Views: 4
الشاعر توفيق احمد
شهقة الليل في ضمير الشموع
يقال عن الشعر انه الحقيقة التي تصل إلى القلب بواسطة العاطفة ، و عرض البواعث النبيلة للعواطف النبيلة بواسطة الخيال وهو المحاولة الخالدة للتعبير عن روح الأشياء و هو نقد الحياة في حالات تلائم هذا النقد بتأثير قوانين الحقيقة والجمال الشعريين و هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبر عن المعنى الجديد والذوق والفكرة والعاطفة وعن سر الروح البشرية .. وعلى هذا يمكن تعريف الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى الذي يصور العاطفة والعقل و الشعر ويحمل رسالة صادقة واضحة لا إبهام فيها ولا غموض، ويحمل رسالة التزاميه تهدف إلى تهذيب البشرية والدفاع عن الحق وتخدم الإنسان حياتيا وأخلاقيا واجتماعيا. و هذا يعني أن يكون الشعر ذا رسالة نبيلة إنسانية أخلاقية وتطهيرية ترفع الإنسان إلى مراتب الكمال والسعادة الحقيقية.
اعترف بداية أنني لم أكن مولعاً بالشعر حتى سمعته بصوت الشاعر السوري المبدع توفيق احمد الذي تنساب الكلمات من بين شفتيه كسلسبيل يروي ظمأ الروح العطشى ويجدد الأمل بالقادم من الأيام 0توفيق احمد النسر القادم من قمم الجبال الحامل لكل القيم والمشاعر التي ينبض بها ريفنا الجميل يجعلك تعيش عندما تسمعه كلمات القصيدة بكل تفاصيلها 0حاولت من خلال الحوار أن استكشف مكنون نفس هذا الشاعر المبدع فلم استطع وبالرغم أن صمته كان ابلغ من الكلمات لأنك تقرا في هذا الصمت الكثير والكثير جدا وعندما أعيتني الوسيلة لجأت إلى مجموعة الأعمال الشعرية التي أصدرها والتي شكلت سلسلة من الجواهر الثمينة ليس بالنسبة له لأنه يرى كل منها مولوده الأغلى ولكنها جواهر في مكتبتنا العربية بما احتوته من إبداعات جديدة ولأنها كذلك أردت أن يتذوقها القراء في الوطن والمهجر من خلال هذه الإضاءة البسيطة على تلك المجموعات واعترف بداية أنني مهما حاولت فإنني لن ارتقي إلى مكانة هذه الأعمال الشعرية لكن عذري أنني احاول و من خلال قراءة الأعمال الشعرية للشاعر السوري المبدع توفيق أحمد ومن خلال اطلاعنا على الشعر العربي المعاصر وعلى تجارب بعض الشعراء العرب المبدعين منهم خاصة 00يقفز إلى بياض الورق جواب لسؤال طرحه في يوم من الأيام الشاعر السوري الكبير شوقي البغدادي والذي أراد به أن يكون رثاء للشعر وللشعراء على السواء حين أطلق سؤاله السهم : هل انتهى زمن الشعر؟ ومن خلال محاولتنا دراسة عناوين مجموعات الشاعر توفيق أحمد – التي صدرت له وهي ست مجموعات عناوينها على التوالي نجد صفة توحدها جميعها وهي إصرار الشاعر على صنع إشكالية في هذه العناوين وهذا يقودنا إلى حالة من التميز :
1-اكسر الوقت وامشي
2-لو تعرفين
3- لا هدنة للماء
4- نشيد لم يكتمل
5- جبال الريح
6- حرير للفضاء العالي
ومن خلال قراءة بعض قصائد هذه الأعمال سيدرك القارئ أن الشعر ما زال ديوان العرب… وإن لم تحتف الحكومات و القبائل بالشعراء ولم تمنحهم عُشر ما تمنح عبر وسائل أعلامها لمغنية شابة لا تملك إلا ما يثير الجمهور000 وباعتقادي فان شعراءنا المعاصرين قادرون على الوقوف بثبات أمام ( ما يسمى بنمط الحياة الاستهلاكية التي اجتاحت المجتمع العربي ) وأمام ( المناخ المعنوي الهابط الذي خلفته الهزائم والنكسات القومية المتلاحقة منذ بداية عصر النهضة حتى الآن والى الفراغ الروحي الكبير الذي كرسه إفلاس الأيدلوجيات العربية المختلفة وأنظمة الحكم التي عقدت عليها الشعوب آمالا كبيرة في العقود الماضية) كما يقول الشاعر شوقي البغدادي0
