Views: 2
قراءة في مجموعة ( على شرفة القمر )
للشاعر رضوان الحزواني
. بقلم د. موفق السراج
صدر حديثاً ضمن سلسلة الكتاب الالكتروني عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2023 المجموعة الشعرية (على شرفة القمر) تأليف رضوان الحزواني .
ها هو ذا الشاعر رضوان الحزواني يطلُّ علينا من شرفة القمر ، بعد أن تيّمه الشعرُ في مجموعاته الثمانية السابقة ، وكانت أولى مجموعاته الشعرية ( على المرفأ) عن دار الثقافة الدمشقية 1990 ، ثم تلتها مجموعات عديدة ( عنترة وبوابات الشمس ) ( ليالي الأميرة شهناز ) (سيدة النخيل) ( فراشات ملونة ) ( لتلك التي أهوى ) ( طيارة من ورق للأطفال ) ( فراشات ملونة ) ( على شرفة القمر ) وله ( عطر الروح ) و( بلابل وعنادل ) مخطوطتان .
وإنّ عِلْمَنا بحقيقة القمر لن يمنعه من التأثير في نفوسنا الشاعرة ، ولا يمنعنا من حُبّ ضوئه الشاحب، ما دامت هناك نفس مستقلة عن الرأس فلا خوف على الشعر من العِلم ، شرفةُ القمر وَيا لها من شرفة يطلُّ منها على عالم مترع بالسّحر والجمال.
فنّه الشعريّ
شاء الشاعر أن يجعل من شعره يمامة ، ومن مفرداته أنهاراً وخمائل ، ومن أشواقه أوعية هوىً ونشوة وعطور ، وتَرَفُ القصائد عنده أن نكون ظلالها وبعضنا المستور ، تسابقه الرؤى على سبيل التوق إلى كوكب مسحور، وهو يذوّب الآهات في دمه ليسكبها شهداً وحبوراً ، ويعتّق الحروف رحيق حُبٍّ، وينسجها بروداً حريريّة مذهّبةً لأحبابه ، يقول :
أذوّبُ في دمي الآهــــاتِ شُهــــداً
فيقطــــرُ مــــنْ أنامليَ الحبــــــورُ
وعتّقْتُ الحروفَ رحيــــقَ حُــــبٍّ
لترشفَهــــا الكواكــــبُ والبــــدورُ
وأنســجًهـــــا لأحبــابي بُــــــروداً
حواشيهــــا مُذهّبـــــةٌ حريــــــــرُ
والشعر عنده خطابٌ ذو معنى وهدف ورسالة في ثوبٍ قشيب يغري المتلقّي، ويتسلل إلى قلبه وروحه وعقله، ليحتلّ مكاناً، وينتزع تأثيراً ، ويهدي أمّةً تعشق النّدى والصّهيل ، يقول :
هَلْ حَمَلْنا اليراعَ إلاّ لِنَهدي أمّــةً
تعشَــــقُ النّــــدى وَالصّهيـــــــلا
شعرٌ يترجم وجدان الإنسان، في أفراحه وأتراحه، ويترجم روعة الحياة في مسرّاتها ومآسيها، يطير جناحاً أينما يشاء بعيداً عن الوحول ، عربيٌّ حلو الشمائل، أصيل حسيب :
شَرَفُ الشِّعــــرِ أنْ يَطيرَ جناحـــــــاً
أينمـــــــا شــاءَ لا يَمَسُّ الوُحــــــولا
شــــرف الشِّعر أنْ يكونَ حسيبــــاً
طيّــــبَ الأصلِ لا يعيـــبُ الأصولا
عَرَبيٌّ ، حُلْوُ الشَّمائلِ يفتـــــــــــــرُّ
– جبينـــاً وغُـــرّةً وجديـــــــــــلا
رؤاه الشعريّة
