Views: 3
قراءة في قصيدة الشاعر القدير … محمود صالح
يا حبيبتي .. أثِقُ بالقصيدةِ
عندما تُلقي برأسِها المُجْهَدِ على صدرِك
لدَيها من الوفاءِ ..
ما يمنعُها أنْ تترُكَ أمواجَ الكلماتِ
دونَ مُشاكسةِ نوارِسِك
أثقُ بعينيكِ لأنّها تُتْقنُ مُغازلةَ عينيهَا
لديكِ من الائتمانِ ..
ما يجعلُكِ تُعيدينَ لها أرصِدةَ قلبِها
حينَ تنسى خَفْقَهُ غافيًا تحتَ عِرْزالِ أهدابِك
سلمى ..
ظلُّكِ المُنفلِتُ الذي نُلاحقُهُ على جُرْفٍ
يحوكُ قناطرَ الشَّمس ومقاماتِ الصَّباح
شالُكِ المُونِقُ الذي ألقيتِهِ
على جسَدِ القصيدة
يعدو على ظَهْرِها أنفاسًا خضراءَ مُورِقَة
يرسو على عُنُقِها شامَةً هيفاءَ نافِرَة
أخبريني سلمى ..
وأنتِ تفيضينَ بمَلَكُوتِ السَّنا
على أيِّ الضِّفافِ زرَعْتِ زَهْوَ سُنبُلتِك؟!
سأُيمِّمُ آثارَ يقينِكِ
قبلَ أن تتخثَّرَ أُمنياتُ الوطنُ وتتلعْثَمَ خُطاهُ
سأحرُثُ ما احلوْلَكَ من إرْثِ مَسراهُ
وأحصُدُ ما احْلَوْلَى من ميراثِ معارِجِه
فأنا أحْرَصُ الحُرَّاسِ
على أسرارِ رِسالَتِهِ وحُرُمَاتِ مِحاريبِه
********
وأنتَ القابعُ في تسابيحِ الرَّجاء
واليانعُ بنَدِيَّاتِ الدُّعاءِ و محظِيَّاتِ خُضْرتِه
لِمَ لمْ تدَعْ لي نوافذَ العُشْبِ ومنافِذَ الأفياء
لأَخلعَ معاطِفَ الفَيافي
وأحصُدَ حَدَبَاتِ اليَبَاب؟!
قدَري أنْ ألتَقِيكَ في ريْحَانةِ الصَّبر
وأُسامِرَكَ في رحَابةِ الشَّوقِ
وعلى حَوَافِّ التَّعاريجِ المُشْجِرَة
أُلوِّحُ لكَ بأعشاشِ الحنين
يا شاعري .. أكُلَّما نظرتُ إلى عُيونِ غَيمَتِك
فاحَ سُفُورُ كُحْلِها بسِفْرِ الآسِ والصَّنَوْبَر
قُلتُ لكَ حبيبي .. أنا لا أكرهُ جمالَ قُدسِك
ولكنَّكَ تجعلُني في كلِّ نفْحةٍ
أتألَّمُ لشدَّةِ جمالِها
ومهما أبْعَدَتْنِي عنكَ أرْتالُ الغَسَقُ
وحلَّقتُ بعيدًا في أوْرِدَةِ الأُفُقِ
لن أُحلِّقَ أبعدَ من ريشِكَ المتساقطِ بالألق
على قِبابِها الحزينةِ وشبابيكِها اليتيمة
كنتَ عاهَدْتَني أن لا تدَعَ الحساسينَ
تبكي على زُروعِ شُرُفاتِها
وتنزِفُ عشقًا على صُدُوعِ عتبَاتِها
ولكَمْ أوقدْتَ لها أحداقَ حرفِك
وبذلْتَ لها أرواحَ قوافيكَ وحُوريَّاتِ رُؤاك
ألهذا يا حبيبي تتعثَّرُ دِماكَ
حينَ تُصغي لرفيفِها المُباغِتِ
وهي تبتكرُ فجرَها
في ذاكرةِ النَّدى وتتعرَّقُ بالحُقُول؟!..
لن تذبُلَ أزهارُنا .. لن تُجفِلَها مناجِلُ الغِياب
سنبقى أُمومَةَ المطرِ وَعائلةَ الشِّعرِ
وسُلالةَ الهوى ونُسْغِهِ المغدور
سنبقى يا حبيبي ..
