Views: 1
قراءة في لوحة أرض الطوفان
بريشة الفنان الفلسطيني العالمي نياز المشني..
لوحة أرض الطوفان، استطاع الفنان أن يمدّنا بالرموز المختلفة التي تحويها هذه اللوحة من أرض الطوفان، وببراعة الألوان ومزجها لتناسب فكر الفنان وعمقه وما يهدف من خلال عرض خياله وقدراته البارعة في نسيج فني بارع يجمع بين قراءة الألوان وبين قراءة أفكاره ورسوخها في أرض فلسطين، بين أروقة ريشته في أرض الإسراء والمعراج..
فهو يحوّل بوصلة المتلقي لهذه اللوحة نحو الأرض المقدسة،
باستخدام رموز خاصة بها، كصورة المرأة، والتي ترمز للوطن وللأرض، فالمرأة، رمز الحياة، رمز التناسل وتجديد الذرية، رمز التضحية، رمز
فقد جعلها تطفو على وجه الطوفان، كدليل لتجدد الحياة وعدم غرقها كدليل لنجاة الأرض من الغرق مهما حدث لها من طوفان فهي تبقى صامدة لا تموت، لأن الأرض المقدسة مهما حصل فيها من كوارث تبقى شامخة لا تغرق أبداً، بدليل رمزية الأرض بالمرأة والتي هي مصدر التناسل وتجديد الذرية.. وقد رسمها الفنان وهي مغمضة العينين، كأنها في سبات تنتظر من يعيد لها الحياة ويدب فيها روح النبض، لكسر السبات وإيقاظها بالصحوة وبالحرية والتحرير من الظلم والقهر الذي ألمّ بها…وكأنها لم تستيقظ بعد على يدي من يوقظها من ذلك السبات المدروس من قبل، فجعل الفنان وجهها للسماء وظهرها للطوفان، كنوع من رمزية القوة والتشبث بخيوط السماء، والطوفان من تحتها وتحت ظهرها، كنوع مما يحدث للأرض من طعن في ظهرها وتلاعب المحتل والدول العربية والغربية التي تركت بصمات على التطبيع، كل هذا الطعن من رمز الطوفان وظلم البشر…
ثم تعرض الفنان لرسم يد واحدة وهي اليد اليمنى للمرأة فوق الطوفان، إيماناً منه بأنها ما تزال تصارع الظلم والقهر ولكن بيد. واحدة وقد تخلى عنها الجميع..وهي ترفع السبابة رمزًا لوحدانية الله وتوكلها على الله وحده وهو الذي سينصرها بعيدًا عن مطامع الدول الأخرى في مساندتها… بمعنى أنها لن تستيقظ إلا بالتوحيد وإشارة العبودية للواحد الأحد، وأن استيقاظها لن يكون إلا بعد أن تتجند الأرواح مجتمعة على دين الله وشريعته..
وأما الجمال الذي رسمه في المرأة، دليلاً على أن الوطن والأرض تحوي كل الجمال لغناها بالكنوز المختلفة وغلاتها بالشهادة وشهدها والتي تغري كل ظالم باقتحامها والمحاربة لأجلها لوفرة كل عناصر الجمال، وموقعها الاستراتيجي المغري، والتي تُعدّ مطمع كل العالم لتفردها بما تملكه من كنوز لم تحظ به أية دولة في العالم…
فالمرأة ورمزيتها في اللوحة المذهلة، إنما تمتاز بتلك الخصوبة وجسد الحياة الحي بما فيه الحركة، لأن رمزية المرأة عند الشعراء والفنانين على اختلاف لوحاتهم، تعطي لهم أفكارًا وخيالًا يدفعهم
لاستحضار صور حية من أنفاس معاني المرأة التي تعطي التفاؤل والحب والجمال، لذلك يتم كثيرًا من مزج المرأة بالأرض، كعنوان للخصوبة وكل مقومات الحياة الكريمة، والشاعر جعل المزج بين المرأة والطوفان، كنوع من رمزية المرأة بقدرتها على مجابهة صراعات الحياة ومدى قدرتها في الصمود أمام أعتى وأصعب التيارات المختلفة، وللتاريخ شهادات على قوتها وعظمة صمودها، لتدفق تلك العاطفة والانفعالات النفسية التي تحركها لتكون أصلب مقياسًا حكيمًا للشدة واللين.. ومع ما تحمل من قدرات في المقاومة، ودورها الرمزي في التعبير عن الحق والانتماء والطبيعة الخلابة في حواسها المتدفقة بالحنين والمحبة وما تفعله من احتواء لعناصر مختلفة تشير لطقوس كامل للأرض والرحم الحقيقي للوطن، ومبعث للفلسفة الناطقة من وحيها الفاتن بعالم الوجود والتعبير عن حق الوجود وقوة الانتماء للهوية والوطن..