اكسر الوقت وامشي : نبدأ قراءتنا بالديوان الأول حيث يفاجئنا الشاعر المبدع توفيق احمد ومنذ باكورة إنتاجه ويحيلنا إلى سؤال له جناحين اثنين
الجناح الأول : كيف يٌكسر الوقت؟! وهل الوقت زجاجُ أم عصا أم شجرة مثمرة ؟
والجناح الثاني : كيف يمشي من يكسر الوقت ؟! وبمعنى أخر إذا كان الكسر هنا بدافع البحث عن وقت جديد متغيّر يناسب الشاعر وإبداعه00 فلماذا يمشي بعد أن حقق ما يصبو إليه 00 وهل مشى الشاعر بعد أن كسر الوقت إيذاناً بدخول مملكة الوقت التي تشبه الغابة الكثيفة 00 وبالتالي فان الكسر هو فتح باب الوقت والسير بعد ذلك إلى رحابة المكان والوقت والشعر 0
وقد استوقفني هذا العنوان كثيرا !! فلو اختار اكسر الوقت فقط لكان عاديا ولكن إضافة كلمة ( وامشي ) أعطت العنوان الكثير 0000واحالتنا إلى التفكير في العلاقة بين كسر الوقت والمشي وأثارت فينا أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة سيما وأننا أمام شاعر متمكن ملك زمام القصائد وقاد قافية الشعر الخاصة به إلى مدينة يملك وحده مفاتيحها:
طفل أنا أخطو ولي لعب
كتبي دروب رملها شهب
وغمامة تبكي وسفح شذى
نوراً على الآفاق انسكب
وهج المسافة جٌنًّ في جسدي
في كل ضلع جامح يثب
ورنيم أجراس المدى بدمي
والصبح أم للندى وأب
وجوارحي للنار قافلةٌ
لمواكب النسرين تنتسبُ
يجري بأوصالي غدٌ القٌ
وعلى جبيني ترتمي السحب
((ص 38))
فإذا كان للشعر مدناً يعيش فيها الشعراء فإن الشاعر المبدع هو الذي يسكن مدينته بمفرده يؤسس مبانيها ويخطط شوارعها ويزين حدائقها بعناية فائقة بعيدا عن غيرها من المدن 00 فمدينة الشاعر إذا تشابهت مع مدن غيره من الشعراء لم يتحقق التفرد والتّميز وبالتالي كان الشاعر صوتا مفردا يستحق أن يشار إليه بالبنان0
وما أظنني أجانب الحقيقة إن قلت بان الشاعر المبدع توفيق احمد ملك مدينته بدءا من المفتاح وانتهاء ببشر هذه المدينة 0
ألف وحش
لو من العتمة يأتي
لو على كل دروبي كامنا جهما سيلقاني
ولو في كل غابات أماني
سيلغي البوح بالحلم
سأمضي
اكسر الوقت وامشي
((ص 18))
إن أي حديث يريد أن يمسك بمفهوم المرأة في الشعر العربي , يجد خيوط هذا المفهوم في المعتقدات الدينية للإنسان القديم الذي ارتقى بها إلى الذرى , حيث أقام التماثيل الممجدة للخصوبة والقدرة على الإنجاب , والمرأة وبضيفتها تلك تدخل في علاقة متماهية مع الأرض بوصفها فضاء للخصوبة والإنبات , وتصبح الأمومة هي جوهر هذه العلاقة , وهو الطرح الذي أكده الفكر اليوناني المرتكز على التفسير الأسطوري للظواهر الوجودية والكونية ,لذلك اتسمت العلاقة بين الرجل والمرأة في الحضارات القديمة لاسيما عند السومريين بنوع من القداسة والجلال , وكان طقس الزواج لديهم يخضع لممارسة تعبدية تصبح المرأة فيها إلهة تستحق العبادة والتبجيل , من خلال تواشيح ينشدها الزوج المرشح , ولا شك أن التصور الديني للمرأة قد اثر كثيرا في الشعر العربي الجاهلي , لان الشعراء سلكوا فيه طريقة التجسيد المادي لها وسطرت الكتب السماوية