Views: 6
قراءة في قصيدة للشاعر القدير … محمود صالح
في الأكواخِ البعيدة
خذَلَتْني الأشجار
فتساقطتُ من أعلى الجَمر
قلتُ للخرائبِ ما لنا وللغابات !
وأنتِ يا خلخالَ الخِصْب
في ساقِ الغِياب
ما كنتُ “زِرْياب”
لأعزفَ لشمسِكِ أجملَ الظِّلال
بالأمس ..
حين امتطيتُ أزيزَ الكلام
لم يسمعْني أحد
وسطَ زحمةِ الرُّماةِ كُنتُ حقلًا للزَّبد
وها أنا مُذْ حَقنْتُ القصيدةَ بالصَّمت
أُصغي لِغُصَصِ السُّنونو وآهاتِ السَّنابل
لا أستطيع ..
أنْ أمنعَ حَنْجَرتي أن تكونَ نايًا
وما أكثرَ العتَبْ
وأعلم أنَّهم يَكمنونَ حتّى للحُزن
يغتالونَ دمعةَ “السيَّاب”
ويحترفونَ حَرْقَ القصَبْ
تتخذ التجربة _في النص_ شكلا من أشكال التعبير الإبداعي، الذي يعكس إمكانات الشاعر التعبيرية وقدرته على خلق لغته الخاصة القادرة على حمل همومه ورؤاه، ويعكس فاعلية الخيال في هذا التشكيل الجمالي والدلالي المنسجم والمتناغم مع الرؤية وموقف الشاعر الشعوري، المرتبط _كما يبدو_ ارتباطا وثيقا بقضية وطنه ومأساة شعبه.
لقد وجد الشاعر في الواقع الموضوعي ما يساعده في تشكيل خطابه الشعري، حيث تشير الدلالة النصية في هذه التجربة إلى مأساة الشاعر _الشعب الفلسطيني_ ومعاناته في التهجير والنفي بعيدا عن الوطن، ما يؤكد علاقته بالواقع الذي أفرز هذه الحالة المأساوية للشعب الفلسطيني … ولأن الشعر صياغة خيالية لمعطيات واقعية، فقد استطاع الشاعر بقوة الخيال وانطلاقا من وعيه الجمالي أن يخلق صورة لهذا الواقع تم تشكيلها تشكيلا إبداعيا يجسّد الرؤية، من خلال الوعي بأحداث الواقع وانفعاله بها شعوريا وذهنيا وحسيا، في سياق من التوتر والإدهاش ما يسهم في خلق مسافة جمالية تمنح النص حيويته وتأثيره في المتلقي …
لقد تحددت دلالة الأكواخ في هذا الكون الشعري _منذ البداية_ في العبارة التي استهل فيها الشاعر النص (في الاكواخ البعيدة) مشفوعة بعبارات تدل على الوحدة والغياب. فالأكواخ ببساطتها وفقرها وعزلتها ترمز إلى الوحدة والبعد والصمت والفراغ. والأكواخ البعيدة هنا صورة تعبيرية ترمز إلى معاناة الإنسان الفلسطيني في المخيمات خارج الوطن في مواجهة التهجير والعزلة في المنافي البعيدة ..
إن استخدم الشاعر الرمز بصفته شكلا من أشكال التعبير الجمالي، في تشكيل هذه الصورة التي تعكس الضغط البيئي العاصف الذي يستهدف اقتلاع الشاعر وشعبه من الوجود، يعمّق الدلالة ويضيف للنص طاقة إيحائية. حيث اختُزِلت في الأكواخ البعيدة _حسب الرؤية_ قصة الوطن، وأصبحت الأكواخ البعيدة هي عنوان مأساة الشعب الفلسطيني .. وقد اعتمد الشاعر صيغة الجمع في (الأكواخ) متجاوزا الهم الذاتي إلى إلى الهم الجماعي الذي يعانيه أبناء شعبه في محنتهم في المنافي …
ومما يعمّق حالة الانقهار التي تحاصر روح الشاعر هو تضافر عناصر الطبيعة في نبذه والتخلي عنه (خذلتني الأشجار). فقد انعكست فاعلية الخيال في النص في هذه الصورة القائمة على تقنية التشخيص، وهي نسبة صفات البشر إلى الأشجار في صورة تهدف إلى إظهار المعاني الداخلية وتعكس انفعال الشاعر وموقفه الشعوري من أحداث الواقع، وتمثيلها لقوى الحس والإدراك لا على نحو واقعي ولكن بوصفها وجودا فنيا محملا بطاقات الإبداع، تمّ إنجازه بما تقتضيه تجربة الشاعر الجمالية … حيث اتخذ الشاعر من الأشجار معادلا موضوعيا لأمّته التي تخلت عنه. فالأشجار التي تحمل في التراث الإنساني دلالة الحياة والحماية والراحة ولها حضور فاعل في حياة الإنسان … والتي تمثّل هنا في النص (الأمة)، التي يقع على عاتقها تحقيق الأمن والحماية والحرية لشعوبها، خذلته وتركته وشعبه الفلسطيني وحيدا يعاني التهجير والإقصاء والعزلة في المنافي البعيدة عن وطنه …. وقد تثير الأشجار في المرجعية الذهنية للمتلقي تماهي تجربة الشاعر وتقاطعها دلاليا مع التجربة الأولى مع الشجرة، فمنذ البدء لجأ آدم عليه السلام إليها ينشد الحياة الخالدة والراحة الأبدية، ولكنها خذلته وكان خروجه من جنته …
إن قمة المأساة _حسب الرؤية_ أن يتضافر الإنسان والمكان وعناصر الطبيعة في صنع عذابات الشاعر وشعبه في طرده من وطنه وفي ضياعه وانكساراته (فتساقطّت من أعلى الجمر).
