Views: 46
تطريب قصيدة النثر وخطورة دورها اللغوي
قراءة في مجموعة (عصافير تنقر سنابل كفي) للشاعر توفيق أحمد
أ. د. وضحى أحمد يونس
وصف الشاعر السوري توفيق أحمد كتابه المعنون(عصافير تنقر سنابل كفي) الصادر عن دار بعل في طبعته الأولى ب (تأملات في الحب والحياة) ولم يصفه بأنه تأملات في المرأة ذلك أن بدهية تحكم قلب وعقل الشاعر في آن معاً هي أن الحب والحياة ليسا شيئا غير المرأة
إن العتبة النصية الأولى في كتاب (عصافير) هي غلافه الذي خُطَّت عليه كلمة (عصافير) باللون الأبيض موحية بالبراءة والطفولة بينما خُطَّت باقي كلمات العنوان (تنقر سنابل كفي) باللون الذهبي مُذكّرةً بلون القمح في موسم نضجه وحصاده، كما تحتل الغلاف طوليّاً لوحة تظهر فيها ستارة حمراء تغطي معظم جسد إنساني إذ يظهر منه أحد الطرفين العُلْويين والطرفان السفليان وذلك على أرضية سوداء للوحة العائدة إلى الفنان السوري رائد خليل، فإذا منح القارئ لنفسه حرية تحليل العنوان وقف على تأويلات كثيرة أكتفي بذكر أحدها وهو الأكثر تغليباً للظن وهو أن الإنسان أبيض بنواياه، رمادي بتأثير غبار الواقع عليه، ذهبي في رغبته بامتلاك خبزه وكرامته، أما الستارة الحمراء فهي غالباً القناع الأكثر طغياناً بين ألوان الحياة بما يرمز به إلى ضجيج أزمات الواقع وفعلها الدامي وما يتملك الإنسان من خوف وحذر إزاءها، أما العصافير البيضاء فهي الأجيال المتلاحقة في مرحلة ما قبل امتلاكها الأجنحة والقدرة على الطيران، وفي أثناء أسئلتها عن القمح والأغنيات قبل أن تكبر في غفلة من سائر ذويها
يمهّد الشاعر توفيق أحمد لكتابه بمقدمة تحتل عشر صفحات يرفض فيها وصف قصيدة النثر بالمولودة غير الشرعية كما يطرح السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم وهو ما الفرق بين لغة الشعر ولغة النثر متسائلاً حول ما إذا كان في العربية لغتان إحداهما للشعر والثانية للنثر ؟
و لا يقدم الشاعر إجابة جاهزة بل يترك لقصائد مجموعته (عصافير) الإجابة على هذا التساؤل إجابة متأنية ودقيقة وشافية
أما فيما يتعلق بإشكالية تسمية النوع الذي تنتمي إليه النصوص فيما إذا كان نثراً أو شعراً فإنه يرفض تسميتها نثراً فنياً لأنها تسمية تقلل من شأن النصوص ولكنه يتسامح في تسميات كثيرة أهمها (نص عابر للأزمنة) و(قصيد نثر)و (نص متوهج) فمثل هذه التسميات تليق بها من حيث إنها مرشحة لتكون بين أهم المنجزات الحضارية على صعيد الثقافة المعاصرة، وهي ليست مجرد نصوص سهلة التناول إبداعاً ونقداً بل إنّ لكتابتها وقراءتها شروطا كثيرة هي من الصعوبة بمكان بحيث يصبح الإلمام بالموروث اللغوي والجمالي والوعي بضرورة التجاوز أكثرها إلحاحاً، فقد آن الأوان حسب الشاعر توفيق أحمد لكسر معيارية القول، وإلغاء الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية متابعةً للتحولات الشعرية من قصيدة العمود إلى قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر حيث لا استقرار لأي مفهوم آلافا من السنين،
وليست هذه المرة الأولى التي يتجدد فيها شاعرنا فمن المعروف عنه تدرجه على سلم التطوير والتغيير حيث لم يترك تجريباً إلا ومارسه على الشعر ولم تنج الكلمات من حكمة حماقاته فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن القول إن قصيدة النثر في (عصافير) بجملها الطويلة المسترسلة في وصف الغوايات الجميلة هي نوع شبه مضاد أو لنقل مختلف عن قصيدة النثر التي تعتمد الومضة القصيرة مشحونة بدلالاتها المفتوحة مثل ومضات قصيدته (اللعنات) :
