيمة النص ومقصده وهدفه العام.
أمَّا القضايا المعاصر في الأدب فأنَّ لكل إنسان قضية، وقضية الأديب هي محيطه الذي يسعى بأنْ يكون عمله الإبداعي منصبًا على قضاياه، من خلال محاولات صياغة حياته، وتكييفها، ومعالجة سلبياتها على أنَّ مادة الفن هي الإنسان في منظومة علاقاته المجتمعية، وما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية وسياسية.
وفي تقديرنا أنَّ الأديب يعيد صياغة الواقع بأسره، ولا بدَّ أنْ بفهم الأديب رسالة الأدب وغاياته، في تناوله للقضايا الإنسانية، ليس في محيط وطن المنشأ أو وطن الانتماء فحسب، إنَّما في كافة القضايا القومية الذي تأرق الوطن العربي كافة، وهذا ما يعكس إنسانية الأديب حين يشتمل إبداعه على هم وطني قومي إنساني.
وعلى الرغم من صعوبة إثارة القضايا القومية في النصوص النثرية إلَّا أنَّ ناهد بدران احتفت بها في مجموعتها النثرية احتفاءً خاصًا ونأخذ على سبيل المثال نص “عائدون” حيث تقول:
****
القدْسُ لنا … ملحمةٌ
يغنّيها قصبُ الحقولِ ..
يردّدها الصّدى
و القمحُ في أرحامِ الأرضِ
يتقمّصُ وجعَ الرّغيفِ
في يدِ السّياب ..
عائدون …
…………………..
لا زالُ الصّوتُ يهدهدُ الغمام
و لم تزلْ رياحُ البوحِ
تحفرُ الثّرى لتزرعَ العنّاب ..
فلسطينُ .. و الغصّةُ تسبقُ الفاءَ
و النّونُ ثكلى على ضِفافِ الإياب ..
…………….
بصمةُ إصبعكِ .. تختزلُ ألفَ قصيدة
و طيبُ أنفاسكِ قافيةٌ
و الأملُ مفتاحٌ لموصدِ الأبواب .
*************
إننا نرى الحروف في هذا النص عند الشاعرة تتوجع، والمعنى يتأوه همًا وغمًا لما تعانيه القدس من محن، إنَّ القدس حتمًا لنا ولكن الشاعره اختزلت رجوعها لنا في لفظة “ملحمة” وهي المَوقِعة العظيمة، والاقْتِتال العنيف، غير أنَّ استخدمها في الأدب كثيرًا ما يعني قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالبًا ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه وتقص عن تحرك جماعات بأكملها وبنائها للأمة، والمجتمع.
كما أنَّ الملحمة أيضًا حكاية بطولية تخبر عن حركة جماعات أو حركة الشعوب وحركة القبائل وهي نموذج إنساني يُحتذى به، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن يطمح المرء لتحقيقه.
وهذا عين ما نرجوه من استخدام التكثيف والرمز في القضايا القومية المعاصرة فالشاعرة بلفظة واحدة “ملحمة” أبانت عن طرق وأسباب عودة القدس لنا ويا له من توظيف محكم للمفردات لتكون عاملًا في النص لها دورها الرائد، ثمَّ إنَّ هذه الملحمة “يغنّيها قصبُ الحقولِ .. يردّدها الصّدى والقمحُ في أرحامِ الأرضِ يتقمّصُ وجعَ الرّغيفِ” ورغم ذلك الوجع والألم إلا أنَّنا “عائدون” وهنا تتحدث الشاعرة بصيغة الجمع وهي بذلك تتحدث باسم الضمير الجمعي للأمة وتعبر عن وجع القدس النازف في شريان العروبة ، فيما استخدمت ناهد بدران الرمز في مفارقة تضاد مائز حيث اتكأت على الغمام كرمزٍ للصمت في مقاربة بينه وبين الصوت “الصّوتُ يهدهدُ الغمام” أمَّا “رياحُ البوحِ” فكان لها الأثر الخصب في حفر الثرى وزراعة الأمل من جديد.
