Views: 0
البديهة :
أما البديهة
فبعد ان يفكر الشاعر يسيرا ، و يكتب سريعا ان حضرت آلة ،. الا أنه غير بطيء و لا متراخ . فان أطال حتى يفرط ، أو قام من مجلسه ، لم يعد بديها .
قيل :
اجتمع الشعراء عند الرشيد فقال :
من يجيز هذا القسيم و له حكمه ؟
قالوا :
ما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال :
الملك لله وحده
فقال الجماز :
و للخليفة بعده
و للمحب اذا ما … حبيبه بات عنده
فقال :
أحسنت و أتيت على ما في نفسي . و أمر له بعشرة آلاف درهم .
و من عجيب ما روي في البديهة .. عندما أنشد أبو تمام أحمد بن المعتصم بحضرة فيلسوف العرب ، أبي يوسف يعقوب بن اسحق بن الصباح الكندي :
اقدام عمرو في سماحة حاتم … في حلم احنف في ذكاء اياس
فقال له الكندي :
ما صنعت شيئا ! . شبهت ابن أمير المؤمين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب . فأطرق أبو تمام يسيرا ثم قال :
لا تنكروا ضربي له مَن دونَه … مثلا شرودا في الندى و الباس
فالله قد ضرب الأقـــــل لنوره … مثلا من المشكاة و النبــــراس
فهذا أيضا و ما شاكله هو البديهة .
و كان أبو الطيب كثير البديهة و الارتجال .
و البديهة هي كما قال ابن الرومي :
نار الروية نــــار جد منضجة … و للبديهة نـــار ذات تلويـــــــحِ
و قد يفضلها قوم لسرعتـــــها … لكنها سرعة تمضي مع الريح
و القول بعد الفكر يؤمن زيغه … شتـــــــان بين روية .. و بديه
و من الشعراء من شعره في رويته و بديهته سواء عند الأمن و الخوف ، لقدرته و سكون جأشه و قوة غريزته ، كهدبة بن الخشرم العذري ، و طرفة بن العبد البكري ، و مرة بن محكان السعدي ، اذ يقول و قد أمر مصعب بن الزبير رجلا بقتله :
بني أسد ان تقتلوني تحاربـوا … تميما ، اذا الحرب العوان اشمعلتِ
و لست و ان كانت الي حبيبة … بباك على الدنيـــا .. اذا ما تولت
و هذا شعر لو أن قائلة تروى فيه حولا كاملا ، على أمن و دعة و فرط شهوة ، أو شدة حمية ، لما أتى فوق ذلك .
و كذلك عبد يغوث بن صلاءة و طرفة بن العبد لما أيقن بالموت :
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي … ولم أعطكم بالطوع مالي ولاعرضي
أبا منذر أفنيت فاستبـــقِ بعضَنا … وبعض الشر .. أهــون من بـــــعض
و عبيد بن الأبرص ، اذ يقول له النعمان يوم بؤسه :
أنشدني ! فقال :
حال الجريض دون القريض .
فقال : أنشدني قولك :
أقفر من أهله ملحوب … فالقطيبات فالذنوب
فقال :
لا و لكن
أقفر من أهله عبيد … فاليوم لا يبدي و لا يعيد
فبلغت به حال الجزع الى مثل هذا القول .
على أن في بيت طرفة بعض الضراعة .
و ممن وجد نفسه عند احاطة الموت به .. تميم بن جميل السدوسي ، فانه القائل بين يدي المعتصم و قد قدم السيف و النطع لقتله :
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا …يلاحظني من حيثمــــا أتلــــــفت
وأكبر ظني أنك اليـوم قاتــــــــــــلي … وأي امرئ مما قضى الله يفلــت
ومن ذا الذي يدلي بعــــــذر و حجة … وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما جزعي .. من أن أمــوت وانني … لآعلم .. أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صييـــة .. قد تركتــــهم … و أكبـــادهم من حسرة .. تتفتت
كأني أراهم حين أنــــــعى اليـــهم … وقد خمشوا تلك الوجوه و صوتوا
فان عشت، عاشوا خافضين بغبطة …أذود الردى عنهم ، وان مت موتوا
فكم قائــــــل ..لا أبعـــــد الله دار … وآخر جذلان .. يســــر ويشمت
فتبسم المعتصم وقال :
كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل ،
فقد غفرنا لك الصبوة ، ووهبناك للصبية ،
ثم أمر بفك قيوده و خلع عليه ، وعقد له بشاطئ الفرات .
و كذلك علي بن الجهم و قد صلب عريانا :
لم ينصبوا بالشاذياخ عشية الــ … اثنين معـــلولا و لا مجــهولا
نصبوا بحمد الله ملء عيونهم … حسنا و ملء قلوبهم تبجيـــلا
ما ضره .. ان بز عنه ثيابه … فالسيف أهول ما يرى مسلولا
و هذا من جزل الكلام ، لا سيما في هذا المقام .
و كان علي من الفضلاء علما بالشعر و صناعة له .
و قيل ان علي بن الجهم قال عندما جاء رسول برأس اسحق بن اسماعيل الى المتوكل :
أهلا و سهلا بك من رسولِ … جئت بما يشفي من الغليلِ
برأس اسحق بن اسماعيلِ
فقال المتوكل :
قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع .
و اشتقاق البديهة .. من بده ، بمعنى بدأ .. أبدلت الهمزة هاء , كما أبدلت في أشياء كثيرة .
و الارتجال مأخوذ من السهولة و الانصباب . و منه قيل :
شعر رجل ، اذا كان سبطا مسترسلا غير جعد .
و قيل :
هو من ارتجال البئر ، وهو أن ينزلها المرء راجلا من غير حبل .
و أخيرا .. ارى برأيي المتواضع .. أنه ليس هناك من فارق كبير بين البديهة و الارتجال .
نكتفي بهذا المقدار في البديهة .
*****
خالد ع . خبازة
اللاذقية
عن بعض من كتب التراث
Discussion about this post