Views: 0
قراءة في ديوان على جناح أمنية شاردة للشاعر د. جمال مرسي .. بقلم د. الفيلالي أبو عبد العزيز المغربي ..
….
قراءة في ديوان على جناح أمنية شاردة للشاعر د. جمال مرسي..بقلم د. الفيلالي أبو عبد العزيز المغربي……البساطة الشعرية المتمنعة عند الشاعر د جمال مرسي لا تعني الابتذال او السهولة، ولا تعني المتداول المطروق. فهي ليست سمة قدحية بل هي نضج فكري وتمرس شعري متمكن من الصنعة الشعرية قوته الدربة وصهرت ادواته وعضدته التجربة في صوغ المعاني الشعرية وتنضيد الكلمات المعبرة في سخاوة معجمية وكرم قاموسي وكذلك في رسم الصور الشعرية المبتدعة. دون ترديد المألوف أو إعادة إنتاج المعتاد.بل سفر في الخيال ومحاولة ربط بين الممكنات وغير الممكنات بخيوط آسرة ونسج فريد في فسيفساءالقصيدة، وأيضا في بناء النص الشعري وترتيب أجزائه دون الإحساس بالانتقالات الفجة التي قد تمس أعضاء الجسم الشعري الواحد الموحد. فأنت تحس باندفاع شعري متمكن من بداية النص إلى نهايته بتبصر حاضر وحذق خفي تؤطرهما ذات شاعرة. تعرف كيفية الاشتغال وتعلم حدود الشعري وغير الشعري وتدري القدرات التي تتوافر لديها في سبك الجمل الشعرية أكثر من معرفتها بالجمل التركيبية التي تخضع لضوابط القواعد النحوية. فهي تمتلك المعرفة الشعرية بان الدفقة الشعورية هي المتحكمة في إنتاج البينات الأساس للنص . فالنص وان كان مجموعة من الجمل الاسمية والجمل الفعلية المترابطة وفق نظام متسق وسنن منطقية يحكمهما العقل والمنطق والضوابط النحوية إلا أنه نبع متدفق من الاحساسات والعواطف يفور بخلجات الشاعر وما يعتمل بداخله من تفاعلات بين ذاته والموضوعات. فهذا التفاعل بين ذات الشاعر والموضوعات التي يكتب فيها له أثر بالغ في ضمان معمار النص بدون نشازات عارضة، أو انقطاعات تعبيرية بادية بين أجزائه. بل نجد النص تتوافر فيه ملامح الانسجام الشعري والتناغم التعبيري. وهكذافالبساطة بهذا المعنى المتمكن من الوسائل المساهمة في البناء والطرق المتبعة في السبك والقدرات العارفة بحدود الممكن الشعري في خلق التناغم بين الأجزاء المكونة للنص. وهكذا فالإبداع يتكئ على البساطة كمَعلم شعري في انتقاء الكلمات وبناء الصور وتنظيم الجمل الشعرية، مما يؤدي إلى إنتاج تعبير شعري عال يتسم بالعمق الذي يعضده الفكر ويغذيه سموق في اللفظ ويزينه تألق في احترام المعجم ودرجات الكلمات في قدرتها على الوفاء للمعنى المرتبط بالحقول الدلالية المبتغاة ومستويات تدرجها في الحفاظ على دوائر المعنى المراد. فالكلمات وإن ترادفت معانيها فإنها تتباعد في تأدية المعنى المرغوب وايضا اختبارللحروف المنسجمة في خلق تناغم بين مكونات الكلمة وأجواء المعاني المرجوة والسلاسة في توالي الجمل الشعرية متدفقة لا يعترضها عارض ولا يصدها مانع بل تجد الذات الشاعرة عونا على أن تندفع كشؤبوب في لملمة خيوط كتابة النص. إن البساطة لا تعني التعبير السطحي الذي يرنو الى اللغة المباشرة أو الخطابيةواداء المعنى بشكل مبتذل وسوقي ورخيص قريب الى اقوال العامة. او الى لغة التقارير الصحفية القريبةمن الخطاب اليومي. فالبساطة المحمودة هي تلك التي تتخذ من الوضوح سمة لها ضمن ما تعارف عليه المهتمون بالبيان العربي أي أن يصل النص الى المتلقي دون إسفاف أو ابتذال وان يكون مدار اللغة الفهمووالإفهام بشفافية مع ضرورة إعمال الفكر وإيقاظ الخاطر واستحضار للمخزون الثقافي واستدعاء للذوق الفني واستخدام للملكة مع حاجة الى استعمال التأويل في ربط بين المعاني الظاهرة وتلك المضمرة، كل ذلك في استخدام ذكي في الغوص في سراديب النص وتامل في ثنايا المواقف والموضوعات .