فلسطين عند ناهد بدران هي الغصة قبل البداية “الغصّةُ تسبقُ الفاءَ” وفي النهاية ثكلى على شواطئ الرجوع “والنّونُ ثكلى على ضِفافِ الإياب ..” هذا هو المشهد القاتم للواقع المؤلم لكنها آثرت أنْ ترصد الوجع لتبث البشارة في نهاية النص فلا يزال عندها “الأملُ مفتاحٌ لموصدِ الأبواب” ليدخل النص ضمن نصوص الاستنهاض والبشارات فنحن عائدون بملحمة كبرى والصوت حرّك الغمام حركة رقيقة منتظمة لينام حينها تهب رياح البوح لتزرع الأمل من جديد ليفتح الأبواب الموصدة.
يُعد الرمز معنى محوري شفاف، مُجسد في إحدى الظواهر المادية، تتمركز على أرضه جلّ الصور الجزئية التي تتواجد داخل العمل الأدبي، وتشده نحو هدف جمالي منظور ويربطها به ينبوع التجربة الشعورية، على أنَّ الرمز في مضمونه ينبع من إشارة أو عدة إشارات مفادها بث رسالة معينة أو هدف ما.
وقد تحدث الجاحظ في مواضع متعددة في كتابيه “البيان والتبين” و”الحيوان” عن البيان قسَّم وسائله إلى لفظ، وخط، وعقد، وإشارة، حيث وقف عند الإشارة وتحدث طويلًا عن مقدرتها على إيصال المعاني إلَّا أنَّه لم يشر إلى الرمز صراحة وإنما ذكر الإشارة والوحي والحذف(٢٤)؛
ويتابع فيبين أنَّ الإشارة أقرب المفهوم منها رفع الحواجب، وكسر الأجفاف، ولي الشفاه، وتحريك الأعناق، وقبض جلدة الوجه (٢٥)،
ونحو ذلك من الإيماءات والحركات المرمزة المعنية بالإشارة .
وحسبما نرى أنَّ هناك بيانًا غائرًا في المخلوقات تستخلص دفائنه بالتأمل والتدبر، فالكون الشاسع ناطق بعظمة خالقه، ومبرهن على وجودة “فالأجسام الخُرس الصامتة ناطقة من جهة الدلالة، ومعربة من جهة صحة الشهادة “(٢٦).
فيما ذهب قدامة بن جعفر إلى أنَّ الرمز هو الصوت الخفي الذي لا يكاد يفهم، واستشهد(٢٧) بالآيات الكريمة في قوله تعالى: “قال ربِّ اجعل لي آية قا آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلَّا رمزا”(٢٨).
أمَّا ابن رشيق القيرواني فقد وقف وقفة متأنية عند الإشارة وشرحها، شرحًا وافيًا، وعدد أشكالها حيث ذهب إلى أنَّها أنواع عديدة منها: التعريض، والإيماء، والتلويح، والتعمية، واللمحة والرمز الذي عرفه قائلًا “وأصل الرمز الكلام الخفي الذي لا يكاد يفهم ثم استعمل حتى صار الإشارة”(٢٩).
فيما يرى القيرواني(٣٠) أيضًا أنَّ الإشارة لها أثر عظيم في أداء المعنى فهي عنده من غريب الشعر، كما تعد بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمي، وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلَّا الشاعر الحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملًا، ومعناه بعيد عن ظاهر لفظه.
على أنَّ لغة الإشارة هي في مضمونها تعبيرًا عن رمز ما.
كما تعتبر القوى الابتكارية أو الإبداع الذاتي من أهم مقومات الإشارة وهي -القوى الابتكارية- ما نطلق عليه الملكة الإبداعية عند الأديب الذي تتراكم لديه المكونات الثقافية الهائلة، فتمدَّه بمخزون من الصور المتفردة والتراكيب الشعرية البديعة، إنَّ الملكة الإبداعية هي أحد منابع الرمز الأساسية.