نتلمَّسُ راحَةَ القصيدةِ وإنْ غضَّنَتْها الرِّياح
ونُدوِّنُ أضاميمَ الكلماتِ
ونضمُّها بأَذْرُعِ الشَّاهِدة
وحُضْنٍ عن الشَّهادةِ لا يتوووب
يعتمد الفعل الإبداعي والنزوع الجمالي الذي يمارسه خيال الشاعر في تخليق الرؤية وتشكيلها على نحو إبداعي وجمالي ينبض بالإيحاءات _كما يبدو_ على طاقة اللغة الانفعالية، بما تحمله من مقومات مجازية واستيعابية تستوعب التجربة الوجدانية، وعلى بعض العناصر النصية مثل الأبنية النحوية والسياقية، لما لها من أهمية في إنشاء التوقعات لدى المتلقي وتنشيط ما لديه من خبرة ووعي وحس ثقافي يجعله قادرا على ممارسة نوع من المرونة التأويلية، واستثمار بعض الظواهر الأسلوبية في تشكيل جمالية القصيدة، وتداخل الأشكال التعبيرية الذي يساهم في تقديم التجربة في فضاء غير معتاد يحقق اللذة الجمالية وفاعلية التلقي. حيث تتشكل الدلالة من خلال جدلية العلاقة التي تربط بين عناصر النص وتضافر المكونات البنائية في تشكيل جمالية القصيدة. وللشاعر في هذا المجال بصمته الذاتية وإيقاعه المختلف الذي يميز شعره عن غيره …
يهيئ النداء في مستهل النص (يا حبيبتي ..) بوصفه وسيلة من وسائل التعبير وإجراء الحوار فضاء شعريا يتيح للشاعر تقديم تجربته الشعرية بما ينسجم مع تيار الشعور والوعي بالسياق الواقعي من حوله، وبما يحقق شعرية الرؤية …
لقد استطاع الشاعر _الملتزم بقضية وطنه والمسكون بعشق الأرض_ أن يوجه الدلالة بهذا النداء ،الذي يشكل نقطة ارتكاز فني وشعوري في النص، حيث تتخذ الأرض صورة الحبيبة التي تهيمن على شعور الشاعر وتتماهى فيها، وأن يستفز أفق توقعات المتلقي وتهيئته لتلقي الخبر ما وراء النداء …
وقد اتخذ الشاعر من الفراغ (..) وسيلة فنية تضفي على لغته كثافة شعورية وتركيزا في الدلالة، تتيح للمتلقي التفاعل مع النص وبناء سياق توقعاته من المسكوت عنه، لعله صمت يوازي حدّة المشاعر والانفعالات المكبوتة في أعماق الشاعر شوقا وحنينا وقهرا بعيدا عن الوطن … فنداء الحبيبة (الرمز) جاء توجيها للمعنى وتشخيصا للأرض بما تحمله من قيم معنوية ورمزية في وعي المتلقي، وتحقيقاً لوجودها الشعري على نحو تتحقق به أبعاد الرؤية … حيث يحاول الشاعر بحساسيته الفنية استحضار الأرض (الحبيبة) وأنسنتها في عالمه الذي ابدعه، للبوح بما يختلج في وجدانه من الم البعد وأوجاع الغربة والشتات، والشعور الحاد بالحاجة إلى تجاوز المأساة في أحضانها، إذ لا أمن ولا أمان ولا طمأنينة للشاعر الممثل (للشعب الفلسطيني) إلا على ترابها، وكيف لا وهو المنتمي لهذه الأرض التي يحب ويعشق انتماء الإبن لأمه (أثق بالقصيدة … عندما تلقي برأسها المجهد على صدرك)، هي حالة توق وانفعال ماثلة على الدوام في وجدان الشاعر المعبّر عن ضمير الشعب الفلسطيني، بدلالة الفعل (أثق) بما يفيده من معاني الحضور الشعوري والاستمرار. فالقصيدة هي صدى رؤية وانفعال الذات الشاعرة التي تمثل الذات الفلسطينية، حيث تستمد الرؤية شعريتها من خلال حدس الشاعر ووعيه بالواقع من حوله، وهو ما ينعكس على بنية (القصيدة) التي ترتبط ارتباطا عاطفيا بقضيته وتمثّل تجسيدا لمرجعياته التراثية بأبعادها الثقافية والفكرية والشعورية، والتي اتخذها الشاعر رمزا ومعادلا موضوعيا للشعب الفلسطيني، من حيث هي رمز للواقع المتشظي وعذابات الفلسطيني في الشتات، والاشتراك بثيمة الوفاء والانتماء وإحياء الذاكرة، والحرص على إبقاء القضية حاضرة على الدوام، وإبقاء جذوة الثورة مشتعلة من أجل تحقيق المطالب (لديها من الوفاء .. ما يمنعها أن تترك أمواج الكلمات .. دون مشاكسة نوارسك.. أثق بعينيك لأنها تتقن مغازلة عينيها).