تاريخاً لبداية الخطيئة البشرية التي دشنها إغراء ( حواء ) بالأكل من الشجرة المحرمة في الجنة , وفي القرآن الكريم وصف درامي لغواية ( زليخا ) ومراودتها للنبي ( يوسف ) عليه السلام , وهكذا تصبح المرأة مشتملة على وجهين : أولهما خير ومقدس , وثانيهما : شرير ومدنس . وفي اشتمالها على الشئ ونقيضه دليل على واقعيتها , ودخولها في علاقة تكاملية وتفاعلية مع الرجل , هذه العلاقة التي ستقوم على الحب المتبادل بينهما , حب ينطلق من الجسد ليوغل في أغوار الروح , ويتولد عن ذلك شوق حار لا يهدأ , وظمأ شديد لا ينطفئ . وربما وجد الشعراء العشاق في القول الشعري ما يخفف من هذا الشوق , ويعوض عن لذة الجسد , فالغرض إذا هو بحث الصلة بين تجربة الحب وقولها , إن المرأة كمتخيل شعري هو نوع من ممارسة النشوة الصوفية من خلال اللغة , أي محاولة الوصول إلى المطلق ما دام الارتواء لا يتحقق جسديا , بمعنى أن اللغة الشعرية تصبح معبرا إلى عالم المرأة ,
وعالم المرأة ليس دائما هو ذلك العالم المليء بالأسرار وبهالات الطهر والجمال , انه – تبعا لتطور المجتمع وضرورة المرأة فيه – عالم يقوم على التنوع والصراع , حيث النظرة الرومانسية تتكسر على فجاجة الواقع ومتطلباته , وحيث المرأة والرجل يسعيان معا إلى تحقيق ذاتيهما في بوتقة من التفاعل والتعاون , تربطهما علاقات الالتقاء والافتراق , والتجاذب والتباعد , وبصفة عامة تصبح المرأة فيه محققة لوجودها الذاتي والموضوعي , بل هناك من الفلسفات المعاصرة ما عادى المرأة وحذر منها , ونشير هنا إلى فريدريك نيتشه الذي يقول على لسان زرادشت : ( ليحذر الرجل المرأة عندما يستولي الحب عليها , فهي تضحي بكل شئ في سبيل حبها , إذ تضمحل في نظرها قيم الأشياء كلها تجاه قيمته ليحذر الرجل المرأة عندما تساورها البغضاء لأنه إذا كان قلب الرجل مكمنا للقسوة فإن قلب المرأة مكمنا للشر )ولكل هذه الأسباب والمبررات يمكن أن نميز معظم أعمال توفيق احمد الشعرية من خلال وجود المرأة بشكل أو بأخر وهذا واضح بشكل جلي في مجموعة لو تعرفين فنجد الشاعر يشير من خلال هذا العنوان إلى أهم غرض من أغراض شعره ألا وهي المرأة 00 المرأة الحاضرة التي يخاطبها دون حجاب ويرى أنها ملهمة حقيقية من خلال حضورها القوي اللافت0
ضمنت و شعري شاهد أن زهرة
تمر به يذوي الزمان ولا تذوي
تغسلت بالعطر المقدس هل ترى
تذكرت أن العطر جاءك من نحوي
اضاميم كنتِ النار فيهنّ والندى
وسرتُ إلى السر المحتّم لا الوي
أنا قادمٌ اجتاح باسمكِ عالماً
فهل انتِ بحرٌ ماج ام نجمةٌ تهوي ؟
((61-62))
ويأتي الإدهاش في العنوان من خلال كلمة( لو) فالمرأة رغم أنها ملهمة لكنها لا تعرف كل شيء عن الشعر والشاعر 00 ويتمنى عليها الشاعر أن تعرف ليكتمل بها القصيد وترتفع الأنثى التي يكتب عنها لتصبح قصيدة بذاتها بدلا من أن تكون ملهمة فحسب 0
أنا الصوت الذي يزداد عمقاً
ليوقظ ماتبقى من طلولِ
افتش عنك بين دمي وقلبي
وياخذني الى تعبي دليلي
وارتقب الثواني علّ سحراً
يمرُّ كشهقة الوتر القتيل
((65))
وهنا يجب أن نميز بين المرأة الملهمة والمرأة القصيدة وبنظرة سريعة إلى بعض قصائد هذه الأعمال الشعرية يتبين لنا أن الشاعر أحبّ أن يرتقي بالمرأة ويأخذ بيدها ويحولها من أنثى ملهمة تستدعي الشعر وتقيم له أعراساً وأناشيد إلى امرأة قصيدة تمسك الشعر من يده وتمر به على مواطن الجمال التي عرفها الشاعر
