Views: 2
بائع الكستناء..
قصة قصيرة..
بقلمي …
وضعت قطعةً كبيرةً من الحطب في المدفأة القديمة … و التي كان الّلهبُ يظهرُ من بين شقوقِها الواضحة… والتفَّ أطفالُها الأربعةُ حولَها يلتمسون الدّفءَ لأكفّهم المتجمّدةِ من البرد … كان الّليلُ يلتهمُ بقايا ضوءِ النّهار المتجلّي فوقَ سطوحِ الأشياء .. والأمطارُ تزدادُ غزارةً في الخارج … حاولتِ الأمُّ صرفَ أذهانِ أطفالِها عن صوتِ قطراتِ المطرِ الّتي تتسرّبُ من السّقفِ الخشبيّ المتشقّقِ والتي تتلقّفُها بعضُ الأواني المطبخيّة الموزّعةِ في أرضِ الغرفة … فكانت تحكي لهم بعضَ الحكايات الشيّقةِ والّتي تجعلُ أذهانَهم الصّغيرةَ تسافرُ إلى مدنِ الدّفء البعيدة .. إلى الموائدِ العامرةِ الّتي تكتظُّ بما لذَّ وطاب … إلى المواقدِ الفاخرةِ الأنيقة .. شعرتِ الأمُّ فجأةً أن قصصَها المحشوّةَ بالتّرفِ قد أجّجت مشاعرَ الحرمانِ في قلوبِ أطفالِها حتى كادتِ العبراتُ تطفر من أعينهم البريئة … فتنبّهت لضرورةِ تغييرِ طبيعةِ حكاياتِها … وتتحدثُ عن أطفالٍ يعيشون في مستوياتٍ معيشيّةٍ أدنى من أطفالها لترتقيَ بعواطفِهم قليلًا ولتقتصَّ من الفقرِ القابعِ في محيّاهم البائس .. ازدادت وتيرةُ الهطول مع ازديادِ حدّةِ العاصفةِ في الخارج .. أحسّت أن قطعَ ( النايلون ) الّذي ثبّتته على النوافذِ مكانَ الزّجاجِ المكسورِ في طريقِه إلى التمزّق نزقًا تحت وطأة سياطِ كانون الموجعة … كان فكرُها مشتّتًا بين أطفالِها الجياع .. وبيتِها الّذي تراقصُه الرّياحُ والأمطار ..وبين زوجِها الّذي يمضي ليلتَه في العراءِ جارًّا عربةً صغيرةً لبيعِ الكستناء …. كان أبو حازمٍ يلوذُ مع عربتِه تحت إحدى المظلّاتِ المطريّةِ بمعطفِه الطويلِ الّذي ازدادَ وزنُه بسببِ ابتلالِه أثناءَ تجوالِه في شوارعِ المدينةِ المزدحمةِ باحثًا عمّن يشتري منه الكستناءَ الشّهيّة … كان ينفثُ في كفّيه كلَّ برهةٍ ليعيدَ إليهما الحياةَ التي أُعدمت تحت مقصلةِ الفقرِ والبرد … وروائحُ الكستناءِ الشّهيّة النّاضجة كانت تستقطبُ بعضَ الزّبائنِ الأثرياءِ العائدين بسيّاراتهم الفاخرةِ من سهرةِ آخر الليل .. توقّفت إحدى السّيّاراتِ بجانبه … ارتسمت مأساتُه فجأةً على زجاجِها الّلامع .. ثمّ ما لبثت أن اختفت حين نزلَ الزّجاجُ بكبسةِ زرٍّ من تلك المرأةِ الأنيقة …صافحت وجهَه الباردَ جرعةُ دفءٍ أتت من داخلِ السيارة المكيّفة … أشارت إليه السّيّدةُ بسبّابتها الّتي تنوءُ بحملِ خاتمٍ ثمينٍ ذي بريقٍ أخّاذ .. ففهمَ على الفورِ أنّها تريدُ كيلو غرامًا واحدًا من الكستناء .. هزّ رأسَه ملبّيًا … وبدأ بانتقاءِ الثّمارِ النّاضجةِ ثم وضعَها بالكيسِ الورقي .. كان أثناءَ عملِه يسترقُ النّظرَ إلى المقعدِ الخلفيّ حيثُ يركنُ طفلاها مثبّتين بحزامِ الأمانِ الذي يزيدُ من أناقتِهما ويدلُّ على فرطِ الرّقي الذي تتمتّعُ به تلك الأسرة … وضعَ الكيسَ على الميزانِ وهو يفكّرُ بموازينِ العدلِ في هذه الحياة … رغمًا عنه أجرى دماغُه مقارنةً سريعةً بين هؤلاء الأطفال .. وبين أطفالِه الّذين يتجرّعون كؤوسَ الحرمانِ كلّ يوم …نفضَ رأسَه مستغفرَا ربّه لأنّه شعرَ أنّه يأثم … ناولَ السّيّدةَ كيسَ الكستناء وناولته السيّدةُ ورقةً نقديةً ارتسمت عليها في الحال بعضُ أحلامِه المؤجّلةِ ثم قالت وهي تبتسم ابتسامةً متسربلةً بالشّفقة : (الباقي لك ) …ثم رفعت زجاجَ السيّارةِ وهي تذيّلُه بنظرةٍ يمقتُها كثيرًا … فرأى مجدّدا صورتَه على الزّجاجِ الصّاعدِ بأناقةٍ وقد تغمّست بالذّل … دسَّ النقودَ في جيبِه وهو يراقبُ اختفاءَ السيّارةِ في بطنِ الظّلامِ بين حبالِ المطرِ وكتلِ الضّباب .. قفلَ راجعًا إلى منزلِه بعد أن خبّأ خمسَ حبّاتٍ من الكستناءِ لزوجتِه وأطفاله … مشى بخطواتٍ هزيلة يشوبُها العجزُ والإعياء… كان يتجنّبُ النّظرَ إلى الواجهاتِ الزّجاجيّةِ كي لا تنعكسُ ملامحُه الّتي تقطرُ حزنًا وألمًا …وكي لا يرى ألعابَ الأطفالِ تزدري عجزَه وقلّةَ حيلتِه .. وحتّى لا يرى الدّجاجَ المشويَّ الّذي يدورُ رامقًا بازدراءٍ فقرَه المتأصّلَ في أخاديدَ حفرَها البؤسُ فوقَ صفحةِ وجهِه المسكين … مجَّ لعابَه حسرةً على أطلالِ حلمٍ دائمِ التّلاشي … تمنّى للحظةٍ أن يفقدَ حاسّةَ الشّمّ كي لا يستنشق رائحةَ الشّواءِ التي نخرت عتباتِ الشّمّ لديه … احترمَ فقرَه وانصرفَ إلى أطفاله .. اشترى خبزًا ساخنًا من أحدِ الأفرانِ في طريقه للمنزل .. صعدَ الدّرجَ بخطواتٍ خجلى … فتحَ الباب ..هتفَ أطفالُه فرحين بعودةِ أبيهم … وزّعَ الخبزَ وبقايا الكستناء بينهم .. بدؤوا يلتهمون بنهمٍ شديد …خلعَ معطفَه المثقلَ بالشّقاءِ و جلسَ يراقبهم وهو يحتقرُ عجزَه … اقتربت أمُّ حازمٍ منه وهي تربّتُ على كتفِه وتهمسُ في أذنيه .. لا تهتمّ يا زوجي العزيز فقد غرستُ في أذهانِ أطفالنا أن السّعادة تكمنُ هناك في دارِ الخلود …وأن الفرجَ آتٍ لا محالة …. فانفرجت أساريرُه فجأةً حين لمحَ خاتمَ الزّواج البسيطِ الّذي يزيّنُ بنصرَ يسراها .. فرآه اليوم أشدَّ بريقًا من ذي قبل … وأكثرَ توهّجًا من ذاك الخاتمِ الفاخرِ في سبّابة تلك المرأة الثّريّة …وأحسّ بتيّارٍ من الرّضى يهمسُ له : أن الرّغيفَ الّذي يلتهمُه صغارُه الآن قد يكونُ حلمًا كبيرا لأطفالٍ آخرين مشرّدين في هذا العالمِ الكئيب …
.
.
فادية حسون.
Discussion about this post