Views: 12
دراسة نقدية لقصيدة
“قد سئِمنا تزييفكم والمقالا”
للشاعر الكبير محمد عصام علوش
في قصيدة “قد سئِمنا تزييفَكم والمقالا”، يقدم الشاعر محمد عصام علوش خطابًا شعريًا ينبض بالغضب والسخط تجاه الفساد والظلم والنفاق السياسي والاجتماعي. بأسلوب شعري كلاسيكي متين، يتخذ النص منحىً خطابيًا مؤثرًا، يجمع بين البيان اللغوي والموقف الأخلاقي، ليصبح مرآةً لواقع إنساني مفعم بالتناقضات.
القصيدة تتخذ طابعًا هجائيًا مباشرًا، ينقسم إلى عدة محاور مترابطة:
. النقد السياسي والاجتماعي: يبدأ الشاعر بإدانة التزييف والنفاق، وهما رمزان لفشل القادة والمجتمعات في تحقيق المثال الإنساني النبيل. فهو لا يكتفي بتوجيه الاتهام إلى القول دون الفعل، بل يفضح استغلال السلطة لسرقة ثروات الشعوب وإشعال الحروب دون مبرر.
. إدانة الفساد الأخلاقي: ينتقل النص إلى معالجة قضايا الشذوذ الفكري والاجتماعي، مستنكرًا تزييف القيم وتبرير الفساد بوهم الحرية المطلقة.
. القيم الحقيقية للإنسانية: يختم الشاعر نصه برؤية إصلاحية، داعيًا إلى عودة القيم النبيلة، والتمسك بالدين والهداية، مؤكدًا أن العطاء والخير هما جوهر قيمة الإنسان.
قد سئِمْنا تزييفَكُمْ والمَقالا
لم تكونوا على الزَّمانِ المِثالا
الشاعر يعبر عن شعور عام بالإحباط والسأم من الأكاذيب والخطابات الزائفة التي يتبناها المسؤولون.
يشير إلى أنهم لم يكونوا نموذجًا يُقتدى به في التاريخ أو في الحاضر.
ليس مَن يدَّعي المبادئَ قوْلًا
هو فَذٌّ بلْ مَن يَسوقُ الفِعالا
هنا يوضح الشاعر أن العبرة ليست بالكلام الفارغ عن المبادئ والقيم، بل بالأفعال التي تعكس هذه المبادئ. الشاعر يميز بين من يتحدث فقط ومن يحقق أفعاله على أرض الواقع.
فاسألوا عنكمُ الحوادثَ تُنبي
أنَّكمْ قد سَرقتمُ الأموالا
الشاعر يدعو الناس إلى استقراء الحوادث والوقائع التاريخية التي تكشف فساد هؤلاء الأشخاص، مشيرًا إلى أنهم سلبوا أموال الشعوب واستغلوها لأنفسهم.
كمْ نهبتمْ خيْراتِ شعبٍ ضعيفٍ
وقتلتمْ نساءَهُ والرِّجالا
يستمر في فضح الظلم والفساد، مبينًا أن هذه الفئة لم تكتفِ بسرقة خيرات الشعوب، بل ارتكبت الجرائم بحق النساء والرجال، مما يبرز وحشيتهم.
كمْ سفكتمْ دِماءَ طفلٍ بريءٍ
وشيوخٍ وكمْ سَنَنتُمْ نِصالا
يشير الشاعر إلى جرائم الحروب والمجازر التي طالت الأبرياء، من الأطفال والشيوخ، في إشارة إلى قسوة القلب وانعدام الإنسانية.
كمْ بدأتمْ من غير داعٍ حروبًا
وأذقتمْ جُلَّ الشُّعوبِ الوَبالا
يندد الشاعر بقيام هذه الفئة بشن الحروب دون أسباب منطقية، مما أدى إلى معاناة الشعوب من ويلات الحروب والدمار.
وسكَبتُمْ فوق الرَّسيسِ وَقودًا
ليزيدَ الوَقودُ فيهِ اشتعالا
صورة بلاغية تعكس سلوكهم في تأجيج الأزمات والصراعات، حيث يسعون دائمًا إلى تعميق الانقسامات وزيادة الاشتعال.
ونشرتمْ في كلِّ فجٍّ دمارًا
وبثَثْتمْ بين الورى الأهوالا
يشير الشاعر إلى أن أفعالهم لم تقتصر على مكان معين، بل امتدت إلى نشر الدمار والخوف في كل مكان ذهبوا إليه.
وتلظَّتْ بكم بلادٌ فأضحتْ
بعد خصبٍ فدافدًا ورِمالا
يوضح الشاعر كيف أن البلاد التي كانوا فيها وازدهرت يومًا ما
و أصبحت قاحلة بسبب أفعالهم، وكأنهم لعنة تحل على كل مكان.
ما عرفتمْ من الحَرامِ حَرامًا
بل عهِدتُمْ كلَّ الحَرامِ حَلالا
يتهم الشاعر هؤلاء الأشخاص بانعدام القيم الأخلاقية والدينية، حيث جعلوا كل المحرمات حلالًا في سبيل تحقيق مصالحهم.
ثمَّ جئتمْ تُسوِّقون المَبادي
أنَّكمْ مَن يُضيء فينا الذُّبالا
يسخر الشاعر من ادعاءاتهم بأنهم حماة المبادئ والنور، بينما أفعالهم تناقض أقوالهم تمامًا.