وقد احتفت مجموعة النصوص النثرية بكم هائل من الصور المتفردة والتراكيب الشعرية البديعة والرمز ففي نص “سأعترف” اتكأت ناهد بدران على عدة رموز منها رموز قديسين ورموز أدبية ليربطوا على قلبها علها تقدُّ مضاجع العتمة وتستجدي الضوء من رحم الظلمات، حيث قالت:
*******
علقتُ بينَ قضبانِ الغروب
على مرمى الأفق …
قلمي سكبَ العطفَ من مرارةِ القسوة
و تلمذَ الدّجى على مقاعدِ النّور
ينهرني هوجو كلّما أخرستُ صهيلَ حرفي
ويسرجُ من بياضِ الرّؤى صهوةَ الصّهباء
فمضيْتُ محفوفةً بدعاءِ جبران
أقطفُ من حقلِ السّماءِ نجمةً ..!
و منْ روضِ العلاءِ شهابا …!
حلمي كبيرٌ … لا يشيخُ !!
وقفْتُ على ضفافِ السّماءِ ويدُ بيترَ
تُمسكُ قلبي
………………
تؤكد الشاعرة على أن القلم هو الضوء الذي يلمذ الدجى عند مقاعد النور فرغم أنه يسكب “العطف من مرارةِ القسوة” وهي عالقة في مرامي الأفق “بينَ قضبانِ الغروب” إلَّا أنَّ مداد القلم يأذن بفجرٍ جديد، فيما أشارت الشاعرة في نصِّها إلى “هوجو” كرمز يعني الحكمة والعقل والتفكير والذي أشتهر به القديسين في العصور الوسطى وما تلاها فقد كان القديس هوجيس المتوفي عام (1132م)، المدافع العظيم عن الفقراء، أسقف غرونوبل، كما يعني أسم هوجو يعني المخلص الصادق الذي يمكن الاعتماد على ولائه، يستجيب دائمًا لمن يحتاجه، مثالي واثق بفضل قدرته الممتازة على الاستماع، كما أنَّه مستشارًا جيدًا جدًا، يتمتع بحساسية كبير ضدَّ الظلم، فهو لا يقبل عدم المساواة ويدافع بانتظام عن الأضعف، مثابر في كل ما يفعله، ولذا فقد كان هذا الرمز اختيار موفق في سياق النص “ينهرني هوجو كلّما أخرستُ صهيلَ حرفي” وكأنَّها تقول إنَّه في بعض الأحيان من العقل والحكمة أنْ لا نركن إلى الصمت وأن نترك العنان للقلم صاحب الصوت المدوي “يسرجُ من بياضِ الرّؤى صهوةَ الصّهباء” لذا حق لهذ الحرف أنْ ينصر الضعفاء.
ثم تمضي الشاعرة “محفوفةً بدعاءِ جبران” وكما هو معروف أنَّ جبران خليل جبران (1983-1931م)، أديب لبناني كبير وأحد شعراء المهجر، أديب لامع، مفكر ومجِّد، ورئيس الرابطة القلمية في نيويورك (٣١)؛
فإذا كان الدعاء الذي طوق الشاعرة من هذا الشخص الموسوم بالإصلاح، والتلافي، والتعويض، ومساعد الفقراء، فحقَّ لها أنْ تقطف “من حقلِ السّماءِ نجمةً، ومنْ روضِ العلاءِ شهابا” كي يكون ضوءًا لها على الطريق القويم لأن تخوض حرب المبتهل في محراب الكلمة المؤثرة.
وقد وقفت ناهد بدران على شواطئ السماء لتجد يد بيتر تربط على قلبها “وقفْتُ على ضفافِ السّماءِ ويدُ بيتر تُمسكُ قلبي” وهو أسم مقدس يشير إلى القديس بطرس أحد تلاميذ المسيح الرئيسيين ومؤسس الكنيسة حسب اعتقاد الكاثوليك.
إن الشاعرة تتخذ من الرموز المقدسة متكأ لتمرر صوت الحرف ضوءًا لنصرة الضغفاء ولمقاومة الغيم المعتم لتقتبس من النور وتقدَّ حجاب الظلام فترفع الشراشف عن الليل ليأتي النور معلنًا بدء النهار.
