Views: 39
ديوان طحين الصخر بين الحنين والالتزام … للشاعر الأردني أحمد آل أحمد
بقلم : سعيد يعقوب
ليس ثمة انسلاخ بين موقف الشاعر الأيديولوجي ،وبين طريقة تعبيره، أواختياره لوسيلته الفنية ، أو لنقل بعبارة أخرى إن الإنسان يعبر بالأسلوب والطريقة، التي تتكئ على جدار صلب من أفكاره، فوسيلته الفنية من جنس تفكيره ، وانعكاس صادق وأمين لمبادئه ومعتقداته الدينية والفكرية والأدبية ، ولذلك يندر أن ترى شاعرا يعشق تراث أمته، ويدافع عن أدبها وشعرها ،ويؤمن بثوابتها، ويلتزم بقضاياها المصيرية ، إلا اتخذ من الشعر العربي الأصيل أو الشعر العمودي ،وسيلة للتعبير الفني عن هواجسه وخواطره وعواطفه ،يعبر من خلاله عن هذه الثوابت الراسخة، والمقدسات التي يفرد لها المساحات الشاسعة في روحه وعقله ووجدانه ، مما يتصل بالعقيدة والدين وما يمت لهما بصلة من التراث العريق، فيرتد إلى الأصول المكينة من اللغة ،وما يتفرع عنها من فنون وأفنان ،أو ما تتضمنه هذه اللغة من جذور عميقة ، كالنحو والصرف والعروض والبلاغة والإملاء وغيرها، وكلما انحرفت هذه البوصلة، وأطاحت بالشاعر بعيدا، بحث في تربة غير تربة أمته ، وفي جو غريب غير ما ألف أبناؤها ، عن صور التغريب، بحجة الحداثة ،والبحث عن التجريب ،فظهرت قصيدة التفعيلة ، على نحو مغاير لما اعتادت عليه أذن العرب ،عبر القرون الطويلة من الزمان، وظهرت بعدها قصيدة النثر ،مع التحفظ الشديد ،على المصطلح والتسمية ،وهو ما لا نرضاه ولا نقره ،فالكلام عند العرب كان وما زال وسيبقى ثلاثة أقسام، لا رابع لها ،وهي النثر والشعر والقرآن ،فالشعر شعر والنثر نثر، وبينهما العروض والوزن برزخ يمنعهما من أن يلتقيا ويتمازجا ،مهما حاول أن يروّج لذلك المروجون، وأن يسوق ذلك المسوّقون ،ولكن قصيدة النثر، كما يطلق عليها في مغالطة منطقية، يرفضها العقل ،وينبو عنها الذوق السليم، وتمجها الفطرة النقية، كأن أقول أنا هنا ولست هنا في الوقت نفسه ، يمكن أن تسمى نثيرة ويُحلّ الإشكال فهي نمط جديد من الكتابة لم يتفق حتى اللحظة لا على تسميته ،ولا على قواعده وأسسه ،وإن عُرف منها اليومَ شيءٌ كثير، وهو فن أدبي حديث، لا ننكره إلا بما ننكر من الشعر، فهو كلام حلاله حلال، وحرامه حرام، كما قيل عنه ولكننا ننكر هذه الظاهرة التي بات تغلب على كثير من نصوصه ،وهي ظاهرة الإحالة على نصوص القرآن ،أو استخدام العبارات القرآنية مع التغيير الطفيف، وأخشى أن يكون ذلك واقع في باب تحريف الكلم عن مواضعه، كأن تقرأ مثلا عبارة وجاء من أقصى القلب نداء يسعى .. او أُشْرِبْتُ في قلبي حُبَّ النساء، وغير ذلك كثير، ويكفي ما ذكرناه للتدليل على ما نقصد ،مما ذكرنا، ثم أطلَّتْ برأسها البشع، وملامحها المستنكرة ،علينا ما تسمى بقصيدة الهايكو، وهي ضرب من الكلام سخيف، ونوع من القول هجين ، نشأت في أرض غريبة عن ثقافتنا، واستوردت من اليابان ،وهي دليل على هشاشة الثقافة، التي يحملها من يكتب مثل هذا النمط من الكلام، فهي أعني قصيدة الهايكو، لها أصولها وقواعدها في بلد المنشأ ، وتصلح لبيئة غير