كتبتك كالقصيدة في الضمير
كزنبقتين من نار ونور
نسافر في العصور بلا ضفاف
يجوب شراعنا لجج العصور
ويكتبنا الزمان مع الاماسي
رفيف شذى وفي لغة الطيور
كأنك أنت تختصرين عمري
على زنديك في صمت الصخور
وفيما ظل من وجد بصدري
أعود إليك بالكأس الأخير
((34-35))
واعتقد بان الانتقال بالمرأة من مرحلة الإلهام إلى مرحلة التوحد بالقصيدة هو انتقال صعب يستدعي وجود أنثى شاعرة أكثر منها أنثى جميلة0
وكم تمنيت أن يجد الشاعر الأنثى التي لا تحتاج أن يسألها فالمعرفة بالنسبة للمرأة مفتاحها وطريقها إلى الشعر الذي لا يخلد إلا بها 00
وعندما لا تكون المرأة قصيدة فإنها لا تستطيع بمفردها أن تكون ملهمة ويتطلب ذلك من الشاعر أن يعدد في علاقاته ويكثر من النساء حوله ويتحول إلى شهريار جديد ليكّون ديوانه الشعري المتميّز:
كمية نساء
ينتعلها بيت مسور بالرهبة
وعزف متقن على أوتار الروح
عند عودتها إلى الماخور
((43))
أن التقنين والتقعيد يتناقضان مع طبيعة اللغة الشعرية. فهذه اللغة بما هي الإنسان في تفجره واندفاعه واختلافه، تظل في توهج وتجدد، وتغاير، وتظل في حركية وتفجر؛إنها دائما شكل من أشكال اختراق التقنين والتقعيد. إنها البحث عن الذات، والعودة إليها، لكن عبر هجرة دائمة خارج الذات…ومن هذا المنطلق يمكن أن ندخل إلى المجموعة الثالثة للشاعر توفيق احمد ((نشيد لم يكتمل)) واختياره لهذا العنوان يؤكد لنا انه ليس للشعر نهاية 00 وما الأناشيد التي ينشدها الشاعر إلا مفاتيح لأبواب ومدن دخل الشاعر بعضها وكتب عنها وأورد جمالها لكنه لم يكتفِ بهذه الأبواب وهذه المفاتيح 00وهنا يذكرنا بالشاعر التركي الكبير ناظم حكمت الذي يقول : أجمل قصائدي هي التي لم اكتبها بعد 0
مزق دفاترك القديمة يا بن هذا اليوم
وارحل صوب ما يأتي
لئلا تنتهي بالهامش الرسمي
يؤويك الرصيف وجدولات
الاندثار
فلكم على دمنا الحياة توكأت
اليوم مثل الأمس
براق شهي عمرنا
ومضرج هذا المدى بمرارة اللاشيء
يمضي يابساً رخوًا000 ولكن
لم يزل في افقه ضوءٌ شديد الاخضرار
((162-163))
وأتذكر أيضا الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي الذي أكد على أن القمة جرداء وان سعي الشاعر الدؤوب للوصول إلى قمة الإبداع هو ما يعطي للشعر جماله00
فنشيد شاعرنا المبدع توفيق احمد الذي لم يكتمل يبشر بقصائد جديدة أجمل وأبهى 00 ويؤكد لنا انه مواظب ومثابر وجاد في طريق الشعر وصولا إلى القمة وهذا ما يجعل من الشعر شيئا عظيما:
قصيدة أنا ادري كم تعبت بها
لكي تكوني معي في حاضري وغدي
اذا الشراع تهاوى مثقلاً بمنىً
فرحلتي خفقةٌ في البال لم تلدِ
((33))
فيها شيئا 00 فالهدنة في الحرب محتملة ومع الفقر و المرض كذلك000 لكنها غير محتملة بنظر الشاعر توفيق ثم تأتي المجموعة الرابعة ((لا هدنة للماء)) التي يقف أمامها القارئ مبهورا متسائلا :ما سر الهدنة التي يريدها الشاعر للماء ؟ ولماذا أكد ومنذ اللحظة الأولى على انه ليس للماء هدنة ؟! وهنا نفكر بالكلمة الأولى من العنوان ( لاهدنة )ونقلب معها مفرداتنا : لاهدنة في الحرب000 لاهدنة مع الفقر 000 لاهدنة مع المرض 000ونكمل الكثير من الجمل ولكننا لانرى احمد مع الماء!!
