Views: 13
من خبايا الذاكرة بين اللغة والسرد
* ___ في خبايا بسمة عبيد أسرار وحكايات، لغة ماتعة، حكي يتكئ على رصد الواقع بأسلوب رصين ولغة سهلة تخرج من أعماق الذاكرة لتروي لنا نصا أدبيا، بل نصوصا أدبية على شكل (مجموعة قصصية) أطلقت عليها الكاتبة
من خبايا الذاكرة)
وإذا كانت خبايا القلب تعني: ما يكنه القلب من مشاعر وأحاسيس
. وخبايا النفوس تعني: ما تخفيه من أسرار
فإن خبايا الذاكرة تعني: ما نحتفظ به من مخزون عبر شريط حياتنا الممتد بلا نهاية ترويه الأجيال جيلا بعد جيل
. ومن العنوان نلمح ما تصبو إليه الكاتبة من أنها تخرج من ذاكرتها أحداثا عاشتها أو سمعتها أو قرأت عنها، فجاءت المجموعة القصصية (من خبايا الذاكرة) تحمل لنا وجبة دسمة من اللغة والسرد والتاريخ وتسليط الضوء على بعض العادات الاجتماعية السيء منها والجيد والحياة بكل تقلباتها وتفاصيلها من سياسة واقتصاد واجتماع حسب سياقها القصصي والتاريخي
. بسمة عبيد معلمة، وقاصة، عاشت وتنقلت في عدة دول، أغنتها التجربة، وعصرتها الحياة، فأخرجت ما بذاكرتها من كنوز ترويها لنا عبر رحلة ماتعة في دروب اللغة والحكاية. _القصة القصيرة: سرد لحدث ما ضمن فترة محدودة (قصيرة) ومكان (محدد) للتعبير عن جانب أو موقف من مواقف الحياة، فيها من الاتحاد والانسجام والبعد عن التشتيت، مما يجعلها تصل إلى الهدف بأسرع الطرق
. تعتمد في كتابتها على التأثيرات والحالة النفسية والشعورية التي تجعل الكاتب أو الكاتبة يكثف الحكي، ويغلف الفكرة بما يريد إيصاله بعيدا عن المباشرة والوعظ، مختصرا ومتجها للخلاصة
. فالقصة القصيرة: نص سردي دال
وسريع،
موضوعها مختصر، وحكيها مدهش، ولغتها مكثفة، تتأرجح بين الذاتية والموضوعية
. فيها من الشخصيات والحوار والصراع، التشويق، الصدق وأحيانا (الخيال)
فيها كل ما سبق لكن بإيجاز
فجعبة القصة القصيرة لا تتحمل، وإلا تحولت لعالم آخر هو عالم الرواية
. تبدأ بسمة عبيد مجموعتها القصصية بقصة تحمل عنوان (تهجير) والعنوان موحي بما ستدل عليه القصة، شيخٌ مسنٌ يلملم هو وزوجته بعد منتصف الليل في إشارة إلى التخفي عن أعين الناس ما يستطيعا حمله، ليخرج ومعه أولاده حاملا إياهم على الدواب _في إشارة إلى طبيعة العصر – (العصر العثماني) قبل ظهور السيارات وعالم النقل السريع والحديث
. وتوكل الشيخ على الله _في إشارة إلى قوة إيمانه وثقته بربه
. قاصدا جبل العرب (
جبل حوران أو جبل الدروز ويقع جنوب سوريا
) والسبب ببساطة: أن الشيخ (حسين) يدافع عن الفلاحين والطبقة المطحونة، في عصر جمال باشا والي الدولة العثمانية على لبنان، والتهمة واضحة التحريض والتمرد فما كان من الشيخ إلا أن رحل
. عبرت هنا القاصة عن نموذج الرفض والتمرد والثورة أو بداية ثورة ضد الحكم العثماني الجائر على الشعب اللبناني (الشعب العربي) وهو نموذج للتحدي والتصدي للظلم والجور
تضم المجموعة القصصية لبسمة عبيد (من خبايا الذاكرة) تسع وثلاثون قصة، تدور معظمها حول ذكريات عايشتها او قرأت عنها أو استمعت إليها عبر حكايا الجدات
. وسجلتها عبر لغة سردية تبعث على المتعة والفكر.
فالعمل الأدبي أيا كان نوعه لا بد له من
: _المتعة
_والفكر ولا يغلب أحدهما على الآخر فإذا غلب الفكر تحول إلى فلسفة ودخل في دروب لا يتحملها الأدب وإذا غلبت المتعة تحولت إلى نوع من أنواع التسلية وضياع الوقت (التهريج)
سجلت بسمة عبيد ذكرياتها وحافظت على هذا الخيط الرفيع
. فالقصص جميعها يربط بينهم رابط واحد ووحدة موضوعية واحدة، ألا وهي
خبايا الذاكرة
) وهي نوع من التفريغ والعودة باستدعاء الماضي للجيل الحاضر الذي ربما لم يعش ما عاشته الكاتبة
. ولا سمع ما سمعت ولا قرأ ما قرأت وهو نوع من أنواع تواصل الاجيال عبر الحكاية الممزوجة بالمتعة والفكر
. فمن التهجير إلى البوابة الخشبية التي تصفها الكاتبة وصفا كأنك تراها، وأغلقت عليك كما أغلقت على عشرات الأسر لحمايتهم من العسكر المنتشرين عقب انقلاب ــ 1954 ١٩٥٣
بسوريا َالذي قاده العقيد: أديب الشيشكلي، وأصبح بعدها رئيسا للبلاد
. تبدأ بسمة عبيد حكاياتها من القرن التاسع عشر وتظل تتنقل من واقع لواقع حتى منتصف الستينات والوحدة بين مصر وسوريا واجبار الشباب على الالتحاق بالخدمة العسكرية (الجيش) متمثلة فيمن لحق بأسرتها واجبار الأخ على ذلك
. فتطرق القاصة في سردها إلى الحياة السياسية (الانقلابات) الاجتماعية (زواج القاصر) الاقتصادية
الهجرة للخليج
) أواصر الأخوة والدعوة إلى الوحدة العربية (سوريا ولبنان نموذجا) تعرض كل ذلك بطريقة سردية شيقة ولغة سهلة.
من خبايا الذاكرة رصد تقلبات خارج وداخل الأسرة في المجتمع العربي،
مشرحة ومعرجة على كل تفاصيل الحياة، وما جد على المجتمع العربي والمرأة العربية والتكنلوجيا والسيارة والمكياج والرفاهية، فمن الدابة إلى الطائرة والسفر إلى باريس
. إنها الحياة وما احتفظت به بسمة عبيد عبر ذاكرتها، لتخرج لنا مجموعتها القصصية (من خبايا الذاكرة) لتكون إضافة للأدب العربي وللإبداع النسوي،
وأن كنت لا أحب هذه التسمية
. في النهاية حق لنا أن تحتفي بها وبمجموعتها القصصية
من خبايا الذاكرة)
ونردد مع أمير الشعراء احمد شوقي
: سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها لقلبي
إليك تلفتت أبدا وخفق
وبي مما رمتك به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
_ *ناصر رمضان عبد الحميد عضو اتحاد كتاب
Discussion about this post