مما لا شكَّ فيه أنّ الشّاعر ينبغي أن يكون عنده رؤيا شعريّة ،فمهما بلغ العلمُ الماديّ من تقدّم ورقيّ يظلُّ مادّة كثيفة لا معنى لها ما لم يتيسّر للعالِم ومضات من الرؤيا تضيء خفايا المادة ، وتكشف عمّا تنطوي عليه من حقائق خفيّة ، وإنّ الرؤيا الشعريّة نفاذٌ عبر الواقع اليوميّ والحالات النفسيّة حيث تهجع المنازع الأصيلة في ذات الشاعر وذات الحضارة التي ينتمي إليها ، ليكشف قيماً جديدة وعوالم رائعة ، والرؤيا الشعريّة تعني مواقفه من الوطن والأمّة والإنسان والحياة والعالم …. وكم من شاعر عاش ورحل دون أن يكون له أثر يذكر به بعد رحيله، لأنّه لم يمتلك تلك الرؤيا الشّعريّة , فما قيمة الشّعر إنْ لم يرصد ما يدور حوله من أحداث ، وما يعانيه الإنسان من هموم ومشكلات تؤرّق حياته ، وتهدم إنسانيّته ، وتجعل حياته خالية من البهجة والهناءة وراحة البال ؟ وما قيمة حياة المرء إن لم يكن ذا موقف مشرّفٍ واضحٍ فيها ؟
وقديماً قال النقّاد ( الشعر ديوان العرب ) ، أي هو سجلٌّ حافل لما يجري على هذه البسيطة ، فما نفتقد ذكره في كتب التّاريخ أحياناً ، قد نجده في قصيدة، والشّعر الحقيقيُّ هو الذي يجمع بين الفائدة والمتعة الفنيّة التي تؤثّر في النّفوس وتثير النشوة والجمال والسّعادة .
وقد وجدت الشّاعر رضوان الحزواني في مجموعاته الشعريّة صاحب رؤيا شعريّة تجلّتْ في مواقفه الإنسانيّة والوطنيّة ، رؤيا تؤدي دوراً تنويريّاً ، رؤيا فنيّة كشفاً ونقداً وتصويراً واستشرافاً ، بأسلوب شاعريٍّ فيّاض فيه الفائدة والفنُّ الراقي الممتع الجميل .
حماة في شعره :
حماة في شعره سلّةُ وردٍ ، بلابل وحمائم ، نهر وظلال ، قيمٌ توارثتها عن الأجداد، وحبُّه لوطنه يتجلّى أولاً في تغنّيه بمسقط رأسه (حماة) فيتغنّى بجمالها، وسحر طبيعتها ، ونواعيرها ، ونهرها الدافق الفتّان بقصائد كثيرة ، فإذا هو شاعر بارٌّ برحم البيئة التي أنجبته ، وفيٌّ لها كأحسن ما يكون الوفاء ، فمن شفاه العاصي رشَفَ القوافي ، ومن النّواعير تعلّم الهديل ، يقول :
مِنْ شِفاهِ العاصي رَشفْنا القوافي
والنَّواعيــــرُ لقَّنَــتــْنـــا الهديــــلا
كيف لا والناعورة حوريّة نهر العاصي تلهم البلابل والقماري أعذب الأشعار ، يقول:
تلقـــــاكَ ناعــــــــــورةٌ تُغــــــــنّي
حوريّــــة النّهـــــرِ والظِّــــــــلالِ
كم ألهمــــتْ بُلبــــــــلاً يُنــــاغي
قُمْريّــــةَ الحُســــنِ والــــدّلالِ
ونراه حيناً آخر يرى في صوت الناعورة ترداداً لآهاته وتعبيراً عن أشجانه ، فيخاطب قلب النّاعورة بقوله :
يا قلبَها المشجونَ صوتُـــكَ راعَني
إنّ الذي أشجــــاكَ قدْ أشــــجاني
لو كنتَ قلبي ما احتملْـتَ أثـــارةً
مما يكابــــدُ من لظى الحرمـــانِ
الوطن والعروبة :
وينطلق من حبّه مسقط رأسه ، ليعبر عن حبّه العميم لسوريّة الحبيبة ، فيرى في الشّام منارة الفتح ، منطلق الخيول البيض ، عرباء العرين، الأمل في دحر العدو الصهيونيّ، وإعادة الحقّ إلى أصحابه الشرعيين ، وحين دمّر هذا العدوّ مخيّم ( جنين ) بعد مقاومة بطوليّة نادرة ، تفاعل الشاعر مع الحدث وصرخ في وجه الصهاينة :