فالماء قصيدة والماء تدفق والماء حركة دائمة00 والهدنة في الحرب أشبه بالسكون بالنسبة للماء 00 وهنا تأتي جمالية هذا العنوان فلو قال الشاعر هناك هدنة مع الماء لفسدت القصيدة وفسد الشعر وتوقف الجريان والحركة وكأنه أراد أن يقول بان الشعر هو ارتحال إلى أماكن لم تطأها الاقدام0
من آخر الطقس ابتدأنا
أيها الغيم المسافر في تجاعيد الغياب اضىء
عليك توكلت صحراؤنا
في رحلة الضمأ الجميل
هي خطوتي الاولى
رحيل نحو نبعك
ليس يدركه الرحيل
أنا بانتظار البحر في عينيك
يأخذني إلى الغرق الطويل
((273-274))
ولا أظن أننا نقلل من شان العنوان إن قلنا بان الشاعر عنى بالماء هنا الشعر والحياة والتجدد 00ولانه لم يكن شاعراً مهادناً ولم يصالح مفرداته ولم يرخ لها العنان لتسيره وبالتالي لتجبره على قول ما تريد 000 فقد أبى أن يهادنها وظل الفارس المقدام الذي لا يأبه بالمعارك ولا يخاف سرعة جريان الماء 0
لماذا تهرب النحلات مني
إليك تهيم في نزق الرخاء
إذا لم تغزُ ريحك جمر حبي
فمن بالنار يشوي كستنائي
إذاً زيدي غرورا واستبدي
غرورك كله من كبريائي
ألوم الروح إن بقيت طويلا
تصدق أي شيىء في النساء
((285))
وإذا انتقلنا إلى ديوان ((جبال الريح)) يأخذنا حال أشبه ما يكون بحال من يمسك رأسه بكفيه حين يصادف مشهداً مثير 00 أو كمن يغمض عينيه لكي لا يقفز الحلم البهي من بين عينيه 00!! فالجبال هي الشموخ والسمو والتعالي والريح هي القوة والمجد والارتحال والجامع بين الجبال والريح هو القوة وكأن الشاعر من خلال المزاوجة بين هاتين المفردتين أصّر على القوة وعلى العزم وهو محاولة لإثبات الذات والوقوف في وجه المؤامرات(الشعراء الذين افسدوا الشعر بأشعارهم الرديئة) كما يقول الروائي إبراهيم الخليل0ونجد ذلك واضحا في رسالته الى رضا رجب:
كم أنت تمنح فرصة أخرى
لمن جهلوا البلاغة
إذ تفجر كل حين نبع أسئلة
وأخيلة جديده
هي هذه اللغة العنيده
فوق راحتك ارتقى بنيانها
وشددتها من مخزن التاريخ طائعة
إلى بيت :
أسمية المثاقفة 00المعاصرة 00 المدى العربي
خلف جدار هذا الليل
حيث أصالة لبست ثياب العصر
واتكأت على رمح الحروف لكي تضيئك كاللهب
ص (( 354 – 355 ))
وباعتقادي الشاعر المبدع أشبه بمن يقود معركة ضد أدعياء الشعر ,في يمناه جبال الصمود والقوة وفي يسراه ريح الإصرار على المواجهة
أنا ضد تدمير الجمال حماقة
بيد تحدد جنتي و جهنمي
لغة بلا لغة وأكسدة بها
صدىء الكلام وصار محض توهم
أنا لا أريد على البلاغة قيّما
فالشعر لا يعنيه شكل القيّم
الشعر خارطة الجمال وكيفما
صحت لك الأمداد فيه فحوم ))
ص 423 _ 424
وإذا قلنا بأن الشاعر أراد أن يكون في أشعاره جبلا في وجه ريح الادعاء التي يركبها الشعراء العاديون فهو معنى جديد ومبتكر وينم عن خبرة ودراية بشعره وبشعر المرحلة التي نعيشها 00
والشاعر الجيد في معركة حقيقية مع الشعراء الذين لا يعرفون من الشعر أكثر من اسمه فتراهم يهاجمون الإبداع بشراسة وكأنهم يملكون الريح وقد استحق هؤلاء الشعراء أن يكون الشعر الحقيقي جبلا يأوي إليه الشعراء المبدعون ليعصمهم في زمن لا عاصم فيه إلا الإبداع