إن سقوط الواقع الفلسطيني بلغ بالشاعر قمة اليأس والإحباط والشعور بالاغتراب، بحيث أصبح يقينا لديه أنه في ظل هذه الانكسارات ليس له أن يحلم بالحرية والحياة الوادعة بعيدا عن التسلط والتدخل الخارجي، ولا يملك إلا الرضوخ للأمر الواقع (قلت: للخرائب ما لنا وللغابات)، الأمر الذي ترك حزنا دفينا وضيقا في نفس الشاعر. ولعل غلبة ضمير المتكلم (بالتاء والياء) في النص هو ما يفسّر هذا الشعور الطاغي بالحزن والمسيطر على روح الشاعر …
وتتداعى نفثات الذات الشاعرة، بسردية حزينة مشحونة بالأسى والوجع (وأنتِ يا خلخال الخصب في ساق الغياب) تعكس إحساسه بالوحدة والضياع وفقدان الشعور بالأمان، حين تخلى عنه الجميع وأصبح يعيش حياة الضنك والهم والتعب، حتى لم يجد سبيلا للانعتاق من هذا الواقع المرير فكان هذا الخطاب للبعيد (وأنتِ يا خلخال الخصب …) يخاطب الحياة الجميلة الغائبة عنه والتي حُرِم منها، ذلك أن الحياة الهانئة الخالية من الذل والقهر أصبحت بعيدة المنال في جحيم اللجوء في الاكواخ البعيدة … وقد أبدع الشاعر في رسم صورة الواقع الفلسطيني بعيدا عن الوطن، بهذه الصورة الاستعارية التي يقيم بفاعليتها وقوة تخييلها علاقة غير مألوفة بين الأشياء. فالخلخال في ساق الجميلة له دلالات تدل على الزينة والغنى والجمال، ولكنه يفقد في ساق الغياب دلالاته الجميلة ليحمل في هذه الصورة التشخيصية معاني القبح والفقر واليأس والإحباط الذي يعانيه الفلسطيني، الذي فقد طعم الراحة وانتفت في حياته كل مظاهر الفرح والجمال، في مواجهة قسوة اللجوء والغربة والمآسي التي ما فتئت تلاحقه …
إن استدعاء الشاعر الشخصية التراثية (زرياب) وتوظيفها باعتبارها محمولا رمزيا، يجسد من خلال تقنية التناص الرؤية الشعرية، التي تجعل من تجربة زرياب معادلا موضوعيا لتجربة الإنسان الفلسطيني في اللجوء والإبعاد قسرا عن وطنه … وحيث إن الصورة التراثية أتت في السياق باستعارة (العزف) من متعلقات زرياب (ما كنت زرياب لأعزف لشمسك أجمل الظلال)، الذي وجد الحاضنة في الأندلس التي مكّنته من العيش الكريم وممارسة فنه في بيئة مريحة وآمنة، فإن الصورة في الواقع الفلسطيني قد تحولت حسب الرؤية الشعرية إلى صورة قاتمة، حيث لم يجد الإنسان الفلسطيني في اللجوء بيئة حاضنة تمكّنه من ممارسة الحياة التي تستجيب لمطالبه المادية والمعنوية بحرّية وأمان، بعيدا عن تهديد وجوده من الناحيتين: الخارجية (الظلم واضطهاد الواقع) والداخلية (الخوف والقهر) …
ويتخذ الشاعر من الاسترجاع والعودة إلى الماضي (بالأمس) وسيلة فنية تدين الحاضر وتعمّق الإحساس بتخاذل الأمة وخذلانها للشعب الفلسطيني …
وإن عودة الشاعر إلى الماضي بصورة تكسر التوقع وتخرق قوانين المنطق (حين امتطيت أزيز الكلام)، تبرز توتر العلاقة بين الذات الشاعرة كقوة واعية يقظة وبين مَنْ قعدت بهم هممهم عما يحدق بالأمة من أخطار … وتُذكّر بفجيعة الفلسطيني حين استصرخ الأمة ولم يجد إلا الصمت والخذلان وتخلي الجميع عنه (لم يسمعني أحد) …وقد ساهمت الألفاظ بإيحاءاتها المرتبطة بمشاعر وانفعالات الشاعر بشكل فاعل في رسم الصورة ومنحها دلالاتها الرمزية. فالفعل (امتطيت) بإضافته إلى الظرف المبهم (حين) وإسناده إلى ضمير المتكلم (ت) جاء ليصرف النظر إلى أنْ لا عذر للأمة، فمنذ زمن والشعب الفلسطيني يستصرخ بعالي الصوت ولا من صدى لصوته …