وحسبما نرى أنَّ ناهد بدران باتكائها على الرموز التراثية تُعلي من قيمة النص وقيم الإنسانية ليأخذ النص منحى العالمية باستحضار تلك الرموز المعروفة عالميًّا فينتقل النص من حدود القطر والإقليم ليحلق في آفاق رحبة معلنًا استنطاق الحرف والتخلي عن الصمت.
فيما جاءت الجمل الحركية في النص “ينهرني هوجو- فمضيْتُ – أقطفُ من حقلِ السّماءِ نجمة” جاءت كي تعمل على التصعد المتنامي المجسد للصورة الحسية “الصوت مقابل الصمت”، وكذا تضاعف من تصعيد الصورة المشهدية لرؤية “الضوء مقابل الظلمة” وكذا يرتقع الشعور الإنساني وتفاعل الشاعرة مع الرموز التراثية وكذا تفاعل الروح مع المظاهر الكونية ولذا فقد اختارت السماء للتأمل والتفكير والحكمة والسمو.
ثم تتابع ناهد بدران في النص ذاته “سأعترف” التيمة الوطنية باستحضار أروح الأدباء فتصافح دمشق وكأنها تربط على يديها.
****
غرّدَ بلبل الأصمعي على سطوري
وصافحتُ دمشقَ في عشقِ نزار
أنا وشيطانُ الشّعر تقاسمْنا رحمَ الزّمن
نهشُّ بعصا الأمنياتِ عقربَ الصّمت
على عقيمِ السّطرِ فينجبُ ألفَ قمرٍ
ويورقُ في حُلكةِ الدّيجورِ ألفُ هلال
و أبقى ابنةَ أبي .. مِنْ صلبِ طوْدٍ شامخٍ
للسّماء قمرٌ و لي .. بدران
********
إنَّ الجرح الذي أصاب إنسانية الشاعرة، جراء ما ألمّ بوطنها هو الذي جعها تصافحها في هده الرسالة الإنسانية والواقع الذي صار عليه حال الوطن، الأمر الذي جمع الشاعرة وشيطان الشعر يتقاسما رحمَ الزمن، كي يهشَّا “بعصا الأمنياتِ عقربَ الصّمت على عقيمِ السّطرِ فينجبُ ألفَ قمرٍ” تؤكد ناهد بدران على أنَّ الداء العضال هو الصمت لذا كان الصمود بهش ذلك العقرب الذي ظل صامتًا لساعاتٍ طوال، والصمود هنا سيكون بالكلمة التي تنجب على السطر العقيم “ألفَ قمرٍ” وكذا يورق في حُلكةِ الليل شديد الظُّلمة “ألفُ هلال” لمواصلة رسالتها الإنسانية في نقد الواقع العربي ومأساة الوطن، لتذكرنا نحن القراء بأنَّ الكون والإنسان معًا هما هدف الإدراك وغاية المعرفة، وتبين لنا أن المكان المقدس عندها هو الوطن، وتبشر بأنَّ كل ما حلَّ بوطننا العربي في مختلف بلدانه المنكوبة أمرًا عابرًا حتما سوف ينقضي، فذلك الليل الحالك الموشوم بدياجير الغسق هو من أثر الصمت الذي لا يصمد أمام صمود البوح بكلمة الحق، فهي الذي تولد منها الأقمار لتزيل الظلام الصامت، ثمَّ في عزَّة وإباء وكرامة عانقت السماء، وستبقى كما قالت: “وأبقى ابنةَ أبي .. مِنْ صلبِ طوْدٍ شامخٍ” تفتخر ناهد بدران بأنَّها أبنة أبيها من أصل الجبل الشامخ، ولم لا فإن كان للسماء قمر فلها من اسم أبيها “بدران”.
تؤكد ناهد بدران على أنَّ تيمة الوطن هي التيمة القومية العربية التي تحدد مصير الكاتب في تجربته الإبداعية، وإن الظلم الواقع عليه، وتغيب حريته، بوصفها له بالظلام لذا فهي تستنطق كل منابع الضوء في مقابل الليل الحالك الذي يقبع فيه ذلك الوطن، حيث الصمت مرادف الظلام الذي تغيب فيه العدالة ويخفت فيه نور الحرية التي هي من أجلها استحضرت أسلحة النور وموكب الأقمار، والبدور الأسطورية والأهلَّة هي أبناح البوح في مقابل غياهب الظلمة التي أنجبها خزلان الصمت.
