Views: 0
عين
على أدب المقاومة بقلمي أحمد إسماعيل / سوريا Ahmed Ismail
دراسة أدبية نقديةفي القصة القصيرة ما سيبقى هناك للقاص الفلسطيني أ. جمال الخطيب / فلسطين Jamal Alkhatib
النص
ما سيبقى هناك
قصة قصيرة: بقلم، جمال الخطيب.
كان علي أن أجتاز المركز الحدودي عندما حطت الطائرة في دولة متاخمة، ختم الضابط المسؤول الجواز بكلمة ( مرور ) ..لم أكن أعرف أن معناها (لا يسمح لك بالمبيت هنا).
تهادى السائق على الطريق بينما جلست في المقعد الخلفي ..هي نفس الطريق التي عبرتها قبل سنوات إلى المنفى الاختياري في الخارج.
قال السائق، جهزي أوراقك الآن، خمس دقائق وندخل المعبر، ولو أردت إنجاز المعاملة دون أن نتعكر ضعي فيها شيئا.
تناهى إلى مسامعي صوت ارتطام القذيفة بالجدار فوق حافة النافذة ليلة فرارنا ثم أعقبها انفجار مدوٍ.
أعاد السائق كلماته مرة أخرى وشدد على أمر ما ونظر في عيني مستطلعا.
لملمت الأولاد وهرعت إلى الخارج لا ألوي على شيء ..لكن ثمة شيء ظل في البيت لم يغادر معي، وعندما استدرت إليه من أعلى المنزلق اللاهث لم أستطع البكاء.
تناول السائق الأوراق وتوقف عن بعثرتها عندما لمح طرف العملة النقدية الصعبة، تمتم ” الأمر لا يمر إلا بهذا “.
صعدت بالصغار فوق المنزلق الإسفلتي المكسر، وحشرت جسدي في الحافلة التي لم تطفىء محركها..كان السائق عصبيا، صرخ أن نتراجع إلى الخلف لنفسح المجال لآخرين ..انزلقت يد طفلة إلى جواري عن وحل طين لزج علق بثوبي من الخاصرة ولطخ أذياله فبدا ثقيلا لكنني لم أنتبه.
دقائق وعاد السائق متهللا، ” لا شيء يقف أمام جواز مرور كهذا يا سيدتي “.
تهادت السيارة في الطريق بعد أن تركنا المعبر وبدت يداه مرتاحتان على المقود ..قال: ” لقد تغيرت الأمور عما كانت عليه ..الحواجز أقل بكثير عما مضى “.
لم أكترث لعصبية السائق أمام كل حاجز توقفنا عليه ..كان همي في أن أشدد قبضتي على رسغ الأطفال بينما تطغى أنفاس الركاب الخائفة على صوت المحرك وتكاد تخمده، فيما سكنت أصوات الأقدام اللزجة في الأحذية الغارقة في الوحل.
انحرفت العربة وأبطأت على المنزلق المنكسر نزولا.. سمعت صوت المكابح تتنفس قبل أن تستريح.
انحدر سيل صامت ساخن وبدأ يقطر من ذقني على ثوبي، فأحسست لسع البرودة تسري من خاصرتي إلى أخمص قدمي، لكن الثوب كان جافا.
قال السائق، دقيقة ونصل يا سيدتي ..
تمتمت، نعم ..وعندما استدارت العربة صرخت دون وعي :
” ثمة شيء ظل في البيت لم يغادر معي “.
الدراسة الأدبية
مقدمة
بين العتبة العنوانية و القفلة يتدفق صدى سرد ذات تمضي باتجاه المنفى لتدور الأحداث في رحلة خروج من واقع مؤلم،
واقع قصف واقع استعمار و واقع اضطهاد
حول فلسفة النص و عمق تصوير الكاتب لبطلة القصة:
١_ يقول جيمس كليرك ماكسويل: الحزن لا يجيد الاختباء قد يلمحه الأعمى في تضاريس صوتك.
الحزن محرك بحث سريع للخطوات المستقبلية في تخطيط عقل الإنسان لأنه يخشى حدوث ما يجعل هذا الحزن واقعا
وهذا الشيء ملموس في النص
إذن نحن نخشى الحزن لذا نخطط للمستقبل كي لا نحزن.
٢_ الوعي : من خلال السرد نلاحظ ضروبا من الوعي
أ_ وعي البطلة
٢_ الوعي الجمعي
٣_ وعي السائق
٤_ وعي حرس الحدود
الكثير من الناس يقول أن الوعي نوع السفسطة أو الكلام النسبي فلكل مجتمع وعي محدد و لكل فرد وعي محدد آخر نابع من تجاربه و إحساسه و إدراكه فالوعي إذا شيء ذاتي موضوعي.
يقول فرويد : إن سلوك الذي يقوم به أي شخص لايكون نتيجة الوعي وحده لأن هذه الأفعال الواعية تبقى غير متماسكة و غير قابلة للفهم إذا اضطررنا إلى القول أنه لا بد أن ندرك بواسطة الوعي كل ما يجري فينا.
لذلك فإن كثيرا من السلوكيات لا تفهم إلا إذا أرجعناها إلى الجانب الأساسي من حياتنا النفسية و هو اللاشعور وهذا السلوك واضح كالشمس في سلوك البطلة
العتبة العنوانية:
ما سيبقى هناك: لو نظرنا إلى معنى هذه الجملة في معجم المعاني فإننا سنجده بمعنى الذي سيكون على دوامه و ثباته هناك
فما هو هذا الشيء
الشيء في معجم المعاني هو اسم لأي موجود ثابت متحقق يصح أن يتصور و يخبر عنه سواء كان حسيا أم معنويا و يطلق على المذكر و المؤنث و لعل القفلة كانت كافية و وافية يتجلى في ضفافها معنى هذا الشيء.