و يقول فيها :
لُتُستَطَع مخاصمتك
أيها الخصر
إذا لم تُزنّر
بأحداق العيون
؛؛؛
لتتصالح
بكارة الضوء
و عتم الطرقات
؛؛؛
و هكذا فإن تحول الشاعر من المنظوم إلى المنثور هو إسراء بالشعر نحو الفكر، وتجريف لأمراض العاطفة، وحرث للعقل يقول في قصيدة (أنتِ ام الأيام القائظة) :
لا شيء يدعو للفرح
و مع ذلك هناك فرصة دائمة
لأن يكون المستحيل ممكناً
تنطوي مقدمة الكتاب على أفكار رئيسة منها ضرورة مغادرة الشعراء مُتَرَدَّمَهُم، الصرخة التي أطلقها عنترة منذ مئات القرون وها هو شاعر (عصافير) يتخذ قراره بالمغادرة ولو على سبيل مناصرة النص النثري المتوهج شعراً، وشرعنته إيمانا منه بضرورة الإبداع، والتواصل مع إيقاع الحياة السريع بتبدلاته المتلاحقة فالنثر وفق شاعرنا يكاد يكون ردة فعل على الانحطاط الحضاري، وهكذا كان واقع الأمر في أزهى عصور العربية حين تحول الإبداع في العصر العباسي من فن الشعر إلى فن الكتابة، وكذلك هو الحال اليوم فخصوصية قصيدة النثر تكمن في التحدي الإبداعي لتحقيق شعرية جديدة مؤسسة على الاختلاف المدروس وعلى بنى فكرية حيث تلعب البيئات المستجدة مع التجارب الشخصية دورها المعرفي والجمالي لأن النثر شئنا أم أبينا هو لغة العصر، وهو المشروع المُلّح للاستفادة من فنونه في تنمية اللغة العربية، وتطويرها، والحفاظ عليها،
ورغم أنَّ الشاعر لا يُقدّم نفسهُ منظِّراً في نقد الشعر والنثر فإن نصوص (عصافير) تقدمه كأحد أبرز مؤسسي قصيدة النثر المعاصرة، ولعله من الضرورة بمكان أَنْ نشير هنا إلى ميزة الكتاب في كونه يُشكّل نصّا واحداً طويلاً رغم تأليفه على شاكلة قصائد مستقلة لكل منها عنوانها المختلف إذ لا يمكن للقارئ عزل كل نص عن الآخر لتبين فواصل حقيقية فبين النصوص من المشتركات الموضوعية والفنية ما يخلق الوحدة العضوية للكتاب كاملاً، وقد تفجرت لغةُ الكاتب في (عصافير) كالبركان متخذة سماتٍ أقرب إلى سمات الطبيعة والحياة مصحوبةً بإيقاع لا يهدأ وبذلك يكون الشاعر قد حقق حلمه الإبداعي في محاولة استكمال مشروعه الطموح الرائد الذي عبّر عنه بالقول في مقدمة الكتاب : (نحن بحاجة إلى نص يحميه حضوره اللغوي الحداثوي الإبداعي وهذه هي المسألة، القصيدة النص التي توصل قارئها إلى انتعاش روحي حقيقي من خلال عبقريتها في الإيحاء، والصدمة، والإدهاش، والإثارة، والمباغتة خارجاً بذلك عما ألفناه من تطريب متشابه)
أسلوبية العنونة
العنوان هو عتبة للدخول إلى النص، وقد أراده الشاعر توفيق أحمد في نصوص (عصافير) علامة كاملة على النص وموجزاً له، فاتبع أسلوبية عنوانية فاعلة لها نظامها الخاص حيث حدّدت العناوين هوية نصوصها، ووشت ببعض مضامينها، حتى تحوّل العنوان إلى نصٍّ موازٍ للنص الأصل، وفتح باباً واسعاً للدخول إلى عالم الشاعر، وليس هذا غريباً، لأنّ العنوان صلة وصل بين شخصية الشاعر، والنص والقارئ، وهي صلة وثيقة، ودالة لأنها صلة تطابق أكيد فغاية العنوان هي غاية النص ذاته، وقد توفر لعنوانات النصوص الدقة، والملاءمة، والجاذبية فشكّلت مثيراً أسلوبياً ذا وظيفة إيحائية خالقة للدلالات، مكثٖفة للمحتوى .