وارتكازًا على ما سبق يمكننا القول أنَّ: وظيفة الأديب هي التحدث بلسان حال الضمير الجمعي لأمَّته، وهذا إذا عددنا الأديب رائدًا في حركة إصلاح المجتمع، وداعمًا لبناء جيل يعي ما عليه من واجبات تجاه وطنه، والأديب بذلك يحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة، ووعيًّا ناضجًا لمَّا يقوم به تجاه قومه ووطنه، وعلى ذلك فنحن نعتبر الأديب صاحب رسالة في مجتمعه إيمانًا بمكانته البناءة ودوره الإيجابي في التطور والرقي والإصلاح والعلاج.
وحسب تقديرنا أنَّه من الخطأ الشائع الجزم بما يعتقد البعض بأنَّ الفن للفن والشعر للشعر والأدب للأدب أو للمتعة الجمالية فحسب، نعم الفن والشعر والأدب متعة جمالية هذا صحيح، إنَّما لا بدَّ أنْ يكون الأدب في مجمله عنصرًا داعمًا للبناء في المجتمع، له وظيفة هادفة، تسهم في بناء الفرد وتعدل السلوك وترصد الحدث المشكلة والعلاج أما إنْ سقط هذا الاعتبار فلا يُعد للأدب وظيفة بمفهومها الفعلي، بل ربَّما يصبح الأديب خطرًا يهدد كيان مجتمعه لانه في هذا الحالة سيكون عنصرًا لهدم القيم فلا يحق حقًا ولا ينكر باطلًا ولا يعد الأديب أديبًا بالمعني الحقيقي إذا تخلى عن دوره في بناء المجتمع والشعور بآلام الوطن العربي .
وفي تقديرنا أنَّ ناهد بدران قد وعت الدور المنوط به الأدب، والمعني به الأديب، وحاولت أنْ تجسده وكانت آراؤها تعتبر عن إيمانها الشديد بما تفعل، وبأنَّ الملكة الإبداعية لا بدَّ أنْ لا تقف عند حدود النظر إلي الواقع، و التفاعل مع الحاضر فحسب، إنَّما دورها كأديبة لديها تلك الملكة الإبداعية، أنْ تنظر إلي مستقبل شعبها، وأنْ تهيئ التربة الصالحة للبناء ولذا كانت مفارقاتها دومًا بين البوح مقابل الصمت وبين الضوء مقابل الظلام، في محاولة لرسم طريق العودة إلى العزة والكرامة والحرية وهي بذلك تؤكد على الدور الريادي للأدب في المجتمعات العربية.
الاستخلاصات والنتائج
****************
إنَّ طريقة تنظيم بنية النص الخارجي يعتبر شكلًا من أشكال معمار العمل الإبداعي، وطبيعة البنيات المصطفة والمتراصة تتفاعل وتتآلف لإضفاء طابع خاص في تأثيث فضاء النص، والتأمل في بنيته الفنية.
إنَّ أغلب العناوين التي تثيرالتساؤلات لدى المتلقي مثل العنوان “لك ما أعطى الشعر و ما أخذ” هي التي تضع القارئ في حالة من حالات الإغواء والإغراء القصدي المتعمد التي تستثير حافظة القارئ لفك رموز تلك المناوشات التي صنعها خطاب العنوان، كما تستثيره لإضاءة ما توارى منها للوقوف على حلٍّ لتلك الأسئلة التي داعبت فكر القارئ مما جعلته متأهبًا متشوقًا للمضي قُدمًا في سبر أغوار النص الإبداعي.
