Views: 37
دراسة نقدية لقصيدة “تَعِبَ الطَّريقُ”
للشاعر الكبير جمال الجشي
تعد قصيدة “تَعِبَ الطَّريقُ” للشاعر الكبير جمال الجشي من النصوص الشعرية التي تعكس فلسفة الحياة بنظرة عميقة ومتأملة، مستمدة من التجربة الإنسانية والصراع بين الآمال والآلام.
القصيدة تُبرز عبقرية الشاعر في المزج بين الحكمة الشعرية والرؤية الواقعية من خلال استخدام لغة جزلة وصور شعرية معبّرة، وهو ما يجعلها نصاً جميلا ورائعا في الشعر العربي.
تتناول القصيدة معاناة الإنسان في مسيرة الحياة، بين الأمل الذي يقوده والطريق الشاق الذي يسلكه، وصولاً إلى الإحباطات التي تواجهه بفعل الظلم والجور. لكنّها لا تقتصر على عرض المعاناة، بل تقدّم رؤية إصلاحية تدعو للصبر، والقناعة، ومواجهة الشدائد بعزيمة وصلابة. القصيدة تحمل رسالة تحفيزية واضحة، تُذكّر الإنسان بقيمة الصمود والتمسك بجوهر الفضيلة في عالم تسوده المظاهر الزائفة والانحرافات الأخلاقية.
تَــعِـبَ الـطَّـريقُ وَكَـلَّـتِ الأَقــدامُ
والـعُـمْرُ قَــد لَـعِـبَتْ بــهِ الأَحـلامُ
يصور الشاعر في هذا البيت رحلة الحياة كطريق طويل وشاق، تتعب فيه الأقدام من السير. ويرمز “العمر” إلى الزمن الذي تلاعبت به الأحلام والطموحات، مما يشير إلى خيبة الأمل وضياع بعض الأماني التي كانت تراود الإنسان.
يَــغــدُو الـفَـتـىٰ مُـتـأبِّـطًا آمــالَـهُ
عِـــنـــدَ الـــــرَّواحِ تَـــــؤُزُّهُ الآلامُ
يصور الشاعر الإنسان في شبابه (الفتى) وهو يحمل طموحاته وآماله، متفائلاً ببداية رحلته. لكن مع مرور الزمن وعند العودة، يكتشف أن الآلام والمحن قد أثقلت كاهله وأصبحت هي المسيطرة.
آلامُ عَـــيــشٍ لا يَــســرُّ لِــخـاطِـرٍ
عَـبِـثَـتْ بـــهِ الـجُـهَّـالُ والــظُّـلَّامُ
يتحدث هنا عن قسوة الحياة التي لا تجلب السرور للنفس، بل تتسم بالآلام والمعاناة. ويعزو تلك القسوة إلى ظلم الجهلة والمستبدين الذين أفسدوا الحياة وأثقلوها بالظلم والفساد.
فالصِّدقُ يُشْرىٰ والضَّمائِرُ تُشتَرىٰ
وَالـنَّـذْلُ يُـكْـرَمُ وَالـشَّريفُ يُـضامُ
ينتقد الشاعر في هذا البيت انقلاب الموازين الأخلاقية في المجتمع، حيث أصبح الصدق والضمير سلعة تُباع وتُشترى، والنذالة والوضاعة تُكرَّم، بينما يُهان الشرفاء وأصحاب القيم.
يَـشـكوْ الـفَـتىٰ أَحـزانَهُ وهُـمومَهُ
يــا نَـفـسُ رُدِّي كَـيفَ عَـزَّ مَـرامُ؟
يصور الشاعر الإنسان وهو يشكو همومه وأحزانه، ويعاتب نفسه متسائلاً كيف أصبح الوصول إلى الأمنيات صعباً وعزيزاً في هذه الحياة التي يطغى فيها الألم على الأمل.
لا تَـصْرِمَنْ بـاليأسِ أَحـبالَ المُنىٰ
واقْــنَــعْ بِــمــا أَعـطـاكَـهُ الــعَـلَّامُ
يوجه الشاعر نصيحة مباشرة إلى الإنسان بعدم الاستسلام لليأس، مهما بلغت الصعاب، وأن يرضى بما قسمه الله له، لأن القناعة هي مفتاح السعادة والسلام الداخلي.
واصْـبِرْ إِذا ضاقَتْ عَليكَ مَطالبٌ
إنَّ الـصَّـبـورَ عَـلـى الـبَـلاءِ هُـمـامُ
يدعو الشاعر إلى التحلي بالصبر عند مواجهة الضيق والصعوبات، ويشيد بمن يتحلى بالصبر، موضحاً أنه هو الإنسان الشجاع الذي يواجه المحن بثبات وعزيمة.