فما زال الشعب الفلسطيني مؤتمنا على قضيته وفيا مخلصا لأرضه، يدين لها بالولاء والانتماء. وما زال عشق الأرض ينبض في وجدانه ما يجعلها عصيّة على النسيان (لديك من الائتمان .. ما يجعلك تعيدين لها أرصدة قلبها .. حين تنسى خفقه غافيا تحت عرزال أهدابك).
هكذا يوحد الشاعر بين شعبه والقصيدة حين أضفى عليها بعدا إنسانيا وشيئا من منطوياته الداخلية، والتي تكرّس حقيقة إنتماء هذا الشعب لأرضه وإخلاصه لقضيته وحقه المفقود. وليس من العبث استخدام الشاعر في المشهد أفعالا ذات دلالة حضورية، ولكن لتكريس المفهوم الذي يريد إيصاله وهو الانتماء وعدم النسيان (أثق، تلقي، ما يمنعها، أن تترك، تتقن، ما يجعلك، تعيدين، حين تنسى) مستثمرا إيحاءاتها وتداعياتها التي تثيرها في النفس، ودلالاتها الرمزية التي تفيد استمرار الحالة، وتشي بحالة شعورية ونفسية وذهنية مسيطرة.
ويحرص الشاعر على تقديم تجربته بوصفها مواقف وانفعالات تعتمد على الحكاية، ويشكل الخطاب الشعري في النص فضاء يضفي خصوصية شعرية بما فيه من تداخل بين عوالم الحقيقة والخيال …
ف (سلمى .. ) القريبة البعيدة، القريبة المتغلغلة في وجدان الشاعر بدلالة حذف أداة النداء، والبعيدة الغائبة بدلالة ظلها المنفلت (ظلك المنفلت)، فالظل دلالة وجودها ولكنه (منفلت) بمعنى التيه والضياع والتحول إلى الغياب.
ولمّا كانت (سلمى) شخصية هذا الفضاء الشعري خيالية من اختراع الشاعر، تشكلت لتقدم حقيقة جمالية تنسجم مع تيار الشعور ووعي الشاعر بقضيته، تحولت دلالتها إلى رمز يحيل إلى قضية التيه وغربة الشعب الفلسطيني، الذي حمل قضيته في وجدانه على الرغم من التحديات والصعاب ساعيا يبني آماله الكبار في أن يرى نور الحرية والخلاص (ظلك المنفلت نلاحقه على جرف .. يحوك قناطر الشمس ومقامات الصباح). هكذا يرتفع الشاعر بوعيه الجمالي على مستوى الرمز والتشكيل الجمالي، من المستوى الذاتي إلى مستوى الذات الجماعية بدلالة ضمير الجماعة في (نلاحقه على جرف). فالقضية الفلسطينية هي هم ومسؤولية كل الشعب الفلسطيني … وما زال يحملها على عاتقه عقيدة راسخة في اللاوعي حية وحاضرة، تشعل جذوتها في وجدانه فتبعث فيها الروح ويتجدد الأمل. فما دامت القضية حيّة مادام الشعب الفلسطيني حّيا تشكل القضية حاضنة لهويته ووجوده (شالك المونق الذي ألقيته .. على جسد كالقصيدة). وما زال الفلسطيني يفتخر بحمل أمانة قضيته المقدسة على عاتقه _محور نضاله وتضحياته وحلم خلاصه_ التي باتت شامة عز وفخار وكرامة ووفاء يعتز بها الشعب الفلسطيني، على الرغم من التشتت والتيه والقمع والجراح (يعدو على ظهرها أنفاسا مورقة .. يرسو على عنقها شامة هيفاء نافرة) …