أَجِنِـينُ ! لا..لا تُغْلِقِي الأبوابَ إنَّـكِ في الْعُيُـونْ
اَلشَّامُ مُنْطَلَـقُ الْخُيولِ الْبيضِ ، عَرْبَـاء الْعَرينْ
كالجمْرِ تَنْتَظِـرُ الأذَانَ وَصَهْلَـةَ الْفَـرَس الْحَـرونْ
فَالشَّـامُ كانَتْ مَـا تَـزالُ مَنـَارَةَ الْفَتْـحِ الْمُبـينْ
وحين سقطت العاصمة العربيّة العريقة (بغدادُ ) تحت جحافل الاحتلال الأمريكيّ، ظهر الأسى عميقاً على الشّاعر ، وانسحب هذا الأسى على الشّام بأسرها ، كيف لا وهي مهدُ الحضارة والقوميّة العريقة ، وقاسيون قلبها على المدى ، وهي قلب الشام النّابض، ثمّ طمأن الشاعرُ العراقَ الشقيق بأنّ الأمل كبير بالتّحرير بمساندة الشام للبلد الشقيق ، يقول :
بغــدادُ ! قلبُكِ قاسيونُ عَلَى الْمَدى
وَلَأَنتِ قلــــبُ الشَّــــامِ يا بغــــدادُ
والشّـامُ معـــراجُ العروبــةِ والعُــلا
ما دامَ فيهـــــا صــــــارم وجَـوادُ
والمحنة المؤلمة التي عصفت ببلدنا الحبيب فيما أطلق عليه الغرب (الربيع العربي) عام 2011 ، لم تغب عن شاعرنا ، فكتب العديد من القصائد التي تندّد بهذه المؤامرة الكونيّة الكبرى ، ومن وقف وراءها ، وسار في ركبها ،ممن حطّم عشّ الحمام ،وسرق خاتم الخطوبة ، وداس على رسم شبابها الجميل ، يقول في قصيدة عنوانها ( التتار) :
حطّمــــوا عشّنــــا الوديعَ وهاضوا
ريشّ صــــدري لـمّـا أظلّ الزّغابــا
سرقوا خاتَمَ الخطوبةِ ـ داســــوا
رسْمَنا الحلوَ حينَ كنّا شـــبابـــــا
ما تريدينَ مِنْ قلــــوبٍ عِجافٍ
لم يدغدغْ فيها الظّلامُ شهابا ؟
والشاعر يحدوه الأمل بانتصار سورية ، وتحقيق آمال كالثلج الطّاهر في ذرا جبل العروبة المهيب ، ولسوف ترفّ السّنابل في الفجر المندّى بعد السّنوات العجاف، بصور جميلة يستلهم فيها التراث وتذكّرنا بقصة يوسف عليه السلام ، وكيف تحقّقَ الحلم بعد سلسلة من المعاناة والغربة والآلام، ويبشر بعودة الأمان والاستقرار إلى ربوع الوطن كي يكون سليماً معافى وأقوى مما كان عليه قبل المحنة ،يقول :
آمالُنا كالثّلج طُهراً في ذُرا جبل ٍ مَهيبِ
ألقَوا بها في البئرِ وانقلبوا على دَعوى كَذوبِ
وتبيعُها سيّارة بخساً إلى بلـدٍ غريبِ
لكنّما بعدَ العجاف تُغاثُ أوجاعُ السّهوبِ
والسّنبلاتُ ترفُّ في الفجرِ المندّى بالطّيوبِ
آمالُنا مهما أرادوا وأدَها ستعودُ كالصُّبحِ الحبيبِ
ومن قلب المعاناة والجراح والآلام ، تظلّ بوارق الأمل تطلّ باسمة، ويظلّ التفاؤل يغمر النّفوس ، ويظلّ النّور يومض في القلوب ، ومن عيون الشّام تشرق الشّمس وتتلألأ النّجوم ، وتورق الآمال ، يقول:
لم يزل في القلوبِ ومضــــةُ نـورٍ
ربّما بــــاحَ بالجــــوابِ السُــــؤالُ