لا تَــشْـغلَـنَّـكَ قِـشـرةٌ عَــن جَـوهـرٍ
مـا نَــفـعُ غِــمـدٍ والـحُـسامُ كَـهـامُ
يحث الشاعر على عدم الانشغال بالمظاهر السطحية (القشرة) عن المعاني العميقة (الجوهر). ويضرب مثالاً بالسيف الذي لا قيمة لغمده إن كان السيف نفسه لا يقطع.
وَالـصَّيْدُ يَسرحُ في المَصايِدِ آمِنًا
إنْ نـــامَ فــي عِـرزالِـهِ الـضِّـرغامُ
يضرب الشاعر هنا مثلاً في التناقض بين الواقع والمفترض؛
تعبيرا عن غفلة أصحاب القوة والحق أمام الطغيان.
حَـربٌ هِـيَ الـدُّنيا لِصاحبِ فِطْنةٍ
لٰكــنَّـهـا عِــنــدَ الـجَـهـولِ سَـــلامُ
يشبه الشاعر الحياة بالحرب التي تحتاج إلى الذكاء والفطنة للانتصار فيها، لكنها تبدو سهلة وبسيطة لمن يفتقد الوعي والإدراك، مما يعكس المفارقة بين العقلاء والجهلاء.
فَـاغزُ الـشَّدائِدَ ولـتَكُنْ صَـمْصامَةٌ
مـاضِـي الـعَـزيمةِ بـاسِـلٌ مِـقـدامُ
يدعو الشاعر إلى مواجهة الصعوبات بقوة وعزيمة، مشبهاً الإنسان الذي يتحلى بالشجاعة بالسيف الحاد الذي لا يهاب التحديات.
مـا ضَرَّ دَهرَكَ إِنْ وثَبتَ إلىٰ العُلا
أَنْ ســــادَ فــيـهِ أَســافِـلٌ وَلــئـامُ
يحث الشاعر على السعي لتحقيق المجد والارتقاء، موضحاً أن وجود اللئام والمتسلطين في الدنيا لا يجب أن يكون عائقاً أمام التقدم والطموح
لَـولا سُـموِّ الـنَّسرِ فـي جَـوِّ السَّما
مـا كـانَ فـي الأُفُـقِ الـبَعيدِ يُشامُ
يختتم الشاعر قصيدته بمثال جميل عن النسر الذي يحلق في السماء العالية، مشيراً إلى أن السمو والرفعة هما ما يجعل الإنسان مرموقاً ومتميزاً.
القصيدة مترابطة من حيث الأفكار، إذ تبدأ بالحديث عن تعب الطريق وكلال الأقدام، ما يعكس بداية الرحلة الشاقة، ثم تنتقل تدريجياً إلى تقديم الحلول والنصائح، وتختم بفكرة عميقة حول الارتقاء والتسامي فوق التفاهات والظروف المحبطة. هذه البنية تجعل النص متكاملاً ووثيق الصلة بين مكوناته.
اللغة: تتميز القصيدة باستخدام لغة عربية فصيحة تتسم بالجزالة والعمق. الشاعر يوظف كلمات ذات دلالات قوية مثل: “الظُّلام”، “الصَّمصامة”، “الضرغام”، وهي كلمات تضفي على النص طابعاً حماسياً.
الأسلوب: يعتمد الشاعر على التوازن بين السرد التأملي والوعظ الأخلاقي، مما يجعل النص قريباً إلى النفس ومتجاوباً مع عقل القارئ ووجدانه.
كما أن التكرار في بعض المواضع، مثل “لا تصرمَنْ” و”ما نفع”، يساهم في تثبيت الفكرة الرئيسية.
تزخر القصيدة بالصور الشعرية التي تُثري النص وتجعله أكثر تأثيراً:
في قوله: “تَعبَ الطريقُ وكَلَّتِ الأقدامُ”، نجد صورة مجازية بديعة للطريق ككائن متعب، وهو تصوير للحياة كرحلة مرهقة.
في قوله: “الصيدُ يَسرحُ في المَصايدِ آمِنًا إنْ نامَ في عرزالِهِ الضِّرغامُ”، تجسيد لمفارقة عميقة تعبر عن الخطر الكامن في الغفلة، وهي دعوة للاستعداد الدائم.
أما التشبيه في: “ما نفعُ غِمدٍ والحسامُ كهامُ”، هو تعبير عن رفض القشور الزائفة دون الإهتمام بالجوهر
القصيدة مليئة بالحكم التي تأخذ صيغة شعرية جذابة. على سبيل المثال:
“لا تَصرمنَّ باليأس أحبالَ المُنىٰ”، حكمة تحث على التمسك بالأمل رغم الصعوبات.