اتسمت العناوين بالطول فهي كلها لا تقل عن ثلاث كلمات باستثناء ثلاثة عناوين هي التالية (رسالة إلى الريف) و(تمارين الألم)و (جغرافيا الملذات) بينما وصل عدد كلمات العناوين الباقية في كل منها إلى ما يقرب من سبع كلمات على الأكثر مثل (حمص، وورد والقصيدة والشجر لا يجيز إقصاء العصافير)و (فهرسي عواطفك، كي لا يهرب نخيلك من بلحي ) … الخ الخ
و نلحظ تناسباً عكسياً بين مضمون القصائد، وعناوينها، فالطويل منها ذو أفكار جزئية، والقصير منها ذو أفكار كلية، أما صياغتها فمحدثة بتنوع أساليبها بين الخبر والإنشاء، فمثال الخبر (نجومكِ مشدودة إلى سلالمي)و (أقمارك تتأرجح في مداراتي) ومثال الإنشاء (لمن يومئُ عصفوراكِ) ,و (عززّي إرادتي باستقصاء أشيائِكِ) وقد بلغت مفردات العناوين حدّاً هائلاً من التنوع بين أسماء، وأفعال على اختلاف الأحوال والأزمنة حتى كأنّ الشاعر يريد لها بتنوعها، وغزارتها، وقوة دلالاتها ان تكونَ نهراً جارفاً من التجريب والإبداع يجرف ما سبق من الكتابة الشعرية عاكسا رغبة دفينة عند الشاعر، ونداءً صارخاً لكتابة جديدة بعد تجربته الخاصة في خوض غمار النثر بعد رحلة من نظم الشعر بلغت خمسة وأربعين عاماً .
كما تتآزر اللغة مع الصورة الفنية في الصياغة الحداثية للعنوان والتي تبدأ غالباً بجزئية صغيرة ينسلها الشاعر من داخل النص لتحولها إلى فكرة كلية تكثف تفاصيل النص الدقيقة
المرأة وغريزة الحب اللغوي
لا يخفى على القارئ أنَّ المرأَةَ تشكل الموضوع الكلي ل نصوص (عصافير) فقد تكرست المجموعة مضموناً وشكلاً.
لوصفها، ومحاورتها، والحديث عنها، فهي (جغرافيا الملذات) وما الشاعر إلا تاريخ يعبر عليها بشوقه وعشقه
و (على حواف فمها سيريق خمرته)و (سيدعو ضفائرها للتفاوض مع أصابعه) وسيخبرها أنَّ (أقمارها تتأرجح في مداراته)و (حريرها يتحدى مقص الزمن). و (وقع أقدامها لحظات استنفار )و (نواياه مملوءة بالألوان) الخ الخ فهو لا يمل من وصفها، بل لا يخشى انتهاء الكلام عنها، أو عجز التعابير عن ملاحقة جمالها إنها (أميرة ظباء الأنهار) و(أنثى الأرض والقصيدة) و(ربيعها يمر على الحقول) . و…و ..