من عيون الشــــآمِ تشرق شمسٌ
ونجــــــومٌ وتـــــورقُ الآمــــــالُ
النزعة الإنسانية
الغزل :
وأما النزعة الإنسانيّة في شعر شاعرنا، فهي واضحة بجلاء، ولا سيَما في قصائد الحبّ العديدة التي نجدها هنا وهناك ، والحبُّ عنده له دفءٌ وتعلّقٌ بالقمر والخضرة والحلم اللذيذ، ومن حرم هذه النعمة بما فيها من مرارة وخيبة وألم وأمل لا تفيده الشروح مهما طالت ولا الكلمات مهما دقّت ، الغزل عنده خلجات النّفس، ومناجاة قمر ، وبوحُ بنفسج، ونكهة نعناع، وأحلام وردية، وهمسات دافئة ، ونجمات بعيدة المنال، وروح ترقى إلى أجواء سماويّة، بعيداً عن الحسّ والتجسيد كقصيدة هند :
تَلَفّتَ طَــــرْفٌ على لهفـــــــــةٍ
لِيشهدَ بينَ النُّجيمــــاتِ هِنـدا
مَدَدْتُ إليهــــــا جنـــاحَ وِدادٍ
فَضاءَتْ شموسٌ منَ الثّغرِ وُدّا
وتَدنو وتَغمرُني نفَحــــــــاتٌ
فأنهـــلُ كأسَ الهنـاءةِ شَـهدا
مع الأسرة :
الشعر هو عبير الرّوح ، وربيع الحياة ، يغرف من بحر العواطف، ليكون مع الإنسان في كل شأن ،ولن يبذر حقلاً ، ولن يسعد روحاً مالم يملأ بخياله درب الأمل الجميل ،ولن يُسرَّ نفساً ما لم يعُدْ إلى شاطئٍ وأرضٍ وخَلْقٍ وعلاقات أسريّة نبيلة, ولأسرة الشاعر نصيبٌ وافر من التعبير عن الحبِّ لها ، ويجد اللذّة في أن يفرش لأبنائه درب الحياة أزاهراً، ويسقيها الماء الزلال، ويسدّد مسراها غير عابئ بالشّوك يدمي قدميه ،يقول :
فرشْنا لها دربَ الحيــــاةِ أزاهــــــراً
وأقدامُنا تدمى على الشَّوكِ والجمرِ
نســـــدّدُ مَســراها بكلِّ ثنيّــــــــةٍ
نُحصِّنُهـــا بالمحكمــاتِ منَ الذِّكـرِ
ولم نســــقِهــــا إلاّ زلالاً ، ولم نكنْ
نصيـــدُ لهـــا إلاّ اللآلئَ في البحــرِ
والشّعر رفيق حياته ، يرقّ إذا رقَّ ، ويثورُ إذا ثار، يعذُبُ إذا عذُبَ، ويضطربُ إذا اضطرب، يحزن لحزنه، ويفرح لفرحه، ويصفو بصفاء نفسه، ويغيم بأشجانه، ويجيش الشّوق والحنين إلى الأبناء المغتربين، وحين سافر ولده الطبيب انفطر قلب الشّاعر حزناً على فراق فلذة كبده ، فكتب قصيدة إنسانية يبثّ فيها لوعته وأساه ، حيث يقول :
رَحَلَ القلبُ إذْ نويْــــتَ الرّحيــــلا
يَرْمُــــقُ الدَّرْبَ واجمــــاً مَذهـــولا
وَتَـرامى على تُخــــومِ الفَيـــــافي
يَسْــألُ الآلَ أنْ يَبُـلَّ غليـــــــــلا
وَتَوارَيْتَ .. غَيــرَ أنَّ فُـــــــــؤادي
مــا تَـــوَلّى ، يَـراكَ فيــــهِ نَزيــلا
لكنّه يتمالك نفسه، ويوصي ابنه وصايا أبٍ عطوف، وحكمة رجل مجرّب سعى وكافح في بلاد الله جبالاً وسهولاً يضع عينيه في أحداق الناس، وقلبه بين أضلعهم، ليحصد الحمد والثناء الجميل بقوله :
لَسْتُ أثنيكَ عنْ كفــاحٍ وسَـــــــعيٍ
سَلْ جِبـالاً ذَرعْتُــهــــا وَسُـــــــهولا
كُنْ كما تَرْتضي المعالي عَليّـــــــاً