ولعل في استخدام الشاعر لفظة (أزيز) بحروفها وإيقاعها الثقيل في رسم الصورة، ما يزيد من كابوسية الموقف وقتامة الصورة … ف(الأزيز) وهو صوت الجوف والغليان، وتكرار حرف الزاي فيها وهو حرف قوي مجهور وصوت فيه حدّة، يعكس شعورا بالقهر وحرقة في نفس الشاعر … حيث نجح خيال الشاعر في توظيف الصوت في (ازيز) في تشكيل هذه الصورة السمعية البصرية، مما يثير في خيال المتلقي صورة حيّة ناطقة، تنقل الإحساس بالمعنى وثقل الحالة …
وقد توحي الصورة بأن هناك ثمّة تعالق (تناص) بينها وبين حادثة مشهورة في السياق التاريخي، تُذّكر المتلقي بصيحة (وامعتصماه) التي أطلقتها امرأة تستصرخ المعتصم فهبّ لنجدتها … الأمر الذي يزيد من فاعلية الصورة، بما تنطوي عليه من دلالات تعمّق الشعور بالقهر والخذلان (لم يسمعني أحد)، إذ لم تجد صرخة الفلسطيني في وجه العالم سوى المزيد من الظلم والقهر والتهميش (وسط زحمة الرّماة كنتُ حقلا للزبد)…
وأمام هذا التجاهل والتهميش للشعب الفلسطيني وقضيته عربيا ودوليا، لم يملك الشاعر إلا أن يعضّ على جرحه والصمت والصبر على الألم ومرارة التشريد والتهجير ( وها أنا مذ حقنتُ القصيدة بالصمت .. أصغي لغصص السنونو وآهات السنابل) …
لكن الفلسطيني لا يضعف ولا يستكين على الرغم من الاجتياح والحصار والعواصف التي تعصف بوجوده، ولا ينحني للحزن ولا يستسلم للواقع، يتحدى ويقاوم وقد أدرك أن صراعه صراع وجود (لا أستطيع .. أن أمنح حنجرتي أن تكون نايا.. وما أكثر العتب). فالعبارة تحمل في طياتها أبعادا جمالية ودلالية تتمثّل فيها حساسية الرؤية الشعرية وموقف الشاعر الشعوري، وهو أن سمو مطالبه وقداسة قضيته جعله يتعالى على واقعه وعلى الآخرين وقد أدرك صَغَارهم وتخاذلهم (وأعلم أنهم يكمنون حتى للحزن)… وهنا نستطيع أن نتلمّس قدرة الشاعر على نقلنا من خلال البنية اللغوية بين زمنين متضادين للتجربة الجمالية: الزمن الماضي (بالأمس) بكل آثاره السلبية وترسباته على الواقع الفلسطيني، والزمن الحاضر (لا أستطيع ) الذي تنزع فيه الذات إلى التعالي على الواقع وتجاوز المأساة …
وكما يبدو فإن التوتر والصراع هو الذي يحكم بنية العبارات في النص (وأعلم أنهم يكمنون حتى للحزن)(يغتالون دمعة السياب)(ويحترفون حرق القصب)، ويعكس طبيعة العلاقة بين الذات والآخرين … وحيث جاء إسناد أفعالهم إلى ضمير الغائب (أنهم يكمنون، يغتالون، يحترفون)، وكلها أفعال تدل على الجبن والضعف والخذلان، فإن ذلك يثير في نفس المتلقي الشعور بانحراف بوصلتهم عن القضية التي آمن بها الشاعر، ما أدى إلى هذه الحالة من عدم الانسجام والتوتر بين الذات والآخرين. ولعله لذلك جاء الحديث عنهم بضمير الغائب إشارة إلى غياب الفاعلية والتخاذل عن نصرة القضية الفلسطينية، وترسيخا لهذه الوحدة والغربة التي يشعر بها الشعب الفلسطيني …
وقد اتخذ الشاعر من (السياب) في النص، شكلا تعبيريا قادرا على حمل هموم الشاعر ورؤاه، حيث تماهت شخصية الشاعر مع السياب لوجود تفاعل وتشابه بين التجربتين في النفي والتهميش وعذابات الغربة بعيدا عن الوطن …
هذا، وقد تضافرت الدلالات في القصيدة لتشكل الدلالة المركزية في النص، التي تدور حول مأساة الشعب الفلسطيني في التهجير والنفي القسري بعيدا عن الوطن، وتخاذل الجميع والتخلي عن نصرته … وثبات وإصرار الفلسطيني على الدفاع عن وجوده …
د. نوال سيف
Discussion about this post