و يعلن الشاعر من نصوصه التحدي الأكبر لكتابه وهو أنه لن يستطيع أي قلم الاقتران بحبر هذه المرأة العصي على الجفاف باستثناء قلمه السحري الذي يبلغ في حوارها حداً قد يعجز عنه الشعر، وينجح النثر وهذه أدلة من عناوين النصوص (عصفوراكِ ليسا بريئْين من أيةِ تهمةٍ قادمة)
و (حين ترف نحلة على أصابعي أدلّها على أزهارها)
و (مواقدها تمتلىء بكستنائي) و(مضى على غيابها عشر غصات وسبع زنابق) فهذه عناوين تبدع في وصفها أيّما إبداع حتى أنها لم تعد امرأة بل أصبحت ملاكا او لوحة او قصيدة أو إلهة قديمة، إنها تصلح أيقونة في متحف الزمن، وهي صورة كاملة لا يعتورها عيب أو نقص من ذلك على سبيل المثال لا الحصر قصيدة (حريرها يتحدى مقص الزمن) ففيها تتألق أسطورة استثنائية ل لبؤة تعابثها الأسود ناصبة لها (الفخاخ) و(أصفاد الأعراف) لكنها المنتصرة مانحة الحب والأمان والسلام والوجود والجمال وسائر قيم الإنسان الحر المحب المنتمي فليس غريبا بعد هذا وذاك ان يصفها الشاعر ب (منارة المدن) و(سليلة الألوهة المؤنثة) حيث يلقي على عاتقها مهمة كونية وهي محو الحدود بين المدن، بل خلق مدن جديدة وبناء حضارات وطالما هي تضاريس وجغرافيا كما يقول فهي أرض ووطن ما استدعى عنده تعالي الصوت لحمايتها، وصونها، وتهديد الشوك الذي قد يفكر بطعن حدائقها حسب تعبيره الفائق الجمال على الدوام
كان قلقي هادراً
أمام حسنٍ لم تَبْتَكِرْه مُخَيِّلةُ الأزاميلِ بَعْدُ
جغرافيا بكر لم تُكْتَشَف
(يقول في قصيدة (أثناء اقترانك بالضوء تهت في شعابك)
عندما أراكِ تتنحّى نظراتي حييّة
كي لا تخدش بهاءك الساطعَ المبهر
بل وأخشى عليكِ من التأمل ذاته
أَنْ يضعَكِ في حساباته
لأنني نَصّبت نفسي حارساً لتيهك
و هكذا فصورة المرأة بريشة الشاعر دالية وكروم وعصفورة حكيمة ووعد وأفق مطرز بالكواكب وملهمة ومباركة … والشاعر في عالمها هو
(آخر العشاق) يقول في قصيدة بعنوان:
(قمر شمالي يضيء لغاية في نفس الريح)
ما تناءى إلى مسمعي على غفلة من الزمن
لا أظنه سوى وقع أقدامها
إن لم يكن صوت خطاها
فلعله هسهسة خلخالها
و هذا هو حضور المرأة في القصائد، صورة طبق الأصل لحضورها في الحياة فأية صورة فوتغرافية مدمجة بالخيال وكأنها المستحيل، ولكنها ليست المستحيل فهي الإبداع وحسب، وهي ندّ الطبيعة إن لم تكن الطبيعة ذاتها، فهي روحها وإلا لما أثرت على نظام الفصول:
هي تغري الربيع
بقدوم عاجل
عابثة بشريعة الفصول
لا طاقة لي
على مواجهة الهطول المباغت لمطرها الجارف
و لا دروعي الهشة قادرة
على الصمود أمام سهامها النافذة
كيف لي بتلقي وميض الماحقات منها
تَرمي بِشَرَرِها قَشَّ روحي
فإذا بي هباء منثور
فإذا دقق القارئ في الألفاظ والتراكيب اكتشف حقيقة مصاحبة وهي أنَّ اللغة أُنثى ثانية حيث تتحد الاثنتان، المرأة واللغة وتتبادلان الهوية والماهية وتنصهر التجربتان العاطفية والشعرية في بوتقة جمال واحدة فلا تلقى الكلمات جزافا ولا تنكأ الجراح عبثاً بل ترتقي الحالتان معا ما يستدعي خفر القراءة الناقدة، وخوفها من ملامسة الفيض الصوفي المتسرب من غدران ما بين صخور السطور
يقول في (جغرافيا الملذات) :
أدرك انّ قلبك عصيٌ وطيّع
و أنّ حدائقك تطرز للعشق قلائد من جمان
و أنك غيمة تيه ستمنح الرحلة
أفقها الوارف الظلال
إنّ أصدق ما يوصف به المستوى اللغوي الماثل في القصائد هو(الصعب الممتنع) إلّا على شاعر موهوب الشعر هبةً إلهية تمكنه من الهدم والبناء والتوليد، وماذا يكون النثر إن لم يكن النَّظرُ في البلاغة القديمة وإنشاء بلاغة تواكب الواقع والعصر وتكون بلاغة مسؤولة تأخذ على عاتقها مهمة تغيير ثقافي فتُحمّل الألفاظ قوة إشارية تنقل للقارئ الجدل بين الوجوه الثلاثة للغة العاطفي والعقلي والبياني، كما تنقل أيضا التواتر بين أنظمة ثقافية سائدة في المجتمع ما يؤكد أنّ النثر في (نصوص عصافير) مشروع فكري في خدمة الشعر السوري الحديث وهو مشروع طموح ورائد ومنتمٍ .