يقوم النص على السرد الحيوي واعتماد استراتيجية تعبيرية في بناء أنساقه الدلالية والجمالية، تقوم على تضافر الظواهر الأسلوبية والبلاغية، حيث تصاغ صياغة حيوية تعكس الموقف الشعوري والرؤية الشعرية. ولعل استخدام صيغة الأمر في العبارة (أخبريني سلمى .. وأنت تفيضين بملكوت السنا) جاءت لتحقيق الفاعلية الشعرية والإثارة وجذب انتباه المتلقي لأهمية ما يراد من الاستفهام في العبارة التالية (على أي الضفاف زرعت زهو سنبلتك؟!). وبين التساؤل والإخبار يكون التوقع الذي له دور في تشكيل الفكرة … وكأني بالشاعر يخاطب الذات الفلسطينية التي تجسدت في صورة (سلمى) ويستفهم عما تجلى فكرها ومشاعرها من أجل الخلاص والحرية. لكن صيغة الاستفهام خرجت في العبارة عن دلالتها في السياق الإخباري الطلبي من حيث انتظار الإجابة عن السؤال إلى دلالة أخرى مجازية، حيث إن لجوء الشاعر إلى استخدامها جاء _كما يبدو_ من أجل ترسيخ فكرة تُوضّح الاستراتيجية التي على الشاعر الذي يمثل الشعب الفلسطيني أن ينتهجها من أجل الخلاص، نستشفها من خلال القرائن في سياق النص، وهي _ حسب الرؤية_ الإيمان بالفاعلية والثورة النابعة من العقيدة الثابتة بحق العودة وعدم النسيان أو اليأس وفقدان الأمل (سأيمم آثار يقينك .. قبل أن تتخثر أمنيات الوطن وتتلعثم خطاه)، وتهيئة أرض الواقع والأجواء للثورة والتغيير من أجل التحرر من ربقة الظلام ( سأحرث ما احلولك من إرث مسراه) للارتقاء بحصد منجزات الثورة وتحقيق الوعد (وأحصد ما احلولى من ميراث معارجه).
ولعل في الإشارات التناصية مع النص الديني (قصة الإسراء والمعراج)، واستثمار الإيحاءات والتداعيات والدلالات الرمزية التي تثيرها في المتلقي، ما يسهم في تجسيد الرؤية التي تعدت حدود الذات، وهي أن الثبات على الحق في مواجهة التحديات يحقق المعجزات … فقصة الإسراء تحمل دلالات الثبات على العقيدة والتحدي وانتصار الحق … وقد حرص الشاعر وهو يبني هذا المعنى الشعري على استخدام الأفعال المتضمنة ضمير أنا المتكلم (سأيمم، سأحرث، وأحصد)، على ترسيخ فكرة الانتماء وامتلاك الإرادة والقدرة على التغيير والفعل لتحقيق الغاية، من منطلق الرؤية الشعرية وهاجس التحرر الذي يشغل الشاعر، باعتباره صاحب رؤية وبصيرة وحامل رسالة، والأمين على إيصالها من اجل تحرير الأرض ومقدساتها ( فأنا أحرص الحرّاس … على أسرار رسالته وحرمات محاريبه) …
إن ما يميز هذا النص هو معماره الفني الخاص، وبراعة الشاعر في استغلال جماليات اللغة واستثمار إيحاءاتها وطاقاتها التصويرية بما تقتضيه الحالة الانفعالية .. فكسر السياق في هذا الانتقال المفاجئ، الذي يكبح اندفاع التداعيات التي تُرسّخ فكرة الخروج من دائرة السكون وامتلاك الإرادة والقدرة على التغير والفاعلية، يُبرز هذا التناقض الحاد بين وعي الشاعر وموقفة من أزمة شعبه وبين موقف الأمة كما تصوره العبارة ( وأنت القابع في تسابيح الرجاء .. واليانع بنديات الدعاء ومحظيات خضرته)، وهنا يكمن إبداع الشاعر باستثمار المفردتين (وأنت القابع ، واليانع) في وصف حال الأمة، بما تستبطنان من معاني اللامبالاة والاستهتار وعدم الفاعلية والخلود إلى الراحة والتي هي آفة النجاح. فالخطاب هنا فيه إدانه واتهام ومحاسبة للأمة على التقاعس والتخاذل والتواكل وعدم النصرة.