وحسبما نرى أنَّ الإهداء عند ناهد بدران كان للتجربة الإبداعية ذاتها فحدد ملامحها وما تحمل من تضاد، لأن طبيعة الإنسان لا تستقر على حال فهي بين حزنٍ وفرح، بين بعدٍ وتواصل، كما كانت رسائل الإهداء لكل من له علاقة بتلك التجربة من بعيد أو من قريب، فهو من جنس الإهداء الخاص المقتصر على كل من قدم يد العون والدعم والمساندة في مسيرتها الإبداعية، فقد أختصت من العائلة الأخوة والزوج لدعمهم تلك المسيرة الزاخرة، كما أختصت من الإصدقاء كل من كان له بصمة أعطت لحرفها حياة نابضة كانت بمثابة الضوء المتوهج الذي أقتبس حرفها من نوره.
إنَّنا من خلال مطالعة نصوص ناهد بدران نلمح عبورًا خارجًا عن نطاق الزمان وهو ما يشير إلى المجانية المنوه عنها في خصائص النصوص النثرية أي “اللازمنية” إنْ جاز لنا هذا التعبير، كما نلمح هذا التكثيف والذي سنتكلم عنه باستفاضة فيما بعد، إنَّ الجمل الشاعرية لدى الشاعرة محملة بكم هائل من المجاز اللفظي وهو ما يحيلنا إلى الإيجاز الذي ذكرناه سالفًا، ثم حالات الإشراق المتتابعة في النص بين الشمس والقمر، وهو عين التوهج، أمَّا عن الحالة الوجدانية للنص فيكفي أنَّ قصص الشذى مرصوفةً على خلجانِ الرّوح، ناهيك عن سباحة القلب في مرايا الكون متأملًا.
تتأرجح الشاعرة بين المجاز والتوهج لتصل بنا إلى بيت القصيد الذي ينبع منه الضوء فيزداد المعنى توهجًا وألقًا فبين التشظي المتأمل تنتقل من حالة انعدام الوعي “اللا وعي” إلى حالة الوعي الكامل لتقرر حقيقة مهمة “الحبّ هو الله ..” تلك هي الأية الكبرى “كما الصّلاةُ تغسلُ حيطانَ الحقد – بودقِ السّلام – لتنمو تباشير النّورِ في رئةِ اللّيل – و تطغى أبجديّةُ العطرِ – و قبلات الوردِ تمهرُ خدّ الزّمان … – وتسري في خدرِ النّفوس .” هنا محراب القصيد ومنابع الضوء، وإشراقات التوهج ومسك الختام وأنس الروح وسجود الأبجدية التي جعلت قبلات الورد تُمهر خد الزمان بخاتم العطر المخضب بالضوء في أبهى صور التوهج.
حسبما نرى أن للخيال أهمية كبيرة في الكتابة الأدبية والشعرية على وجه الخصوص إذ أنَّ هذا العنصر له إسهامًا كبيرًا في نجاح الكاتب فكلَّما كان الأديب يمتلك خيالَا واسعًا كان أكثر قدرة على إنتاج صورًا جديدة مبتكرة غير مطروحة يكون لها تأثير بالغ الأهمية في الملتقي وخير مثال على ذلك النص المرصوف على بساط الريح حيث تتخيل الشاعرة أنَّها في رحلة فوق الغيوم وتلتقي بالطيف عند سدة النسيان ويكون بينهما اتحاد وتنطلق حالة نورانية منهالة على النص دون أي توقف ورغم أنَّ نبرة التشاؤم والحزن والشجن وعذابات الوجد إثر الغياب لدى الذات الشاعرة كل هذه المشاعر تهيمن على النص وهذه الصفات من أشهر صفات الرومانسية، كما أن المشاعر تنصهر مع المظاهر الكونية في بوتقة المشاركة الوجدانية لحالة الشاعرة وهو ما يدلل على سعة الخيال الذي تمتلكه الشاعرة.
وفي تقديرنا أنَّ الأديب يعيد صياغة الواقع بأسره، ولا بدَّ أنْ بفهم الأديب رسالة الأدب وغاياته، في تناوله للقضايا الإنسانية، ليس في محيط وطن المنشأ أو وطن الانتماء فحسب، إنَّما في كافة القضايا القومية الذي تأرق الوطن العربي كافة، وهذا ما يعكس إنسانية الأديب حين يشتمل إبداعه على هم وطني قومي إنساني.