فالبساطة في كتابة النص الشعري كما نستشفه في ديوان ” على جناح امنية شاردة” للشاعر د جمال مرسي.تتحقق مجموعة من الأمور:أولا: الحرية في تناول النص وتحليل مكوناته وفك مغالقه وإعادة بنائه وفق التصور الذي تتبناه والخلفية التي تحكم الرؤية التي تنظر بها الى النص وفق ما تؤمن به من نظريات وتعتقده من وجهات نظر. فانت خلال تلقيك لقصائد الديوان تشعر وكأن الشاعر ترك لك مجالا لمشاركته واعطاك مساحة للتحرك لتعبر معاني قصائده وأهداك وقتا ممكنا لتامل تجربته الشعرية باعتباره شاعرا معاصرا منفتحا على كل الممكنات الشعرية، فلا تبدو عليه قسمات القيود التنظيرية للشعر ووفر لك مجموعة من النصوص المختلفة في موضوعاتها وأشكالها البنائية، كل هذا ليخاطب فيك مجهودك المبذول في تأملها والغوص في مضامينها والبحث في عناصر بنائها ومكوناتها النظمية والإيقاعية.
ثانيا ـ المتعة في تتبع القصائد من خلال مواصلة قرائتها لاكتشاف مفاتنها وتلمس عناصر جماليتها وسبر أغوار مضامينها واستنطاق المواقف التي تشير اليها وتدافع عنها واستخراج ما تشي به عناصر الإمتاع والمتعة الشعرية وما تنطق به من رؤى تنويرية تنم عن شخصية د جمال مرسي كما في قصيدة” زائر “ص 23 التي يبدي فيها الشاعر موقفه من الشعر واغراضه ويحاول ان يؤسس لمفهوم جديد لوظيفة الشعرالمعاصر.
يقول:
لك الله يا شعر تبقى أبيا برغم الجراح
وتحيا القصائد. . . . . .
فماذا تقول القصائد ؟
تقول معلقة في المديح
لأنت الشموس وغيرك غيهب وانت المليك الذي يضاهى ولم تنجب الأرض مثلك مذ شكلتها يد الله ،أنتَ السحابُ الذي يمطرُ العطرَ،يروي قلوبَ العبادِ وأنت النَّدَى و الهُدَى و الكَمِيُّ و حامي الذمارِ وتعلم ما في البحارِ وشيخُ الطريقةِ، سيفُ الحقيقةِ،ليثُ العرينِ الذي ليس يُغلب
ولو أنصفو ملكاً قد تسلَّق فوقَ رؤوسِ العبادِ بحدِّ السيوفِ
إلى سُدة الحكمِ يُفنِي
و يُرهِبْ لما كانَ ..
و أسفي .. غيرَ أرنبْ
إذا حُمَّت الحربُ يهربْ
***
يموتُ المديحُ
وتبقى القصائدْ .
فماذا تقولُ القصائد؟…
تحدثنا عن هجاء مقيت ووصف لخيلٍ ونوق وهودج وفخر بأنساب من وحي خيط من الوهم تُنسج…
ويتابع قوله:
يموت الهجاء ووصف الخيول
وفخر اللقيط
وزهو العبيط
وتبقى عيون القصائد تبكي
فماذا تقول عيون القصائد؟فالشاعر ينتقل بنا في هذه القصيدة في سخرية لاذعة لاشتغال الشعراء على هذه الأغراض القديمة التي أصبحت القصيدة تشكو من وطأتها، تنشد الخلاص والثورة من هذه الأغراض التي كبلت أفق الشعراء الفكري وحدت من قدراتهم التعبيرية والبحث عن أجواء أرحب وموضوعات أرحم .فالمتعة التي يحس بها المُطّلع على هذه القصيدة يقف اجلالا للشاعر جمال مرسي الذي فتح باب اشراكنا في إدراك هذه المفارقة التي تزداد ذروتها من خلال سؤال إنكاري يكاد يختم به القصيدة حيث يقول:
تسائلني والدموع تفيض على وجنتيها ألست بشاعر؟. . . . . .
أجيب :وكلي يقين بقولي
انا لم أكن ذات يوم… بشاعر وماكنت في روضة الشعر
اذ يستبيني سوى محض زائر….