إن وعي الشاعر سبب أزمة شعبه والتيه والتشرد الذي لاحقه وأصبح الترحال جزءا من حياته، كان له أثر في تغيير الحساسية الشعرية لديه، وفي دفعه إلى التغيير في لغته وأسلوبه بما ينسجم مع الرؤية والموقف الشعوري، فأتاح الخطاب الشعري له المساءلة والاحتجاج واتهام الأمة بالتقصير تجاه قضية شعبه (لِمَ لم تدع لي نوافذ العشب ومنافذ الأفياء .. لأخلع معاطف الفيافي .. وأحصد حدبات اليباب؟!). وربما جاء الخطاب بصيغة المفرد والمقصود هو الأمة، وقد سدد لها سهام الاتهام (وأنت أيها العربي القابع في تسابيح الرجاء)، بقصد تقزيم دور الأمة الفاعل والمتخاذل في نصرة قضية شعبه … ولذلك كان قدر هذا الشعب أن يتسلح بالصبر ويكابد الشوق والحنين .. يعيش حلم العودة للوطن الذي يشاطره قدره في مأساة الغربة (قدري أن التقيك في ريحانة الصبر .. وأسامرك في رحابة الشوق .. وعلى حواف التعاريج المشجرة .. ألوح لك بأعشاش الحنين). صورة ذهنية يرسمها الشاعر للتأثير في المتلقي، تصور مأساة شعبه وما يلاقيه في المنافي والشتات من عذابات الحنين والانتظار وحالة الانقهار والإحباط التي تحاصر روحه.
ويظل الشوق حالة شعورية مبعثها الحنين والأمل، تجسدها العبارة الشعرية (يا شاعري…أكلما نظرتُ إلى عيون غيمتك فاح سفور كحلها بسفر الآس والصنوبر)، التي تمثّل البعد الرؤيوي والنفسي في تجربة الشاعر، بصفتها حاملا شعوريا وفكريا تستثير به قوى النفس الوجدانية والجمالية في المتلقي، والتي تمثل ذروة التماهي بين الشاعر ووطنه. وجاء ضمير المخاطب في (ياشاعري) ليكثّف هذا التداخل والتماهي بين الأرض والشاعر حيث تتجلى صورة الوطن في شعره … فبنية الاستفهام (أكلما نظرتُ) جاءت تجسيدا لهذا الموقف الانفعالي الحاد والمتجدد على الدوام لدى الشعب الفلسطيني، ومبالغة في تصوير المشاعر التي تجتاح وجدانه والتي تثيرها العبارة (عيون غيمتك)، والتي استعارها الشاعر لتشكل بفاعليتها وقوة تخييلها علاقة غير متوقعة بين الغيمة وشعره، حيث تحولت الغيمة في خيال الشاعر عن حقيقتها الموضوعية إلى صورة مجازية تزرع الأمل في نفس الفلسطيني وتحيي ذاكرته وتهيّج مشاعره، كما الغيمة تنثر ماءها فتفوح رائحة تراب الأرض التي يعشق ويقدس. لكنه عشق مُحْبِط ومن أشد دواعي الحزن والحسرة في نفس الفلسطيني، لإحساسه بالبعد والاغتراب وتكالب عوامل القهر والخذلان الذي يجهض حلم العودة (قلت لك حبيبي .. أنا لا أكره جمال قدسك ولكنك تجعلني في كل نفحة أتألم لشدة جمالها). لكن الشعب الفلسطيني لن ينسى قضيته، وسيظل مخلصا لها مهما استحكمت حوله حلقات الظلم والظلام، ولن يغادره حلم العودة مهما طالت رحلة اللجوء والشتات (ومهما أبعدتْني عنك أرتال الغسق .. وحلقتُ بعيدا في أوردة الأفق .. لن أُحلّق أبعد من ريشك المتساقط بالألق على قبابها الحزينة وشبابيكها اليتيمة).