وعلى الرغم من صعوبة إثارة القضايا القومية في النصوص النثرية إلَّا أنَّ ناهد بدران احتفت بها في مجموعتها النثرية احتفاءً خاصًا.
وحسبما نرى أنَّ ناهد بدران باتكائها على الرموز التراثية تُعلي من قيمة النص وقيم الإنسانية ليأخذ النص منحى العالمية باستحضار تلك الرموز المعروفة عالميًّا فينتقل النص من حدود القطر والإقليم ليحلق في آفاق رحبة معلنًا استنطاق الحرف والتخلي عن الصمت.
فيما جاءت الجمل الحركية في النص “ينهرني هوجو- فمضيْتُ – أقطفُ من حقلِ السّماءِ نجمة” جاءت كي تعمل على التصعد المتنامي المجسد للصورة الحسية “الصوت مقابل الصمت”، وكذا تضاعف من تصعيد الصورة المشهدية لرؤية “الضوء مقابل الظلمة” وكذا يرتقع الشعور الإنساني وتفاعل الشاعرة مع الرموز التراثية وكذا تفاعل الروح مع المظاهر الكونية ولذا فقد اختارت السماء للتأمل والتفكير والحكمة والسمو.
تؤكد ناهد بدران على أنَّ تيمة الوطن هي التيمة القومية العربية التي تحدد مصير الكاتب في تجربته الإبداعية، وإن الظلم الواقع عليه، وتغيب حريته، بوصفها له بالظلام لذا فهي تستنطق كل منابع الضوء في مقابل الليل الحالك الذي يقبع فيه ذلك الوطن، حيث الصمت مرادف الظلام الذي تغيب فيه العدالة ويخفت فيه نور الحرية التي هي من أجلها استحضرت أسلحة النور وموكب الأقمار، والبدور الأسطورية والأهلَّة هي أبناح البوح في مقابل غياهب الظلمة التي أنجبها خزلان الصمت.
يمكننا القول أنَّ: وظيفة الأديب هي التحدث بلسان حال الضمير الجمعي لأمَّته، وهذا إذا عددنا الأديب رائدًا في حركة إصلاح المجتمع، وداعمًا لبناء جيل يعي ما عليه من واجبات تجاه وطنه، والأديب بذلك يحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة، ووعيًّا ناضجًا لمَّا يقوم به تجاه قومه ووطنه، وعلى ذلك فنحن نعتبر الأديب صاحب رسالة في مجتمعه إيمانًا بمكانته البناءة ودوره الإيجابي في التطور والرقي والإصلاح والعلاج.
وفي تقديرنا أنَّ ناهد بدران قد وعت الدور المنوط به الأدب، والمعني به الأديب، وحاولت أنْ تجسده وكانت آراؤها تعتبر عن إيمانها الشديد بما تفعل، وبأنَّ الملكة الإبداعية لا بدَّ أنْ لا تقف عند حدود النظر إلي الواقع، و التفاعل مع الحاضر فحسب، إنَّما دورها كأديبة لديها تلك الملكة الإبداعية، أنْ تنظر إلي مستقبل شعبها، وأنْ تهيئ التربة الصالحة للبناء ولذا كانت مفارقاتها دومًا بين البوح مقابل الصمت وبين الضوء مقابل الظلام، في محاولة لرسم طريق العودة إلى العزة والكرامة والحرية وهي بذلك تؤكد على الدور الريادي للأدب في المجتمعات العربية.
**********************
المراجع والهوامش
*************
١ – راجع: سيد فاروق: المواقع الاستراتيجية ” على خارطة النص الإبداعي “، (د.ط)، المؤسسة العربية للعلوم والثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ، مصر ، ط1، 2019م، ص27.
2- ينظر: بلال عبد الرزاق: مدخل إلى عتبات النص “دارسة في مقدمة النقد العربي القديم إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، بيروت 2000م، ص16.
3- Gerard Genette : Seuils, Coll Poétique, Seuil, Paris, 1987, P7.
4 – سعيد يقطين: ت، عتبات (ج.جينيت من النص إلى المناص)، عبد الحق بلعابد،(دط)، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2008، ص15.