وكَمــــــــا أرْتَـجي أبِيّــــــاً أصـلا
وازرعِ الحُبَّ في النُّفوسِ سَخاءً
تحصُدِ الحمدَ وَالثّناءَ الجميــــلا
وأيُّ سعادة أجمل من سعادة جَدٍّ يرى الحفدة من حوله يطيرون كالعصافير، ويغرّدون كالبلابل، وينسجون الأحلام الجميلة كالأزهار، يقول :
لا عَدِمْتُ الأحفادَ طاروا عصافيـرَ
حبـــورٍ وَزَقْـــزَقــــاتِ كَنــــــــارِ
مــا أُحَيْـلى طَوافَهـمْ حَـولَ قلبي
فَأخالُ الأفْلاكَ طَــــوْعَ مَــــداري
يَنْسُجونَ الأحْلامَ بيضاً وَخُضراً
أيـــنَ مِنْهـــا مَشــاتــلُ الأزهـــارِ
وذات يوم جمعَتْهُ بأبنائه المغتربين قهوة الصباح عبر الأثير ، وتبادل معهم صورها وأشعارهم بها ، فرفرف الشوق وانشرحت جوانح الدار وعبق أريج القهوة السمراء ، واشتاقت الفناجين ليجتمع شمل الأسرة تحت ظلّ الياسمين، فكانت قصيدة ( قهوة ) تعبيراً عن هذه الصورة الإنسانية المفعمة بالشوق واللهفة والحنين ،فتشعر كأنّك معهم ترتشف قهوة الصبح ، يقول :
هذي الفناجينُ لـمّت شملَ أســــرتنا
عبرَ الأثيـرِ فطـابَت قهــــوةُ الصُّبحِ
ورفرفَ الشّوقُ والأرواحُ وانشرحَتْ
جوانحُ الدّارِ بينَ الوجْــــدِ والبَوْحِ
وظلّتِ القهوةُ السّــــمــراءُ عابقـــةً
أريجُها يلثمُ الأطيافَ في السَّفْــــحِ
ليتَ الفناجينَ في داري تُنادمهُــــمْ
والياســميـنُ تـــدلّى فاغِــــمَ الرَّوْحِ
مع الأصدقاء
وتحفلُ أشعاره بكثير من العلاقات الإنسانيّة الواسعة مع الأصدقاء من الشّعراء والأدباء ، وما دار بينهم من مساجلات شعريّة تصل إلى حدّ الظرف والدّعابة في بعض الأحيان ، فالشّعراء كوكبة مثاليّة ، يتخاطبون فيما بينهم بلغة مثاليّة ، من صوبٍ إلى صوب في العالم ، وخلال العالم وفوق العالم، والشّعراء أذواق وبيئات ومجامر بخور، بينهم من يعيد إليك صفو الحياة، ويدفعك في تيّار الحبِّ إلى مزيد من الحبّ، فيسهم في تكريمهم ورثاء الراحلين منهم ، ويتتبع أخبارهم وقطاف أقلامهم، وحين أهداه الشاعر محمد عدنان قيطاز كتابه ( سلاف وقطاف ) كتب له :
مُزهِــراتٌ هيَ السّطــــورُ لِطـــافُ
والشّــذا في حروفِهـــا رَفّـــــــافُ
كم قصدْنا أبا فراسٍ ضيــــوفـــاً
وعلى الرّحــبِ يمرعُ الأضيــــافُ
لقّنتْه الطيـورُ أحلى القــــــوافي
والصّباباتُ في الحروفِ رِهـــافُ
وما دامت هناك حياة فهناك شعر ، فالشّعر أنفاس الإنسان وسلواه إذا اشتطت الخطوب ،ينتشله من هوّة الكروب يسرّه رغم الأسى، يواسيه بلا تربيت ، يكفكف دموعه بلا مناديل ، والشّعراءُ بينهم من يعبّر عما يجيش في صدرك، يبوح بأسرار قلبك ، ويسفح أشواق القوارير من عطرك ، ويحكي عن جواك ولهفتك ، فيقول مخاطباً صديقه غازي خطاب :
كأنّــــكَ في صَــدري تبـــوحُ بسـرّهِ
وتسفحُ أشواقَ القواريرِ منْ عطري
كأنّكَ تحكي عنْ جَــــوايَ ولهفتي