المركز يغلي كخلايا النحل
وكان الإعلان كثيفا
يلفت أنظار الأشجار
الواقفة على قارعة الليل
حضر المدعوون وغير المدعوين
ومن ليس له بالإبداع علاقه
نسي الشاعر هذا
أن لكل الناس الحق
بأن تعرف
من يهوي في القاع
ومن ينهض
قامة ضوء عملاقه ))
ص 363 _ 365
وأخيرا نقرأ عنوانا جديدا كل الجدة وناعما إلى درجة العري (حرير للفضاء العاري ) وتصوروا أيها القراء أن يكون الفضاء باتساعه وشموخه وما يملكه من حرير ونعومة عاريا أيضا 00وهل نجد أصفى من ذلك ؟ حرير ناعم وفضاء رحب وعري لا زيف فيه 000وهي صفات ثلاث أراد الشاعر أن يعرفنا بنفسه من خلالها وبشعره أيضا 00فالحرير هو الكلام الوثير الغزل الذي يكتبه الشاعر 00 والفضاء هو الرؤية والأفق 00 والعري هو صوت الحقيقة لدى الشاعر وصورتها
كانت ترش علي أسئلة
وتأخذني إلى مدن الغبار المستحيله
وتنام بين غمام أخيلتي
وتنهض دونما إذن لتستعلي
على شرفات أيامي القتيله
ص 431 -432
كانت الطبيعة و ما زالت الملهم الأول لأرباب الفن لاسيما الشعراء ذلك أن الطبيعة ترافق الشاعر بمظاهرها طوال حياته، و يستوحي منها عناصر تجربته الشعرية. كان وصف الطبيعة في الشعر القديم بابا طرقه معظم الشعراء و اتسع المجال فيه و لم يخل منه ديوان من دوا
كانت الطبيعة و ما زالت الملهم الأول لأرباب الفن لاسيما الشعراء ذلك أن الطبيعة ترافق الشاعر بمظاهرها طوال حياته، و يستوحي منها عناصر تجربته الشعرية. كان وصف الطبيعة في الشعر القديم بابا طرقه معظم الشعراء و اتسع المجال فيه و لم يخل منه ديوان من دواوينهم.
عالج الشعراء، الطبيعة في العصور المختلفة و أمعنوا في وصف مظاهرها بمختلف الأوصاف و النعوت، فالشاعر الجاهلي أدرك معالم الجمال في طبيعة بيئته و قام بتصويرها جزئيا. و تخللت أبياته لوحات جميلة من الصور التشبيهية و الاستعارية التي استمدها من الطبيعة. فجاء وصف الطبيعة خلال قصائد الجاهليين تمهيدا للغرض الرئيسي من المدح و الهجاء و… وكان وصف الشاعر الجاهلي جزئيا مفصلا معتمدا على قوة الخيال فهو يصور كل مشاهداته من الطبيعة الحية و الصامتة، انه يصف الناقة و الخيول بكل نعوتها و دقائقها كما يقوم بوصف الصخر و الجبال و السهول و الأمطار بأنواعها وفي هذا الجانب نجد الشاعر توفيق احمد أبدع في وصف الطبيعة التي عاشها بكل تفاصيلها وشكلت حيزا كبيرا من حياته وأصبحت مستقرة في الذاكرة
ضيعتي يا الورد فوق الجبل
يا أغانيّ ويا صوت الحلي
يا قطيعا من نجوم تعبت
واستحمت بمياه الجدول
يا العصافير على الأيك ويا
ضمة الصدر وتيه القبل
ص ((73))
وباختصار فان قراءة عناوين المجموعات والكتابة عنها هي محاولة لشد القارئ إلى محتوى هذه المجموعات وهي تأكيد على أن العنوان هو مفتاح القصيدة واعتقد بأننا في دراستنا لعناوين الشاعر توفيق احمد ولقصائده سنكون بمنتهى الغبطة 000 وقليلٌ من الشعراء من يدفع بك للغبطة بعيدا عن مطبات اللغة القاسية ودروب المفردات الوعرة 00 أليست البساطة هي الإبداع ؟!
