Views: 0
ليس سيرة ذاتيّة وإن كانت الفقرة الأخيرة تفيض واقعيّة مؤرخة أدبيا فإنّ النص يفيض تمثّلا حسِّيًا عانق الحسّ الجماعي في بداية الثمانيات المغازل لقلمي.
بين ما “لمْ نكن” وما “كانت” :
لم نكن نملك ساعة حائطية في المنزل ترنّ على مسامعنا كلً ساعة لتُذكّرنا بما ينقص من أعمارنا، ولم نكن نملك دِيكا في فناء الحديقة المسيّجة بأعمدة الصبّار نستيقظ على صياحه. بل كنا نستيقظ على ضجيج الفؤاد الذي تحدثه أمي قبل شدْوِ الطير وهي تتحسّس القلال لتسكب لنا منها ماء زلالا حفظته من هطل الشتاء المدرار المرفق بنا في إبريق تمسكه بيمناها وترفع قراره بيسراها وهي تراقب إحياءنا بما يجعل كل شيء حيا ونحن نرش على وجوهنا حفنات ماء نحاول ضبطها وهي تنسكب منفلتة من بين أصابعنا لتروي أدِيمًا ينتظر استيقاظنا كلّ يوم جديد يُضاف إلى حبّ الأرض المسيّجة بزهرات العُمر المتكاثرة حول قبور الشهداء.
لمْ نكن نملك غازا في المطبخ بل كانت أُمي تُوقد النار بحطب كانت ترصّعه فوق سطح البيت منذ موسم جني الزّيتون لتنفخ فيه من روحها فنستمتع بهمس النار الموقدة وهي تستلهم الحطب المقلَّم من شجرة الزيتون في موقد من طين أتقنت خالتي تدليكه ليتقن بدوره تدليل حطب مُسَوّى من شجرة كبيرة عتيقة لا تمتثل إلا لمن يدرك أسرار الحُبّ التي تُصَيّر الجامد نارا تتأجّج بين الأضلع فنغمس في المطهوّ بعناية القبس الذي لا يلتهم إلا ليُشبع ومتى أشبع خمد وركن للراحة لننصرف إليه ونتقاسم لذّته ونحتسي شهده الموعود به تحت أقدامهنّ.
ولمْ نكن نملك مصباحا كهربائيّا يضيء بيتنا دفعة واحدة بل كانت أمّي تغزل لنا على دفعات من شعاع الشمس الحُبلى بتاء التأنيث المُضمَرة في إعجاز اللغة خيوطا تغازل نور الفجر وترفع على رؤوسنا ثريّات تتلألأ في كبد السماء لن يحجبها ظلام اللّيل مهما اسودّ وتغيٌبت عنه النجوم المصابيح لنسير دون توقّف في نفق حفرناه بمعاول من لحم وعظم لنصنع الخلاص من عالم اتسعت فيه بُقع الإيذاء.
لم نكن نستفتح وجباتنا بقطعة مرطبات نشتريها جاهزة من المخبزة القريبة جداً من بيتنا بل كنّا نتخاصم على مسك أكبر قطعة عجين تقسّمه علينا أمي لندلّكه على مائدة خشبيّة ونحن نمدّها تارة ونجزرها تارة أخرى حتى تسمعنا صوتا كانفجار بالونة تتعالى معه ضحكاتنا فرحا بجهوزيّتها للطهو في تنُّور/ طابونة توقدها أمي وتنتظر حتى تخمد نارها لتتمكّن من إلصاق قطع العجين على جنباتها وهي تضغط عليها من كل الجهات لتثبّتها القطعة تلو الأخرى حتى تنتهي وتغطّيها بقصعة حديديّة ونبقى ننتظر من سيفوز بحمل خبزة طازجة لجارتنا “أمّي فطّوم” كما يحلو لنا تسميتها لنسعد بدعواتها الجميلة التي نعيد قولها لأمّي بكلّ أمانة “يعطيك الخير ويجعل جيبك مليان وقلبك شرهان”
وبقلوب شرهة مطمئنّة نظل ننتظر قدوم العيد لتمتلئ جيوبنا ب( الأعياد نقدا ) ونعود إلى أمّي فطّوم فرحين بتحقيق دعواتها لنا فتضمّنا إليها بحرارة وتزيدنا على (أعيادنا عيدا) وتأمرنا بالعودة فورا إلى البيت لنسعد بلباس مطرّز يشبه لباس الأميرات.
فمن لا شيء كنّ يصنعن أشياء
بينما كنت ألهو بالحصى الموزّع في العتمات
طرّزت لي جدّتي ثوبا بأجمل الأغنيات
ورمت بي في أعتى الأمنيات
فاندلعت من الرماد شرارة الثورات
قضّيت الليلة أرقص فرحا بذاك الثوب المجهّز خصيصا لي على مقاسي رغم أنها لم تناديني لتقيسه عليّ لأنّها كانت تقدّر ذلك بحدسها . نعم هكذا كانت جدّتي بل هكذا كانت معظم الجدّات يحدسن ما ينوين فعله ومن فرط ثقتهنّ بأنفسهنّ كنّ يردّدن كما جدّتي تردّد بصوت عالٍ وثابت لا يعتريه أيّ ارتباك “أكيد سيأتيها بالضبط لا زيادة ولا نقصان”
ما أجمل اعتدادهن بأنفسهنّ !!! لم يتلقنّ ذلك لا في مدارس ولا في كليّات ولم يتحصّلن على شهائد في علم النفس التربويّ كما تحصّلنا عليها نحن ولم نستطع الاستغناء عن الرجوع إليهن للاستشارة متى عجزنا عن فهم أمر ما يتطلّب خبرة حسيّة ملموسة كانت منهلا للدراسات النظرية لاحقا.. ومتى أردنا فهم بعض الظواهر حتى الطبيعية منها.. فمن منّا لم يسأل جدّته عن بداية وانتهاء اللّيالي البِيض واللّيالي السُود أم أيام قرّة العنزة؟!