في هذه اللوحة والتي أمدّنا الفنان بعنوانها /أرض الطوفان/
جعله الفنان كأوّل الولوج للوحته وكناطقة لأفكاره وأبعاده وتأويلاته التي يدخرها في صُلب اللوحة وفي ألوانها التي تتراقص جمالًا وتعبيرًا قويًا عن معالم الأرض ومعالم الهوية الفلسطينية..وكأنه استمدّ من التناص القرآني للطوفان، كرمز ليعبّر عما وصلت إليه أرض الرباط من طوفان على جميع الأصعدة، ومن مختلف فئات الأرض وحكامها الظالمين.. لكن الطوفان في اللوحة لم يجعل الفنان غرق للأرض فلسطين والمسجد الأقصى، والذي أشار إليه باللوحة كنوع من البقاء والصمود وبقائه ليوم الدين ليوم يبعث الناس أحياء لرب العالمين، رغم كيد الكائدين ورغم عنفوان ومؤامرات الظالمين..
لذلك جاء العنوان كمرحلة تمهيدية لأفكار الفنان ورؤيته الفنية ورمزيته لأرض فلسطين.. وهذا هو ما يعطي قوة الترابط بين قوة الريشة وقوة الفكر وبناء فلسفته باستخدام الألوان الملائمة لعمق اللوحة، وكقوة للبقاء والتشبث بالأرض، وهذا هو الإلهام الذكي البارع في اختيار كل نقطة باللوحة كي يشير لأبعاد قد يغفل عنها المتلقي مهما كانت درجات علمه الواسعة، لأن الفنان هو الذي يمدّ لوحته بأحاسيسه اليقظة ومشاعره الحية، كدليل على عمقه وفلسفته الخاصة به…
لذلك نجد بين طيات اللوحة تلك الرموز التي تعبر عن الظلم والوجع والقهر الذي ألمّ بأرض الرباط، والتي قاموا باغتصابها دون وجه حقّ.. وماهية استخدام الألوان بظلالها ونوعيتها، كمنْفذ لتشكيل لوحة تحكي القصة ببراعة للمتلقي بألوانها المتدرجة ودقتها بتجسيد محكم ومذهل من خلال قدرته في استخدام أدواته الفنية وملاءمتها لفلسفته وأبعاد رؤيته، فقط لينقل للمتلقي المتذوق معاناة هذا الشعب وقدرته في الصمود والمقاومة..
بالنسبة لاختيار لون التراب والتدرج في درجات اللون، ووجوده حول المرأة، وحولها الظل، دليل على ارتباط المرأة كرمز لخصوبة الأرض وللمقاومة والصمود، ولون البني الداكن للجبال، هو رمز لقوة شموخها وصلابتها بقوة شعبها، وأن الفنان قد أراد توضيح صورة المرأة وحولها التراب، كرمز لخصوبة الأرض وإحيائها بولادة أجيال للمقاومة، لتحرير المسجد الأقصى من الاعتداءات وانتهاكات أرضه..
نلاحظ كيف جعل الفنان المسجد الأقصى بعيدًا عن الأرض، وقد رسم حوله الطوفان من كل جانب، دليل على ما يحاك حوله من مؤامرات لهدمه وغرقه، وأن صورة المرأة جعلها في المقدمة ومكبرة أكثر من المسجد الأقصى، كدليل كبير على نية المقاومة في إنقاذه وتحريره، بتوجه الأرض نحو رب السماء رغم ما يحاك عليها من مؤامرات وهدم وكتم وتعتيم للقضية…
الفنان الكبير العالمي
أ.نياز المشني
براعتكم في نقل الصورة الفنية للشعب الفلسطيني وأنتم تجسدونها بأدواتكم الفنية البارعة، هي دليل على قوة خيالكم وبراعتكم في تجسيد الفكر ونقل الأفكار للمتذوق المتلقي، وقوة داعمة لفلسفتكم التي تسعون تحقيقها بريشتكم المذهلة، وهذه قوة خارقة تجمع ما بين الفكر والفلسفة والخيال وتجسيدها بألوان تلائم الحدث ومن قلب الحدث، لتتمكنوا من إيصال تعابيركم بدقة لكل إنسان على وجه الأرض..
بورك فكركم وريشتكم وأدواتكم الفنية التي عجز القلم أن يسطر أشعارًا تفي غرضكم وهدفكم المنشود بقصائد تشبه لوحاتكم المتينة وقدرتكم على رسم القهر والوجع ورسم صورة القضية لشعب ذاق من غصص الأيام ما تعجز المحابر عن تسطيرها..
جزاكم الله كل الخير وحفظكم وريشتكم الفاتنة الساحرة..
وجعلكم نبراسًا للفن بتجسيد الواقع باختلاف قضاياه..
وفقكم الله ورعاكم
.
.
.
جهاد بدران
(أم صهيب)
فلسطينية
Discussion about this post