و (عصافير) ليست مجرد قصائد غزل بل هي رؤى اجتماعية وفكرية واكتشاف لقيم تنويرية فهو يخاطب المرأة ليعرفها ,و يعرفها بنفسه, ويتعرفان معا على العالم، ليعلّمها ويتعلم منها فيحيل الأخذ منها إلى عطاء لها، والعلاقة بينهما ندية في ظل من الحرية والرعاية المتبادلة وهذا ما استلزم إكثاراً من انواع الأسلوب الإنشائي من أمر ونهي واستفهام وتمنّ واكثرها الاستفهام لأن الكتابة أصلا هي فن إثارة الأسئلة بلغة تتصارع مع المعنى محاولة زعزعة المفاهيم :
و كيف للحياة ان تكون وازنة بلا سيدات للجمال وابتكار الحياة
انبجسي نعناعاً في الحقول
و ياسميناً على شرفات العواصم
و دفئاً في صقيع خائب
و لكن الشاعر لا يترك أسئلته عارية من الإجابة بل يكسوها اجمل المعاني :
هي سرب يمام وقُبلٌ جانحة على يمين الطريق
هي حزمة من الأغاني التي يفوح منها عبير الذرا
لا يكتفي الشاعر بالنظر إلى المرأة على أنها جسد وحسب بل يرى في حضورها حضور المدينة المتحضرة واللغة البليغة :
أعرف أنها لغة بليغة في الحب والوجد
يا لجمال ونداوة حروفها
يا للأساطير الكريمة
تفيض من شفاهها
و كأنّ أبعد غايات القصائد بناء مدينة مثالية وربما لأجل ذلك يعلو صوت الزلزلة والهدم ثم صوت البناء من جديد كما توحي موسيقى المعنى في قصائد منزاحة كليا عن موروثها جريئة وذاتية .
ثمة دافع شهواني للكتابة يشبه المراودة والرغبة، فالرغبة العاطفية في لقاء العاشق للمحبوب يقابلها رغبة الكاتب بإنشاء نص، وعندما تنشأ الكتابة وتنجز تصبح ذات أثر تحريري حيث جنون المرأة جزء من متاهات الشاعر مثال ذلك في المجموعة قصيدة (نارانا والموعد قريب) حيث الصياغة الأدبية معززة بالمعاني الشهوانية المحركة لعاطفته ورغبته في الإفصاح يقول :
مرة قالت لها يداي :
نقّلي غفوتك من زندي الأيسر إلى الأيمن
ساعتها …
سيصبح جنونُكِ جزءاً من متاهاتي
و يضج ثغركِ بحيوية النهم لفاكهة العشق
دائما كنت أتمنى
أن ترد على أسئلتي من شفتيها
و تؤجل أجوبة خصرها
لساعة اشتعال أخرى
و في قصائد أخرى تصل رغبة الشاعر بالتوحد مع امرأة قلبه وحلمه إلى ان يتقمصها فيكتب قصيدة على لسانها موزونة ومقفاة مُتضَمَنَة في قصيدته (ربيعها يمر على الحقول) حيث تقول :
لأنكَ لحظةُ العشق الجميلِ
و ذاكرةُ المواسم والفصولِ
لأنكَ دائماً تحيا بصدري
همومَ الغيم في بال النخيلِ
في هذه القصائد تتقدم لغة الشاعر وتصبح أمراً واقعاً، فدافع القصيدة غريزة حب غير مُلبّاة، وكتابتها لقاء منجز، القصيدة حلم ,و خيال, وأمنيات، اللغة امرأة ثانية, وتغدو الجزء الأجمل من جسد القصائد، لغة من بلّور عالية الشفافية والتكثيف تُحمّل الألفاظ أقصى قدر من الدلالة، لغة تتأسس على الإسناد المجازي الذي ينزل المعقول والمحسوس أحدهما مكان الآخر، فاللغة والمرأة وجهان لخلاص واحد .