“حربٌ هيَ الدنيا لصاحبِ فطنةٍ”، تصور الحياة كميدان معركة تحتاج إلى العقل والحنكة للنجاح.
الوزن والقافية: اعتمد الشاعر على بحر يتميز بإيقاعه الحماسي الرنان، وهو اختيار موفق يعكس مضمون القصيدة الذي يدعو إلى الصمود والنهوض. كما أن القافية الموحدة (الألف الممدودة مع الميم) تضفي تناغماً وسلاسة على النص.
التكرار والتوازي: استخدم الشاعر التكرار والتوازي لتعزيز الإيقاع الداخلي للقصيدة ولتوكيد الأفكار، مثل: “يَشكو الفتىٰ”، “يا نفسُ رُدّي”
تُبرز القصيدة جدلية الإنسان في مواجهة الحياة: الأمل مقابل الألم، والفضيلة مقابل الزيف. الشاعر يقدم رؤية فلسفية حول أهمية الترفع عن القشور والمظاهر، والتطلع إلى الجوهر الأصيل. هذه الفكرة تتجلى في البيت: “لا تَشْغَلَنَّكَ قِشْرةٌ عَن جَوهرٍ / ما نَفعُ غِمدٍ والحسامُ كهامُ”.
قصيدة “تَعِبَ الطَّريقُ” تتميز بجمالها الفني وبُعدها الفكري. استطاع الشاعر الكبير جمال الجشي أن يخلق توازناً بين البُعد العاطفي والفكري، مما يجعل النص قريباً من القارئ على المستوى الإنساني، ومؤثراً في توجيهه نحو التمسك بالأمل والعزيمة.
قصيدة “تَعِبَ الطَّريقُ” ليست مجرد نص شعري، بل هي لوحة فكرية تنبض بالحكمة والحياة.
إنها تعكس تجربة إنسانية شاملة وتدعو القارئ إلى إعادة التفكير في مواقفه تجاه المصاعب، متسلحاً بالإيمان والصبر والعزيمة.
الشاعر جمال الجشي في هذه القصيدة يقدم لنا درساً شعرياً راقياً يتجاوز حدود الزمن.
ليلاس زرزور
تَــعِـبَ الـطَّـريقُ
تَــعِـبَ الـطَّـريقُ وَكَـلَّـتِ الأَقــدامُ
والـعُـمْرُ قَــد لَـعِـبَتْ بــهِ الأَحـلامُ
يَــغــدُو الـفَـتـىٰ مُـتـأبِّـطًا آمــالَـهُ
عِـــنـــدَ الـــــرَّواحِ تَـــــؤُزُّهُ الآلامُ
آلامُ عَـــيــشٍ لا يَــســرُّ لِــخـاطِـرٍ
عَـبِـثَـتْ بـــهِ الـجُـهَّـالُ والــظُّـلَّامُ
فالصِّدقُ يُشْرىٰ والضَّمائِرُ تُشتَرىٰ
وَالـنَّـذْلُ يُـكْـرَمُ وَالـشَّريفُ يُـضامُ
يَـشـكوْ الـفَـتىٰ أَحـزانَهُ وهُـمومَهُ
يــا نَـفـسُ رُدِّي كَـيفَ عَـزَّ مَـرامُ؟
لا تَـصْرِمَنْ بـاليأسِ أَحـبالَ المُنىٰ
واقْــنَــعْ بِــمــا أَعـطـاكَـهُ الــعَـلَّامُ
واصْـبِرْ إِذا ضاقَتْ عَليكَ مَطالبٌ
إنَّ الـصَّـبـورَ عَـلـى الـبَـلاءِ هُـمـامُ
لا تَــشْـغلَـنَّـكَ قِـشـرةٌ عَــن جَـوهـرٍ
مـا نَــفـعُ غِــمـدٍ والـحُـسامُ كَـهـامُ
وَالـصَّيْدُ يَسرحُ في المَصايِدِ آمِنًا
إنْ نـــامَ فــي عِـرزالِـهِ الـضِّـرغامُ
حَـربٌ هِـيَ الـدُّنيا لِصاحبِ فِطْنةٍ
لٰكــنَّـهـا عِــنــدَ الـجَـهـولِ سَـــلامُ
فَـاغزُ الـشَّدائِدَ ولـتَكُنْ صَـمْصامَةٌ
مـاضِـي الـعَـزيمةِ بـاسِـلٌ مِـقـدامُ
مـا ضَرَّ دَهرَكَ إِنْ وثَبتَ إلىٰ العُلا
أَنْ ســــادَ فــيـهِ أَســافِـلٌ وَلــئـامُ
لَـولا سُـموِّ الـنَّسرِ فـي جَـوِّ السَّما
مـا كـانَ فـي الأُفُـقِ الـبَعيدِ يُشامُ
جمال الجشي