وهكذا يساهم تقاطع الأشكال التعبيرية المختلفة في إغناء النص جماليا، وفي خلق الصور التي تساهم في تجسيد ذروة الانفعال ونار الغضب التي تحرق في صدر الفلسطيني … ففي الخطاب (كنتَ عاهدتني أن لا تدع الحساسين .. تبكي على زروع شرفاتها.. وتنزف عشقا صدوع عتباتها)، الذي يحيل كما يبدو على الأمة العربية بوصفه حدثا وقع وقرّ في نفس الشعب الفلسطيني بدلالة الفعل الماضي (كنتَ)، يحمل في طياته سخطا وعتابا مرا تعبيرا عن خذلان الأمة له، والعهود والوعود الكاذبة والتي بنت له أحلام الخلاص مما يواجهه من ظلم وتهجير واغتراب … فقد استقرّ في وجدان الشعب الفلسطيني _ الذي رمز له الشاعر في صبره وتحمله عذابات اللجوء والتخاذل عن نصرته ب (الحساسين) التي عُرفتْ بالصبر والقدرة على التحمل _ زيف الشعارات وكثرة الندوات واللقاءات والمؤتمرات الواعدة بحل قضيته بدلالة (لكم) التي تفيد التكثير والاستمرار في العباره (ولكم أوقدتَ لها أحداق حرفك .. وبذلت لها أرواح قوافيك وحوريّات رؤاك)، والتي لم تثمر أي نجاح في رفع المعاناة والمآسي مما ابتلي به الشعب الفلسطيني، الأمر الذي نشأ عنه إحساس طاغٍ باليأس والأسى والاستنكار بعد هرولة التطبيع وتخلي الأمة عن قضيته، الذي كان سببا في تعثّر مسيرته النضالية، ( ألهذا يا حبيبي تتعثّر دماك .. حين تُصغي لرفيفها المباغت .. وحين تبتكر فجرها .. في ذاكرة الندى وتتعرّق بالحقول؟!) فكان الاستفهام وسيلة تعبيرية خرجت في السياق عن معنى الاستفهام إلى مفهوم الإستنكار محققة بذلك وظيفتها الشعرية والتأثيرية في فضح هشاشة الأنظمة وتعرية الواقع وسقوطه المريع الذي يكرّس الهزائم والخضوع والاستسلام، وإجهاض كل محاولة للنهوض والانتفاضة من أجل تحرير الأرض. فكان عهدا على الشعب الفلسطيني أن لا يغادره حلم العودة وأن يبقى الوطن حيا في ذاكرته ، على الرغم من المعاناة والتمزق والشتات وتثبيط كل محاولة للمرور فوق هزائم الواقع ف(لن تذبل أزهارنا .. لن تُجْفِلُها مناجل الغياب .. سنبقى أمومة المطر وعائلة الشعر .. وسلالة الهوى ونسغه المغدور).
لقد انعكست فاعلية الخيال في هذه الصورة (لن تجفلها مناجل الغياب) التي تم تشكيلها تشكيلا إبداعيا يساهم في تحقيق شعرية النص بهذا التشخيص الذي يثير الدهشة ويكسر التوقع ويمارس التأثير في المتلقي، حيث تبرز الغربة بهيئة مُشخَّصَة تملك المناجل والفعل، ما يضفي على الصورة غرابة ويكسبها أبعادا تغنيها بالإيحاءات التي تجعلها أكثر حيوية في التعبير عن موقف الشاعر _الممثل للشعب الفلسطيني_ من الغربة، التي تفعل فعل المناجل في تمزيق الشعب الفلسطيني وتقطيعه، وفي القهر والظلم الذي يظل يلاحقه ويهدد حياته ووجوده. لكن ذلك لن يثني إرادة الشعب الفلسطيني عن تغيير واقعه بثوراته الولّادة وصراعه من أجل الوجود. فهو القادر على إبقاء جذوة المقاومة حية، والصمود في مواجهة جرائم الاحتلال في ظل القمع والخذلان وتقاعس الأمة، وهو القادر على تقديم أسمى معاني التضحية والفداء، وتقديم قوافل الشهداء لأجل تحقيق حريته وكرامته (سنبقى يا حبيبي .. نتلمس راحة القصيدة وإن غضّنتها الرياح .. وندوّن أضاميم الكلمات .. ونضمها بأذرع الشاهدة .. وحضن عن الشهادة لا يتوب).
Discussion about this post