انظروا معي إلى قصيدة حوار معاصر ولاحظوا البساطة الخلاقة المبدعة
قالت : أتولد بالحرام قصيدة
قلنا : نعم وتفوق كل حلال
هذا مجال الشعر ينبض دافئاً
ومجاله المألوف صار مجالي
بحرامه تغدو الحروف قوية
فتكسر العاتي من الأغــلال
إن كنت ترضين الحوار
فجربي
ما للخروج على النصوص ومالي ؟
(( 215-216))
يمكن للدارس أن يرى في شعر توفيق احمد مقومات جمالية تعكس ثقافة الشاعر وردود أفعال الواقع التي ترجمت عنه وكانت تعبيرا عن ظواهر متقدمة0
يقول الأستاذ عبد الله زكي الأنصاري(( الشعر كلمة ليست كالكلمات ، لها رنين ، وفيها نغم، ولها إيقاع توحي لك بالموسيقا وتسير معك في الخيال وتأخذك إلى عالم السحر والجمال0
خلق الشعر مع الإنسان يعيش معه ويحيا بحياته ويسمو بسموه ويموت بموته انه الصوت الجميل والنغم اللذيذ واللحن الحلو الناعم ))
من خلال هذه الكلمات التي أعتبرها فاتحة للحديث عن قصائد الشاعر توفيق أحمد أستطيع أن ألقي الضوء على مزايا شعر هذا المبدع من خلال استعادة بعض الكلام الذي ورد في هذه المقدمة العميقة 0
( الشعر كلمة ليست كالكلمات) لم تكن القصيدة لدى الشاعر المبدع توفيق أحمد كلمة تشبه مثيلاتها من قصائد الآخرين 000 وهذا التفرد الذي أشرنا إليه أثناء قراءة عناوين المجموعات يؤكد ما رمينا أليه 00 فهو يطمع إلى تحقيق لغة خاصة به 00 فكما أن الشعر كلمة ليست كالكلمات فللشاعر المبدع توفيق أحمد قصيدة ليست كقصيدة أخرى 00يرى الشاعر أن هوى الحبيبة هو دهر جميل بفصول كثيرة اعتقد جازما أنها لا تنتهي 00 وفي حال أن انتهت تلك الفصول البهية الندية فإن الشاعر بتفرده الملفت يرمي فصولا جديدة ويضيف عمرا جديدا لعمر هذا الهوى الخلاق الذي أخذ منه كل مأخذ وأحاله إلى معجب تلفه الدهشة ويغلفه الانبهار اللذيذ00
وشعر هذه الحبيبة هو غابة نخيل تمشي على رمل الحروف !! وما عليكم أيها القراء إلا أن تتخيلوا الأرض برملها وجفاف صحاريها قبل أن تأتي هذه المحبوبة وتكون نخيلا يعطي للأرض ما يُعطي 00فكانه زواج بين الحبيبة والوطن وبين ذرات هذه الأرض التي نعيش عليها بفنية عالية تسجل للشاعر :
عندي فصول من هواك إذا انتهت
ارمي عليها من هواي فصولا
ماكنت اعرف ان شعرك غابة
تمشي على رمل الحروف نخيلا
((139))
( الشعر كلمات لها رنين وفيها نغم ولها إيقاع توحي لك بالموسيقا )لابد من الإشارة هنا إلى أن الشاعر يهتم كثيرا بالرنين والنغم والإيقاع والموسيقا 00 وخاصة في قصائده العمودية فهو يعزف على آلة الشعر بإتقان واضح 000 فالكلمات تحتل مواضعها الصحيحة الأليفة – والسرد الفني يضفي على القصيدة تميزا واضحاً 00 وذلك ليس على حساب المعنى والفنية اللتين ظهرتا في معظم أجزاء أعماله الشعرية0
أنا الهيمان فيكِ وانتِ أدرى
فلا تتجاهلي لغة النداءِ
وكيف على غصونك لا اغني
وقد علمتني معنى الغناء
إذا عيناك غادرتا مسائي
أعيدهما لروحي في المساء
((286- 287))
( وتسير معك في الخيال وتأخذك إلى عالم السحر والجمال ) لقد أكد الشاعر في معظم قصائده على التحامه بالطبيعة والحبيبة فنراه يتحدث عن قريته التي تشبه المدن ولان حبه لها كبيرا فقد اعتنى بمفرداته حين تحدث عنها وحاول أن يصنع جملا جديدة ربما هي اقرب إلى شرح الحال منها إلى غير ذلك وأظن بأن الشاعر حين كتب ع
( وتسير معك في الخيال وتأخذك إلى عالم السحر والجمال ) لقد أكد الشاعر في معظم قصائده على التحامه بالطبيعة والحبيبة فنراه يتحدث عن قريته التي تشبه المدن ولان حبه لها كبيرا فقد اعتنى بمفرداته حين تحدث عنها وحاول أن يصنع جملا جديدة ربما هي اقرب إلى شرح الحال منها إلى غير ذلك وأظن بأن الشاعر حين كتب عن قريته كان بعيدا عنها وعن ليلها وعن جسدها أليست القرية أنثى 00 أليس عشق الأرض جزءاً من عشق الأنثى 00 ولكي يوسع المعنى فقد أشرك عناصر الطبيعة في قصيدته فتحدث عن خطوط الوحل وسرر القش وشقوق الجبال وعن الكهوف والمغاور وينهي القصيدة على قصرها وغناها بالحديث عنه ذلك الشاعر الذي عاد يحمل في يمناه قنديلاً خافت الضوء وهو يطلق اغنية للرحيل الطويل0