بيئتنا، وعالم غير عالمنا، ولو كنا نؤمن بثقافتنا العريقة، الممتدة عميقا في الزمان والمكان ، حق الإيمان ،لأنفنا من أن نلقي بأنفسنا في أحضان أمم وشعوب، تختلف عنا كل الاختلاف ،ولا شبه بيننا وبينها ، ولا يجمعها معنا جامع ،من تفكير أو لغة أو ذوق ، ثم توالت حلقات المسلسل أو الاستهداف ،إن شئت ، لضرب شعرنا العربي الأصيل في العمق ، وهز أوراقه، وبتر غصونه ،واستئصال شأفته ، هذا الشعر الذي ورثناه عن أسلافنا ،منذ آلاف السنين ،ولا أقول بما قاله بعضهم، أنه يمتد لمئة وخمسين سنة أو نحو ذلك ، قبل ظهور الإسلام، فهو أبعد من ذلك بكثير، ولكن ما وصلنا منه قليل، وهي هذه النصوص التي تنتمي إلى العصر الجاهلي ،إذ لا يعقل أن تنضج هذه الأعراف الشعرية والتقاليد والأوزان، وتستوي على سوقها ،كما نرى ذلك في ذروة نضوجها في شعر المعلقات ،إلا عبر مسيرة طويلة من الزمن ،تمت فيها عمليات من الانتخاب والاستصفاء والغربلة، حتى ارتضتها الذائقة العربية ،رفيعة المستوى، التي افتخر بها العرب، وداخلهم بسببها الغرور، فنزل القرآن الكريم نوعا من التحدي لهم، فغلبهم وقهرهم ،وسلموا بإعجازه، وأظهروا عجزهم عن الإتيان بما يشبهه، ثم من بعد ذلك كله أطلت علينا الدعوات المشبوهة، لقصيدة الومضة ،وقصيدة النانو، التي تتألف من خمس كلمات في عددها الأقصى، ولكن ماذا كانت النتيجة بعد ذلك كله، إننا اليوم نفاجأ ونعجب لهذه الأعداد المتزايدة ،من الشباب العربي، من الشعراء ذكورا وإناثا ،يتنبهون لما يدور حولهم ،ويكتشفون كل تلك الأكاذيب والأوهام ،ويدركون المؤامرات الخفية والأيدي السوداء التي تحرك المشهد ، فيهبون من كل حدب وصوب، وفي كل قطر عربي ، ويأتون من كل فج عميق ، ليعيدوا للشعر العربي الأصيل ألقه ومجده وبريقه ،ويتمسكون بنمط الشعر العربي الأصيل، الشعر العمودي، ويعودون لتراثهم ليكتشفوا كنوزه، وينفضوا عنه ما تراكم من غبار التغريب ومزاعم الحداثة، وما بعد الحداثة ، وليستلهموا هذا التراث الضخم، ويقرؤوه قراءة الواعي الذكي ،وينهلوا من معينه الصافي، ثم من بعد ذلك يصبون في شراينه دماء جديدة ، ويضخون في جسده حياة وخصبا ، وينفخون من روح فكرهم فيه ،بلغة العصر وذوق العصر وفكرالعصر، وخيال العصر، فينسجون الصور الرائقة ،ويطلقون الأخيلة المحلقة لترود آفاقا جديدة ،فيأتون بالمعجب المطرب، ويرتقون بنصوصهم الشعرية إلى مستوى ،يكاد يلامس منكب تلك النصوص العظيمة ،في عصور ازدهار الشعر العربي ،ولا سيما في العصرين الأموي والعباسي ،ولعل شاعرنا القدير محمد آل أحمد من أبرز هؤلاء الشباب ،وفي مقدمتهم، وهذا يدعو إلى الطمأنينة على مستقبل الشعر العربي، وأنه في مأمن من كل ما يستهدفه ،للنيل منه، باعتبار النيل منه مقدمة للنيل من القرآن الكريم، ولكن الله سبحانه وتعالى، تكفَّل بحفظ القرآن وصيانته، فلا سبيل لأعداء الأمة إليه، وهم يدركون بخبثهم ذلك ويعلمونه علما أكيدا ،فيدخلون إلينا من غير هذا الباب، لإضعاف اللغة وإبعاد الناس ،عنها بل وزرع كراهيتها في نفوس الناشئة ، وما الدعوات المشبوهة التي ظهرت