أنَّ حقَّ التَّعبيرِ فيكمْ مُصانٌ
لمْ تلوثوا على اللِّسانِ العِقالا
يشير إلى الكذب الصريح في ادعائهم احترام حرية التعبير، في حين أن أفعالهم تثبت العكس.
ولدَيْكُمْ حرِّيَّةٌ لا تُضاهى
سوف تضفي على النُّفوسِ الجَمالا
الشاعر يسخر من تعريفهم للحرية، حيث يُظهرونها كشيء جميل بينما هي مجرد وسيلة لتبرير فسادهم وانحرافهم.
إنَّما الحرُّ فيكمو مَن تباهى
بشذوذٍ أو مَن يُشيعُ الضَّلالا
يوضح أن مفهومهم للحرية يشمل الانحرافات الأخلاقية والفكرية، مما يفسد القيم المجتمعية.
إنَّما الحرُّ فيكمو رأسُ مالٍ
كمْ أشاع الفسادَ لمَّا توالى
ينتقد الشاعر ارتباط الحرية لديهم بالمال الذي يُستخدم كوسيلة لشراء النفوذ ونشر الفساد.
إنما الحرُّ أنتمو لا سِواكمْ
وسواكمْ مَن يحصدُ الآجالا
يسخر من ادعائهم بأنهم وحدهم الأحرار، بينما يعتبرون الآخرين أدوات لتحقيق مصالحهم.
ما حياةٌ لدَيْكمو بحياةٍ
قد يكون الخِنزيرُ أفضلَ حالا
يصل الشاعر إلى قمة الشجب ، مشيرًا إلى أن حياة هؤلاء أقل شرفًا وكرامة حتى من الحيوانات.
قيمةُ المرءِ في الحياةِ عطاءٌ
أريَحيٌّ يحقِّقُ الآمالا
هنا ينتقل إلى الجانب الإيجابي، موضحًا أن قيمة الإنسان تكمن في عطائه وتقديمه الخير للآخرين.
قيمةُ المرءِ أن يقدِّم شيئًا
في سبيلِ الإنسانِ يغدو المِثالا
يدعو الشاعر إلى أن تكون حياة الإنسان مليئة بالعطاء والخير، وأن يكون قدوة للآخرين.
لو تخلَّى عن الهِدايةِ عمدًا
وعن الدِّين سوف يجني الخَبالا
يؤكد الشاعر أن الابتعاد عن الدين والقيم الأخلاقية يؤدي إلى الخراب والضياع.
لا يَزِينُ الشَّوْهاءَ ظِلٌّ وكحلٌ
ورموشٌ فقد تزيدُ ابتذالا
يختتم الشاعر بنقد محاولات التجميل السطحية للفساد، مشبهًا إياها بتزيين القبح الخارجي، مما يزيده ابتذالًا بدلًا من تحسينه.
القصيدة تتميز بلغة عربية فصحى جزلة وقوية، تتكئ على قاموس لغوي تراثي غني يتلاءم مع الطابع الكلاسيكي للنص. نرى تراكيب متينة وصورًا مباشرة تعزز الطابع الخطابي. على سبيل المثال:
“كمْ نهبتمْ خيْراتِ شعبٍ ضعيفٍ / وقتلتمْ نساءَهُ والرِّجالا”: تعبير شعري بسيط لكنه ينضح بالقوة والتأثير.
“ما عرفتمْ من الحَرامِ حَرامًا / بل عهِدتُمْ كلَّ الحَرامِ حَلالا”: هنا يظهر جناس بسيط يعمق الدلالة الأخلاقية.
اعتمد الشاعر على بحر يُعد من أرقى بحور الشعر العربي، حيث يمنح النص إيقاعًا مهيبًا يتماشى مع جدية القضية المطروحة. والقافية الموحدة (الألف المفتوحة الممدودة) تضفي إحساسًا بالتتابع والانسيابية، مما يعزز التأثير العاطفي للنص.
رغم الطابع المباشر للقصيدة، يبرز الشاعر في توظيف الصور البلاغية التي تحمل دلالات رمزية عميقة:
“وتلظَّتْ بكم بلادٌ فأضحتْ / بعد خصبٍ فدافدًا ورِمالا”: تصوير يُبرز التحول المأساوي للبلدان تحت وطأة الظلم.
“لا يَزِينُ الشَّوْهاءَ ظِلٌّ وكحلٌ”: استعارة تصويرية بليغة تُدين محاولة تجميل القبح الأخلاقي.
القصيدة تُثير لدى القارئ إحساسًا بالغضب والاحتجاج على الظلم والفساد، لكنها أيضًا تنطوي على دعوة للأمل والعمل من أجل إصلاح الواقع. الشاعر يتحدث بصوت جماعي (“سئِمْنا”)، مما يضفي طابعًا تمثيليًا للنص ويجعله لسان حال المظلومين.
يتسم النص بوضوح الفكرة وعمق الرسالة. فالشاعر لا يكتفي بالتنديد بالفساد، بل يدعو إلى الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية كطريق للخلاص. النص يحوي خطابًا إصلاحيًا صارمًا، معتمدًا على مرجعية دينية وإنسانية.
“قد سئِمنا تزييفَكم والمقالا” قصيدة تعكس تجربة شعرية ملتزمة، تتوجه مباشرة إلى القضايا الإنسانية الكبرى. بقوة أسلوبها وجزالة لغتها، تقدم رؤية إصلاحية تستحق التأمل، رغم أن انغماسها في المباشرة قد يحرمها من أفق تخييلي أوسع. هي قصيدة تُقرأ بصوت عالٍ، وتحيا في ميادين النضال ضد الظلم والفساد.