ثالثا: صفاء الذهن والسفر في زمن الكتابةتحملك البساطة في سفر شعري في زمن الكتابة ونبش الذاكرة التاريخية، حيث وانت تنظر في ديوانالشاعر” على جناح أمنية شاردة” تضطر الى استدعاء محفوظك الشعري والثقافي في عبور معاني القصائدواستجلاء مضامينها حيث يسعفك هذا المحفوظ في بناء تصور للمرامي التي يرنو إليها الشاعر، وملء هوامش الفهم التي بدون هذا المحفوظ تبقى ناقصة. وهذا أيضا يبرز قدرة الشاعر على الاستعانة بثقافته العالمة في بناء النص/ القصيدة. وهذا ما يعطيه ميزة على تغذية إبداعه الشعري الذاتي بمحفوظه الشعري والثقافي وبذلك يحصل ذلك التثاقف الشعري الذي ينصهر بسهولة في تعابيره الشعرية وبناء قصائده دون تكلف أو إسفاف أو تمحل أو نشاز بل بسهولة متدفقة يباركها التناغم والانسجام. وهذا السفر يقودنا إلى استحضار مجموعة من الآيات القرآنية التي استطا ع الشاعر أن يستدعي بعض تعابيرها واحداثها لصوغها في بناء تعابيره الشعرية. يقول الشاعر:” قد هجاكم كبيرهم “ص 32”
قال تعالى: “قال بل فعله كبيرهم” الأنبياء 63
قال الشاعر:” فاساقطي مطرا نديا” ص 39
قال تعالى: »وهز ي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ” مريم 25″
قال الشاعر: “ملك كريم” قال تعالى: “ان هذا إلا ملك كريم” يوسف 31″
قال الشاعر: ” لا عاصم اليوم ” ص 50
قال تعالى:”قال لا عاصم اليوم من امر الله” هود 43
قال الشاعر:”ان تقد قميص الوقار”ص 67
قال تعالى:” إن كان قميصه قد من قبل”يوسف 26
قال الشاعر:” ارجع لربك”ص 72
قال تعالى:” قال ارجع إلى ربك” يوسف50
قال الشاعر:” لتأسرها ذات شوق بيمينك”ص 66
قال تعالى:” وما تلك بيمينك يا موسى”طه 1
قال الشاعر:”انست نورك”ص 89
قال تعالى :” إني انست نورا” القصص 29
قال الشاعر:” وما قتلوه وما صلبوه”ص 113
قال تعالى:” وماقتلوه وماصلبوه” النساء156
قال الشاعر:”كما البحر حين يمور”ص 20
قال تعالى:” ويوم تمورالسماء مورا”الطور 8
ولايكتفي الشاعر بالاستفادة من زخم الآيات القرآنية وتلقيه من اضافات داخل النص الشعري بل نجده يلتفت الى النصوص الشعرية ويسعى الى ما قد تخلقه من حوار بين النصوص. قال الشاعر :”قلت اتركوه فان اتتك مذمتي من ناقص”فالصفح كان لدى الكبار سلاحا”ص 32
هذا ماخوذ من قول المتنبي:”واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي باني كامل
قال الشاعر:” تقول لنفسك اختالي وتيهي”ص 33ولعله ينظر هنا إلى ماقالته ولادة الأندلسية بنت المسكفي”:
انا والله أصلح للمعالي
وامشي مشيتي واتيه تيها”
قال الشاعر:”انا الذي صغت بالأشعار اغنية” ص 35
ولعله ينظر الى قول المتنبي:”انا الذي نظر الأعمى الى أدبي واسمعت كلماتي من به صمم”
قال الشاعر:”كجلمود صخر هوى من سقر”
وفي هذا التفات إلى قول امرئ القيس:”مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
“قال الشاعر:” عيناك يا حبيبتي غيرتا ملامح البحار” ص 137″
وهذا يجاري فيه الشاعر بدر شاكر السياب في قوله:” عيناك غابتا نخيل وقت السحر”
ويتابع الشاعر استفادته ممن سبقه من الشعراء وهكذا نجده يقول: “ولست اسميك “ص 47
ولعله ينظر الي قول ابي العتاهية :” قل لمن لست اسمي بابي انت وامي ”
رابعا: الانجذاب :