لحبّاتِ قلبي غِـبْنَ عنْ ضفّـةِ النّهـرِ
ولم تقتصر صداقته على الشعراء فحسب ، بل اتسعت دائرة الصداقة إلى الأدباء والنقّاد جميعاً، يستأنس بآرائهم، ويأخذ بنصائحهم، فها هو ذا يطلب من النّاقد الدكتور عبد الفتاح محمّد أن يوجّه دفّة الإبداع ، وأن يهدي يراعه لتنتظم السّطور ، وتصل إلى آفاق حلوة طليقة في عالم الشعر ، يقول :
فهاتِ شِراعكَ الميمونَ يهــــــــدي
يراعي إنْ طغى البحــــرُ الكبيــــرُ
تُوجِّــهُ دُفّـــــــةَ الإبــــــداعِ روحٌ
مُبــــارَكةٌ فَتـنـتـــظِـمُ السُّطـــورُ
نُيمّمُ عالَمــــاً حُلـــــواً طليقـــــــاً
شمائلُــــهُ السّــــماحـةُ والشّـعورُ
وتتسع دائرة الصّداقة إلى أرباب الفنّ التشكيلي ، فالشّعر فنٌّ يرسم لوحة بالكلمات، ولكنّ وظيفة الكلمات ليست الرسم فحسب ، بل تتجاوز مخاطبة العين ، وانعكاس اللّون ، وتحسّس الكتلة والحجم والتشكيل، تسعى إلى إقامة علاقة فذة بين المدهش والمثير، والسّاطع والجميل في معادلة يتنافس فيها الواقع والخيال ، تتكامل فيها الفنون من رسم وموسيقا وشعر ، تشترك فيها الصورة والعطر والغناء واللحن والحركة والسكون ، تستمتع بها حاسة السّمع والبصر والشّم ، وتشكل رؤية في فلك الروح والقلب ، فنجده كلّما عرض الفنّان نزار قطرميز لوحة جميلة علّق عليها بأبياته ، يقول :
يا ريشةً أبدعَتْ كوناً من الصّــــورِ
ألوانُها رعَشاتُ العطرِ في السَّحَـــرِ
خرســاءُ ناطقـــةٌ هيفــــاءُ راقصـةٌ
رفّـتْ تُـدغِـدغُ ألحانـاً على وتَـــــرِ
وتتسع الدائر لتشمل طلابه الشّباب ، يفيض عليهم من معين اللغة العربيّة، ويسدي النصائح لهواة الشّعر ،وحين تعرضُ عليه شاعرة إحدى قصائدها ، نراه يثني عليها مشجعاً بقوله :
قد توّجتْـــكِ يَـــدُ القصيدِ أميـرةً
وملكْتِ عرشَ الشّعرِ دونَ نِـــزاعِ
أنا لا أجامل بل قطفتُ قصائــداً
نبتَــتْ على شَفتيــكِ كالنّعنـــاعِ
خاتمة :
وبعد هذا العرض الموجز للنزعة الوطنيّة والإنسانيّة عند الشّاعر رضوان الحزواني ، لا بُدَّ أن أقول إنّ الشّاعر قد كتب قصيدة العمود في أغلب أشعاره وكتب قصيدة التفعيلة أيضاً ، فكان مبدعاً في اللونين ، وكان محكم النسج ، عذب البيان ، متمكّناً من أدواته وفنّه الشّعري ، مصوّراً بارعاً ، ذا خيال خصب في التعبير عما يريده من معانٍ ، فيحفل شعره بالصّور المبتكرة ، والرموز التاريخيّة ،واستلهام التراث ، وإسقاطه على الواقع ببراعة ، فلا يغرق بالتعبير المباشر الذي يفتقد الرقيّ الفنّي المؤثّر في النفوس، وهذا ما يجعله جديراً بالقراءة، وذا مكانة بارزة مرموقة بين الشّعراء المعاصرين.
د. موفق السراج
ألقيت المحاضرة في حفل تكريم الشاعر
في مديرية الثقافة في حماة 12 / 12 / 2021
ونشرت في مجلة الموقف الأدبي العدد / 623/ آذار2023
Discussion about this post