أثر صوفي فلسفي
تتميز اللغة الشعرية في (عصافير) أيضا بأثر صوفي وفلسفي واضح بما تنطوي عليه من كشف، واستبطان، وتبصر روحي، وحدس متجاوز، إذ يختبر الشاعر عن طريق الارتحال داخل ذاته الذات الثقافية العامة ويسمح في سبيل ذلك لمفردات الفلسفة الصوفية بالتسرب إلى قصائده تطعيماً لها بأفكار جديدة ومشاعر نادرة ومثالنا المقطع التالي :
عذراء القمة أنتِ
توزع ورود سلتها على المرئيات جميعاً
يا للجموح العاصف بمخيلتي
يهدم الحدود بين الواقع والمتعالي
بين المدرك والمتواري
و من قصائد متفرقة نتخير مفردات وتراكيب صوفية وفلسفية خالصة مثل
(إشراقة فيضها)و (محلقا في نشوتي) (بجعة الروح) و(فضاء الكينونة)و (تندغم الذات في الموضوع والأنا في الآخر) و(ما وراء المرئي) و(ضفتي الوجود المعلوم والمجهول)و (قلق الروح) و(هتك الحجاب) الخ الخ
إن (عصافير) دليل ساطع على وظيفة النثر في تنمية اللغة إذ يعطي للغة مساحات أكبر من تلك التي يعطيها الشعر ويحررها من القيود الشكلية ويلزمها بضميرها الفني لان اللغة في منظور ما يجب ان يكون هي العضو الأكثر حيوية في جسد النص الأدبي وقد ظهرت سمة التجريبية في القصائد من خلال رجحان كفتي الشعر والنثر حيث رجحت كفة النثر في مواطن قليلة منها :
ربيعُكِ اكرمني
أينع غصون أشجاري العارية الشاحبة
ببسالةِ من يعطي
من واجب الحياة ان تُسعِد أرواحَ البشر
بكلّ أطيافهم وطبقاتهم لينحنوا قبولاً وعرفاناً
بالولادة المتعثرة لضمير الإنسان
ولكن ّكفّة الشعر في باقي المواطن رجحت وتدفّق ماؤها بالاستعارات ذات الرونق والزخرف والإيهام محققة بذلك قيمها التعبيرية والجمالية يقول في (أسئلة عنقها المضيء):
لا أحد يستطيع اغتيال أضواء شموسها
من ظلامات روحي
توغلّ غيثُها في يباسي
و غسل الطرقات التي تسير فيها أحزاني
من بإمكانه إبعاد زهرة عن جنوح نحلة إليها ؟
و من يقدر أنْ يقنع الفراشة بخطورة المصباح ؟
ختاماً لا يمكن قراءة (عصافير) بمعزل عن الغائية الفنية الجمالية المهتمة بطبيعة الشعر ,و فلسفة الفن التي تمزج الفكر بالفن, والعقل بالعاطفة وتبحث في الأدب عن الإحساس بالمجد بعد الإيمان بحتمية تبدّل قيم تقدير الجمال كجزء من السلوك المتحضّر للمجتمع حسب هربرت ريد في كتابه طبيعة الشعر إذ يؤكد ان الفن ليس تقييداً للعاطفة كما في الشعر بل تحرير لها وتحوير وأسطرة وهذا هو بالضبط ما يقدر عليه النثر لأنّ الاختلاف بين الشعر والنثر حسب
هربرت ريد ليس شكلياً فقط بل هو أمر يتعلق بالجوهر والمضمون وهو في النثر غنيٌّ غِنىً لا حدود له، ولا شكّ أنّ العقل في النثر هو معادل للخيال في النظم، وإذا كانت موسيقى الشعر عروضاً مضافةً إليه وقافية خارجية فموسيقى النثر ذوق وإيقاع مبثوث في كلّ مكونات النص حتى المعنوية منها :
أنتِ الأقرب مني إلي
و بحضورِك تذوب المسافات
تُختَزَلُ الأمداءُ
أنتِ شمسي الأبدية ولعنتي
التي أحملها
بين كتفيّ أينما حللت
أتدفّأ بوهج زئبقها الرحيم كل صقيع
أستنفر شموعها كلّ عتمة مباغتة
أ.د. وضحى أحمد يونس