5- راجع: ضياء الثامري : العنوان في الشعر العراقي المعاصر، انماطه ووظائفه، مجلة جامعة القادسية في الآداب والعلوم التربوية،م (9)،ع (2)،2010م، ص13.
6- ينظر: راجع: جميل حمداوي: سيميوطيقيا والعنونة،(بحث) مجلة عالم الفكر،م(25 )، ع(3)، يناير: مارس 1997م، ص 99.
7- راجع: حميد الشيخ فرج: العنوان في الشعر العراقي الحديث، دار ومكتبة البصائر، ط1 ،2013م، ص 16.
8- ينظر: راجع: جميل حمداوي: سيميوطيقيا والعنونة، مرجع سابق، ص 96.
9- عبد الحق بلعابد: عتبات (جيرارجينت من النص إلى المناص): الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2007م، ص 94 .
10- حسن محمد حماد: تداخل الأنواع في النصوص العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص 64.
11 – د. عبد العزيز غوردو، فينومينولوجيا المكان: ما لم يرد عند باشلار، ط1، مطبوعات الهلال وجدة، 2011، ص 162.
12- جون كوهين: بنية اللغة الشاعرية، تر: محمد والي ، محمد العمري،(دط) دار توقبال، المغرب، 1993، ، ص196.
13- جون كوهين: المرجع السابق ، ص15.
14- عبد الغفار مكاوي، شعر وفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995، ص67.
15- ينظر: روز غريب: تمهيد في النقد الادبي، دار المكشوف بيروت، ط 1، 1971م، ص 86.
16- ينظر: اوشيبلت مكليتس: الشعر والتجربة، تر: سلمى الخضراء: دار اليقضة العربية، بيروت، 1963م، ص 53.
17- ينظر: د. شوقي ضيف: في النقد الادبي، دار المعارف القاهرة، مكتبة الدراسات الأولية، ط 9، 167.
18- د. عبد الفتاح عبد المحسن: عبد الرحمن شكري ناقدًا وشاعرًا، (د.ط)، دار قباء للطباعة والنشر، د. ت، القاهرة – مصر، ص 383.
19- ينظر: المرجع السابق، ص 384.
20- ينظر: المرجع السابق، ص 386.
21- ﻓﺎﺿﻞ ﺛﺎﻣﺮ : ﻣﻌﺎﻟﻢ ﺟﺪﯾﺪة ﻓﻲ أدﺑﻨﺎ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮ، (دط) وزارة اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻹﻋﻼم ، ﺑﻐﺪاد، 1975م، ص 400.
22- ﺟﺒﺮا إﺑﺮاھﯿﻢ ﺟﺒﺮا : اﻟﻨﺎر واﻟﺠﻮھﺮ دراﺳﺎت ﻓﻲ اﻟﺸﻌﺮ، (دط) اﻟﻤﺆﺳﺴﺔ اﻟﻌﺮﺑﯿﺔ ، ﺑﯿﺮوت، ط3، 1982م، ص78.
23- راجع: محمد بازي: العنوان في الثقافة العربية، ص 25.
24- راجع: الجاحظ: الحيوان، ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ج1، ط2، (1965م)، (د.ن)، (د.م)، ص94 .
25 – راجع: الجاحظ: الحيوان، المرجع السايق، ص48 .
26- راجع: الجاحظ: الحيوان، المرجع السايق، ص34 .
27 – راجع: قدامة بن جعفر: نقد النثر، تحقيق: طه حسين وعبد الحميد العبادي: (د.ط). معجم البلاغة العربية، القاهرة – مصر، 1939م، ص 61.
28 – قرآن كريم: سورة آل عمران، آية (41).
29 – ابن رشيق القيرواني: العمدة، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد: ج1، ط5، (د.ط).دار الجيل، 1981م، ص305.
30 – راجع: ابن رشيق القيرواني: المرجع السابق، ص302.
31- قاموس المعاني الجامع: معنى إسم جبران في قاموس معاني الأسماء
https://www.almaany.com/ar/name/%D8%AC%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%86/
**********************
#سيد_فاروق
Discussion about this post