يتحقق الانجذاب لهذا الديوان من خلال ميزة الوفاء التي تطبع خلق صاحبه وقيمه الإنسانية والوطنيةوالذاتية، إذ تؤطر هذه القيم الإنتاج الشعري المتداول بهذا الديوان حيث يجثو الوفاء كقيمة أساس في ولادة النصوص وانكتابها باعتباره خلقا انسانيا نبيلا تلتقي فيه كل معاني الودوالاحترام، إذ العلاقات الإنسانية التي يغذيها الوفاء تظل تابثة ومستديمة لا تتأثر بعوامل الزمان وعواديه بل تتقوى وتزداد متانة. فالوفاء يقتضي الاعتراف بأفضال من أحسن اليك يوما او قدم لك خدمة والامتنان له على مجهوده الذي بذله لإرضائك أو مساعدتك والوقوف الى جانبك في يوم كنت في حاجة إليه، لذا فأقل مايمكنك فعله هو ان تشكر له صنيعه. ونحن نتصفح الديوان تصادفنا مجموعة من القصائد التي ترتبط بهذا الخلق النبيل.ينبري الشاعر للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدة تحت عنوان ” الى متطاول على نورالشمس” ص 227 فيقول:إني عذرت اليوم فيك لساني
ووهبت كي أقتص منك بياني
ويعلي في قصيدة من شأن وطنه مصر في قصيدة ” لن تهوني يا مصر” ص 211 فيقول:لن تهوني يا مصر، لا لن تهوني بل ستبقين النور ملء العيون
كما أنه لم ينس ان يكرم المعلم في شخص صديقه جمال عبداللطيف يونس وفاء له، فنجده يقول في قصيدة”لو جاءني الوحي”ص 197
قم للمعلم تقديرا وإجلالا وارفعه منزلة قولا وأفعالا واكتب وثيقة عرفان لمن زرعت يمينه بذرة االخالق اجيالا
ونتلمس معالم الوفاء في كثير من القصائد حيث يطير به العشق ويحلق به في سماء المحبوبة، وكل ذلك في رقة شعور وصدق عاطفة واجواء رومانسية. وهكذا نجده يقول في قصيدة” ترنيمة شتوية” ص 47
دعيني احبك كيف أشاءوليس كما شئت انت وليس كما في الأساطير جاء
ويقول في قصيدة” يتم” ص 41
عجبت ومالي أعجب
وأمرك في الحب مستغرب ويقول في قصيدة” على شاطئ الأمنيات”ص 65
سألقاك ذات مساءعلى شاطئ الأمنيات
وأرسي سفينة قلبي على مرفأ النور في مقلتيك
فاجمل شطآن روحي عيونك
وأجمل شعري ما لم أقله
وأجمل ما في هواك جنونك
ويظل الشاعر وفيا لأحد الشعراء وهو مختار عيسى. فيقول في قصيدة “الغريب”ص 109
من أي أزمنة البراءةوالوضاءةجئت تحمل في يمينك زهرتين
وغصن زيتون
وريشة طائر
وعلى شفاهك ماتيسر
من سور
ويبقى الشاعر دجمال مرسي وفيا لتراثه فيقدم لنا قصيدة يعارض فيها نونية ابن زيدون وكأني به يقول: انا شاعر أحلق في كل الأزمنة . فيقول معارضا في قصيدة” الحلم” ص 89
انست نورك مذ أغرى ليالينا
بالشهد والورد يا أغلى امانينا
لُمت الظلام الذي ما كنت اعرفه
إلا دموعا أريقت من ماقينا
ولم ينس الشاعر أن يخلد تفوق ابنته وفاء منه لاجتهادها ولاسيما انها كانت الأولى على المدرسة. فيقول في قصيدة”انا..وابنتي لما نجحت”ص 205
جاءت إلي مهرولةوالبشر يغمر مقلتيها
والورد بالفرشاة يكتب لونه في وجنتيها
وحدائق الرمان كانت ترتوي من نهر فرحتها الذي يجري على خد الصغيرة. . . . . .
قالت ابي
هاك الشهادة قد نجحت ومر عام
ما خاب ظنك في حين رجوتني الأولى
وحققت المرام
وأجمل ما في الوفاء أن يكون المرء وفيا لنفسه وذاته لا يسبح في اجساد الآخرين بل يبقى هو هوونفسه لا غيره، ولهذا نجد الشاعر يصرخ في قصيدة” أنا ونزار” ص 189
حيث يقول
(أنا لم اكن ذات يوم ٍ نزارا
ولا لن أكون
له لغة تشبه الياسمين
ولي لغة من بنفسج روحي رويتها من دماي
وأطعمتها من بساتين قلبي
….
هذه قراءة عاشقة لديوان الشاعر د جمال مرسي”على جناح امنية شاردة”….بقلم الدكتور الفيلالي أبو عبد العزيزالمغربي
Discussion about this post