للكتابة بالعامية أو استبدال الكتابة بالحرف اللاتيني ،بدلا من الحرف العربي، إلا مثال صريح على تلك المؤامرات ،على لغتنا العربية الفصحى ،إن هذا الشاعر القدير أحمد آل أحمد الذي يصدر ديوانه الأول، طحين الصخر، يخرج علينا بديوان رفيع المستوى ،راقي الفكر ،ناصع الأسلوب ،يزاوج بين ما ندعو له دائما، من التمسك بالمبنى وتحديث المعنى، لأننا إذا تركنا محاولات التغيير في المبنى، لكل من هبَّ ودبَّ فلن تكون لنا مرجعية واحدة ، نحتكم إليها ، كأمة عربية واحدة ، قال الله عنها إنها أمة واحدة ، مما يزيد في تشرذمنا وتفسخنا ،وذهاب ريحنا ،ولن تتوقف تلك المحاولات التي مررنا على ذكر بعض منها ، بل هي تتوالد باستمرار وتتكاثر كالفطر ، فكلما فشلت فكرة ،جاؤوا بأسوأ منها أو مثلها ، ولن يتوقفوا عن ذلك ما دام هناك خير وشر ،وما دام هناك حق وباطل، وهدى وضلال في هذه الدنيا ، وما أظن ذلك منقضيا حتى تنقضي يوم القيامة ، في طحين الصخر، يلفت نظرنا العنوان ومن الواضح بأنه عنوان لافت وغريب، فالطحين يكون للقمح والشعير والذرة وغيرها من أصناف البقول وأنواع الحبوب ، أما أن يكون الطحين للصخر، فثمة ما يريده الشاعر من وراء هذا العنوان ، فما الذي يريده شاعرنا سوى أن يظهر لنا الصعوبة البالغة التي واجهها في الحياة، على الصعيد الشخصي، في رحلة حياته الخاصة ، ليكون إنسانا يحيا بكرامة وعزة ، في ظل ظروف قاسية وصعبة ، يواجهها شباب هذا الزمن ، ممن يقبضون على جمر المبادئ، ولهيب القيم ، من أجل تكوين أسرة ناجحة مؤمنة ، وإيجاد مصدر دخل يؤمن لهم الحد المعقول من الحياة الكريمة ، ليربي أطفالا وينشيء بيتا ، وهذا ينسحب على جميع أبناء هذا الجيل، جيل الشاعر من أبناء هذا الزمان، الذين يطحنون الصخر بإرادتهم ،وثباتهم على مبادئهم، وليبقى هو ومن يتشابه معهم ، في ظروفهم من أبناء الشعب الفلسطيني ، الذين وجدوا أنفسهم أبناء لآباء شُرِّدوا من ديارهم ،ظلما وعدوانا، وتُركوا ليلاقوا مصيرهم في مخيمات اللجوء ،ومناطق الشتات ،خارج حدود الوطن، وليواجهوا صعوبات الحياة وتعقيداتها ،ومشقات العيش ، متسلحين بالعلم والعمل والكرامة والإرادة، وتربية الأمل والأطفال ،على الثوابت التي لا يمكن التنازل عنها ،والمبادئ التي يستحيل التخلي عنها، مهما اشتدت النكبات وتكالبت عليهم المحن ، فالعدو قال:” الكبار يموتون ،والصغار ينسون”، وهو يراهن على ذلك ،إنه جيل لا يعرف النسيان صلب الموقف ،يؤمن بالعودة للوطن والتحرير، وأن النصر قادم لا محالة مهما طال الليل وغاب الفجر ، لأن ذلك جزء من عقيدتهم، التي يؤمنون بها ، ولأنه وعد من الله، ورد بالنص الصريح في القرآن الكريم ، ولذلك فحياة هؤلاء هي نوع من طحن الصخر ، وتفيت الحجارة، وقدرهم المقاومة في زمن صعب، وظروف قاسية، ولقد عبّر الشاعر عن كل ذلك بشعره ، ومما يلفت النظر في هذا الديوان الرائع، أن الشاعر يضع نصب عينيه هدفا واحدا وحيدا ، ثم يسخِّر كلّ شعره لخدمة هذا الهدف، فجميع القصائد تصب في سبيل تحقيقه ،وهو تحرير الوطن والعودة إليه فكيف فعل الشاعر ذلك كله؟..