قضّيتُ الليلة أرقص فخرا بصنع جدّتي وإتقانها لذاك الثّوب المطرّز بعناية فائقة أرهقتني وأنا أبحث عن (غرزة) البداية و(غرزة) النهاية لفكّ شفرة الضّفيرة التي تحيط الثوب من أطرافه المترامية على ركبتيّ ومن حزامه المتدلي على خاصرتي وكانت أمّي في كل مرة أحاول فيها جذب خيط ما تمنعني محذرّة إيّاي أن أحدث به خرقا فيصبح غير صالح للارتداء… فأخاف أن أُحدث به ذلك وأكفّ عن صنيعي ولكن سرعان ما أعود إلى التّنقيب بإلحاح شديد يمليه عليّ حبّ اطلاعي أو بالأحرى فضولي في معرفة الشبكات التي مرّت بها أصابع جدّتي لتصنع لي ذلك الثوب المشتهى من قِبل صديقاتي وجاراتي اللاتي كنّ يمرّرن أياديهن عليه كمن تتفحصن قطعة قماش لمعرفة نوعها رغم أنهن لم تكن تميّزن بين الصوف والحرير.. كنّ يفعلن ذلك مجرّد تمرير الإحساس بمشاركتهنّ فرحتي. كم كنت أحبّهن .. بل كم كنّا متحابّات!!!
وبينما كانت إحدى الجارات تمسك بإبرة (كروشي) وهي تصنع غطاء وسادة ستخبّئها في جهاز زفافها كما تفعل كلّ الصّبايا بطلب من أمّهاتهنّ نزولا عند رغبة تقاليد أغلب الجهات أنذاك ، طلبت منها جذب خيط ما لأكتشف كيفية تصميم التّطريز فانساب الخيط بين يديّ ويالها من فرحة جعلتني أتتبّع مسار شبكة التّطريز حتى فُكّ كل التّطريز
فكانت المفاجأة عند فكّ آخر (غرزة) لمّا وجدت طابع الشّرِكة التي كان يباع فيها السميد الذي كانت أمّي تشتريه في كيس لتحوّله إلى خبز أو كسكس ..ذاك الكيس شبه الأبيض الذي اجتهدت جدّتي في محو كلّ الكتابة التي كانت مطبوعة فوقه لتحوّله إلى قطعة قماش تخيط لنا منها أثوابا تُجمّلنا
لم أحزن لأنني فكّّكت التّطريز الذي كان يشدّ الفستان بل كنت أقفز فرحا بما اكتشفت وأصيح عاليا حتى تسمعني أمّي وجدّتي ” فهمت كيفيّة التطريز…اكتشفت سر الفستان الأبيض… أدركت ذكاء وحِيل الأمهات والجدّات لإسعادنا !!!”
نظرت أمّي إلى صنيعي ولم تغضب ولم تلمني ولم تعاقبني لأنني حوّلت الفستان إلى قطع قماش بل إلى كيس غير متماسك …بل كانت تتأمّلني مليّا وتبتسم ابتسامة عميقة رمَت بي في متاهات التأويل :
هل هي فعلا سعيدة مثلي أم أنّ صنيعي أضحكها ؟!
هل نجحت في تمرير الإحساس بمشاركتهنّ الذكاء لاحقا؟!
هل أحسّت أنّني أفسدت عليهما حِيلهما فابتسمت لتمرّ؟!
هل فكرت على سبيل الافتراض أنني سأفعل ذلك فابتهجت بالنِّسبيّة المحقّقة؟!
أم هل كانت تستعدّ لِضَمّي عميقا بحُنوّ مطرّز منذ بداية النشء لن تفكّه أعتى الإبر ؟!!
كانت الأسئلة تهطل عليّ مدرارا متعاليةّ على أجوبة حينيّة تطرق رأسي وسرعان ما تنفلت من قبضة المُقنِع.
فكّرت في الانصراف إلى النوم لعلّي أُخمد حيرتي. وما إن وضعت رأسي على الوسادة حتى خُيّل إليّ أنّني أنام على قطعة قماش من ذاك الفستان…نهظت بسرعة البرق وأشعلت النّور لأثبت أو أدحض ظنّي .. وما إن لمحتْ أمي النور يتسرب من تحت باب الغرفة حتى قدِمت في الحين متسائلة عن سبب استيقاظي في وقت تعوّدت فيه على الغوص في النوم… لعلّها كانت تظنّ أنّني احتجت إلى شيء ما غير موجود بجانبي حذو فراشي أو لعلّها ظنّت أنّني أشكو من ألم ما …لم أجبها عن سؤالها وهي أيضا لم تُعِدْ السؤال… فقط أخذت منّي الوسادة التي كنت أمسكها بين ذراعيّ وأعادتها إلى مكانها فوق فراشي وهي تقول” نعم هو ذاك يا بنيّتي …نعم هو ذاك نامي وقرّى عينًا”
هكذا ومنذ تلك اللحظة
عزمت على مرافقة والدتي
كيْ أتعلّم منها كيف أغزلُ الصّبر
وأدقّه في نسيج يلمّ الشّتات
كلّما فرّقَت الفصولُ
أجسادا أنهكها التقلّب
نجوى الدّالي من تونس الحبيبة 🌴🌹💚
Discussion about this post