الآن لنطرح سؤالا
لم اختار الكاتب شخصية المرأة والأم في النص
طبعا الكاتب و هو ينسج هذا السرد كامتداد لأدب المقاومة كان حريصا على جعل أبعاد تربوية ونفسية وخصوصا أن أدب المقاومة يقبل عليه الناشئة بشكل كبير من أيام الراحل غسان كنفاني ورفاق دربه..فالأم هي نافذة الأحاسيس و المشاعر التي تختلف عن أية مشاعر سواها تماما هي عيون أبنائها على العالم منها يستمدون رؤيتهم و كيف يتعرفون على الأشياء.
وهنا يحضرني قول محمود درويش في حقها: ( لن أسميك امرأة، سأسميك كل شيء)
فهنا رفع بدلالتها لدرجة الهوية.
ومن هنا دخل إلى داخلي إحساس عميق رأيت فيه بعد نظر الكاتب
ففي النص نجد نداء الأم للأم
نداء الهوية …نداء الأرض و الوطن .
هذا النداء الخفي الذي أضمره الكاتب وتركه للمتلقي ليتعقبه حسب ثقافته و رؤاه…
هذا الشيء الذي يضع الشعور واللاشعور في منزلق عميق ….
فهنا حالة النزوح و اللجوء مع ترسيخ فكرة الانتماء، و هذا ما كان واضحا في صدى السرد
وهنا نلاحظ براعة الكاتب في رسم الحالة النفسية للشخصيات و تصرفاتهم و رصد أجواء التوتر التي يعيشونها في رحلة محفوفة بالمخاطر أو لنسمها رحلة إلى المجهول
المفارقات الساخنة و الساخرة في النص
هنا نلاحظ قدرة الكاتب على صنع المفارقات و كأن الكاتب ينسج من الأضداد نسيجا يشبه السندس و الاستبرق
١_ لحظة ماقبل دخول المعبر
المفارقة بين السائق الانتهازي الأناني مع حالة المرأة التي تتذكر لحظة ارتطام القذيفة بالجدار.
٢_ وصف الكاتب الطريق بالمنزلق: ومعنى الكلمة يأخذنا إلى أنها كانت تعيش في مكان عال و سام في النفس و السيارة تأخذها في انحدار قد يقتلعها من الحياة
٢_ لاحظوا حين وقفت البطلة في أعلى المنزلق لم تستطع البكاء….
أي حالة ترسمها هنا بإحتراف يا أ.جمال
وكأن شيئا يقف في حلقها إنها الغصة بكل أبعادها على الجسد و النفس .
٣_ طريقة الصعود في الحافلة ( حشرت جسدي في الحافلة )
فمن المتعارف أن الأنثى حين تصعد الحافلة أو سيارة الأجرة تصعد معها كل شي يليق بأنوثتها
بينما الكاتب أراد استقطاب هذا الوصف للدلالة عظم المعاناة و أن الأنثى في فلسطين بألف رجل ليس لأنها تستغني عن أنوثتها بل لأنها تحشر هناك معاناتها لا جسدها.
٤_ المفارقة بين راحة السائق وقيادته وحالة توتر الركاب حد وصول أنفاسهم لتكون أعلى من هدير المحرك.
٥_ أيضا المفارقة في استقطاب السيل
السيل يجري عادة بماء بارد
و الكاتب وصفه بالساخن
وهنا المفارقة بين الدمع الذي يتدفق وهو يحرق الجسد من الداخل دون أن تجد آثاره
فوحدها الذات هي من تدرك أبعاد ذاك السيل
و حتى يذهب الكاتب بهذا الجريان بعيدا وصف أثرها بالثياب بالجفاف وهذه الحرفية في النسج تترك للمتلقي أبعادا و أبعادا للتأمل.
الميزات الفنية و البنائية في لغة سرد القصة
1_ اللغة التحفيزية التي تترك للمتلقي المتعة رغم هيمنة الحزن على هيكلة النص من خلال جعل النص كفيلم سينمائي رغم أن النص ليس من النوع الطول فالاختزال والحداثة هما العمود الفقري للسرد و الكاتب كان يركز على الأحداث الحركية حتى و إن كانت في مشهد يظنه الكثيرون أنه ليس حركي
مثال : المقارنة نفس الركاب وهدير محرك السيارة الذي أسكتته تلك الأنفاس
2_ المونولوج الداخلي لبطل القصة كان له صدى كبير في تحليق النص فهو كالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن (ضربات القدر.)
فهي تصل لقمة صداها مع مشهد القفلة.
3_ولوج الكاتب إلى الحالات النفسية لشخصيات السرد وتصديرها للمتلقي بدون إطالة أو تعقيد في التفاصيل.
4_ تفعيل الخيال و إعطائه أبعادا من خلال المفارقات الساخنة و ساخرة
5_جعل المتلقي جزءا من القصة من خلال الخاتمة المفتوحة
ماذا لو كان الحدث صار معي
هل أخطو للأمام
أم أعود إلى الخلف إلى الأعلى و ليس إلى المنزلق.
حيث الذات..حيث الوطن…حيث التفاصيل التي لايمكن للنسيان أن يقتلعها…حيث الهوية التي تغنيك عن جواز سفر.
6_ استخدام الكاتب لمفردات غزيرة بمعناها و مضمونها و دلالتها على أدب المقاومة مثال: الهوية..جواز سفر..مرور… منزلق.. شيء ما بقي هناك…وغيرها
7_نسج بطلة القصة بثوب المرأة الأم ليترك أبعادا تربوية و نفسية عميقة في ذات المتلقي
وفي النهاية أرفع القبعة لهذا السرد الرائع أ. جمال
عاشت فلسطين حرة عربية
Discussion about this post