إننا بالنظر إلى هدف الشاعر الوحيد ،وهو تحرير الوطن والعودة إليه ، وخاصة إلى قريته بربرة إحدى القرى التابعة لمدينة غزة التي تشتهر بالعنب البربراوي الذي ينادي عليه الباعة في حيفا والمجدل وغيرها من المدن الفلسطينية، ” برابراوي يا عنب” نجد أن الشاعر يدرك إدراكا عميقا ، أن التحرير لن يكون بالتشتت والفرقة، وإنما هو بالوحدة واجتماع كلمة هذه الأمة ، ولذلك تراه يشغله ما يحدث في أقطارها فجاءت قصائده في الحديث عن الأردن والعراق وسوريا ومصر واليمن وغيرها ليؤكد هذه الوحدة ، فلا نصر ولا تحرير لفلسطين دونها ، ثم هو يتحدث عن رسولها الكريم ، صلى الله عليه وسلم ، ويدافع عنه ويمدحه ،ويقف في وجه من يتطاول عليه ، ويبين فضله وسمو مكانته ،وعظم قدره، ويصف مناقبه الشريفة وسجاياه النبيلة ، فالرسول بالإسلام وحَّد الأمة ، وأخرجها من الظلمات إلى النور، ومن الذل إلى العزة، ومن الفرقة والضعف إلى الوحدة والقوة ، فجاءت قصائده الدينية لتذكِّر بهذا الأمر ، ثم هو يتحدث عن أمرين مهمين استهدفتهما سهام المؤامرات، لإضعاف بنية المجتمعات العربية، وهما الأسرة والمعلم فهذان الركنان إذا ضعفا انهارت المجتمعات ،وسقطت القيم ، وفشا الضعف وانتشر ، إنهما الأساس المتين، الذي يقوم عليه صرح المجتمع ، فنجده يتحدث عن المعلم مادحا له معظِّما من مكانته، مبينا أهميته وموضحا لقيمته ودوره ، وأن من حقه علينا الاحترام والتبجيل، وإعادة الهيبة له من خلال النظر في ظروفه وتحسينها، وأوضاعِهِ والنهوض بها، فإذا نهض المعلم نهض المجتمع ،وإذا تعثّر تعثّر المجتمع، ثم هو يتحدث عن الأسرة ،باعتبارها اللبنة الأولى في بناء المجتمعات، وحجر الزاوية في التقدم والتطور، والأسرة اليوم تتعرّض للتفسّخ والانهيار وتتعرض للمؤامرات، لهدمها ،وهدم قيمها ومثلها العليا، ولذلك كثر حديثه في هذا الجانب، فتناول الأسرة وعناصرها ، الأم وابنتيه إيمان ومروة ،وأخته الكبرى أمل ، وابن أخيه ،والحديث عن أبنائه بهذا الحنان الغامر، والفيض النبيل، كل ذلك يعكس تمسكه بالأسرة وضرورة المحافظة عليها وشدّ الروابط، وتمكين الأواصر، وتقوية الوشائج بين أفرادها، وتربيتهم التربية السليمة ، التي تنتج جيلا صالحا قادرا على الانتصار، والعودة للوطن ،وتحرير البلاد من غاصبيها ،ولعلَّ القارئ الآن صار ممتلكا لمفتاح قصائد الشاعر في هذا الديوان البديع ، وكيف وظف الشاعر وسيلته الفنية ،لتخدم غرضه النبيل ،ومقصده الشريف، الذي يطحن الصخر من أجل الوصول إليه ، بكل العناد الذي يفتخر به الشاعر، بأسلوب رائع ،ولفظ جميل فاتن، ولغة سليمة ، فيها من القوة الشيء الكثير ، وفيها من البلاغة والفصاحة ما لا ينقضي العجب منه ،والإعجاب به ،وصور عذبة مبتكرة ، وأخيلة بديعة ، وأوزان موسيقية غاية في الرشاقة والعذوبة، مما يزيدنا إيمانا بأهمية الشعر كرسالة خالدة ،وإعجابا بالشاعر، من حيث قدرته الفائقة على جذبنا، والتأثير بنا ، ليشركنا معه في سعيه الدؤوب لتحقيق هدفه الأسمى ومقصده الأعلى ، الذي أشرنا له مما يزيد من احترامنا وتقديرنا وحبنا له ، هذا الشاعر الذي بدا متمكنا من أدواته الفنية، إنه ديوان فاتن، وآية الديوان الفاتن عندي، أن أعيد قراءته مرة بعد أخرى ، كلما انتهيت منه، بعد أن أكون قد انتشيت بما قرأت ،واستمتعت بما تلوت، وابتهجت بما قلّبت من صفحاته، التي لا أريد لها أن تنتهي .