ضيعتي يا لهيبا من الرفض في العمق
ياخطوطا من الوحل تنساب في الجلد
تغفو على جسد رافلٍ بالبروق
إن وجها – طريدا – من الليل ياضيعتي
سينام على سرر القش
في الزمن العاصف
سوف يبكي على نفسه
ويسائل عن عزة العرش
كل شقوق الجبال وكل الكهوف
وكل المغارات
يمشي بقنديله الخافت الضوء
يطلق في سقطة الروح
اغنية للرحيل الطويل الطويل
((9-10))
وفي موضع اخر يرى في ضيعته العشيقة والحبيبة ويرى انها وردة فوق الجبل( وهي في الواقع كذلك) وأغنية وصوت حلي يزين الجسد ويرتفع بها السمو ليتخيلها قطيعا من النجوم تعبت فآثرت ان تستحم بمياه الجدول 0 هل هناك اكثر من ذلك توحدا مع الطبيعة وهل هناك أكثر من هذا الحب العارم لهذه الضيعة المضيعة للعقول والسالبة للالباب00
ولا أخال أحدا سيرتوي روحيا إلا إذا زار هذه القرية وعب من معينها واختزن من سحرها مؤونة القادم من الأيام :
ضيعتي ياالورد فوق الجبل
يا اغاني ويا صوت الحلي
ياقطيعاً من نجوم تعبت
واستحمت بمياه الجدول
ياالعصافير على الايك ويا
ضمة الصدر وتيه القبل
((73))
وكما كان ومايزال الشاعر وفياً لقريته ومرابع طفولته فهو كذلك للمدينة التي سكنها وعمل فيها واحبها بعد ان منحته الكثير انها دمشق :
أتمنى أن تعرف كل نساء العالم
أن أجمل عطر هو الذي ينطلق من الياسمين
الذي يملأ حواكير دمشق
وأتمنى أن يعرف كل الآباء
أن قدمي آدم
ماتزالان محفورتين على صخرة
فوق جبل قاسيون
الذي يحتضن دمشق بذراعيه
((467))
ولم ينس الشاعر ان يكتب عن الرقة تلك المدينة الوادعة التي ترقد هانئة على ضفة الفرات مشيرا الى كثافة اشجارها ايام الخليفة العباسي هرون الرشيد الذي حكم العالم الاسلامي منها ذات يوم :
في الطريق اليها
كنت احني راسي
متوهما ان الشجر
الذي كان يظلل هارون الرشيد
مايزال متشابك الاغصان
وكنت اشمر ثيابي
لكي لاابتل بروافد الفرات
((493))
ولان الشعر خلق مع الإنسان فحري بالشاعر أن يتحدث في قصائده عن الإنسان ويبحث بين البشر عمن يستحق أن يكتب عنه ويتمثل القيم الخالدة التي زينته ودفعت الشاعر للحديث عنه وقد تحدث شاعرنا عن دمشق وعن الشهداء وعن الأسير الفلسطيني الصامد وراء قضبان سجون الاحتلال:
كيف ابتكرت من السلاسل في يديك
أساور القدس التي تزهو
بــورد العـــــز والنخوة
أنت الطليق بســــجنهم
أفلا دروا أن الظـــــلام
على دم الماسور ظلماً
ثـــورة الـــــصحوة !!
وكذلك بحث عن البطولة فوجدها في شخص المجاهد العربي الكبير الشيخ صالح العلي الذي قارع المستعمر الفرنسي في الجبال والوديان وأوقع به أفدح الخسائر التي دفعت به للجلاء عن ارض الوطن فاستحق هذا المجاهد أن يصبح احد رموز الوطن:
على الخيل المطهمة العــــراب
أطوف وفي دمي وهج الشباب
طلعت على فرنسا مستعدا
ومن يدري مغازلة العقاب
((148-149))
وبعد هذا العرض الذي لا يفي بالغرض 00 لكنه يضيء على شاعر مبدع خط أروع السطور في سفر الشعر العربي ومن خلالها قدم للأجيال تجربة كاد أن يتفرد بها بين من عاقروا الاشتغال بالكلمة والمعنى فكانت الأماكن والإنسان والطبيعة والمبادئ وقبل وبعد كل ذلك المرأة بأبعادها المختلفة محورا دائما لأعماله الشعرية أعزائي القراء في الوطن والمهجر أتمنى أن أكون قد وفقت في تقديم إضاءة بسيطة على أعمال هذا الشاعر المبدع مع قناعتي أنني لن استطيع الارتقاء بشكل جيد إلى هذه القامة السامقة لكن عذري أنني حاولت0
Discussion about this post