Views: 13
قراءة لقصيدة ” بطاقة بلونِ الدم ” للشاعر الكبير غازي احمد ابوطبيخ
بطاقةٌ بلونِ الدم ..
إنْطُقْ…
كفاكَ انتظارًا أيُّها القَلَمُ
أوْدَى بصبرِكَ أنْ قدْ أبْرَقَ الألمُ
كفاكَ صمْتًا فمدرارُ الفؤادِ هَما
رؤىً ودمعًا كأنَّ الماطرَ الدِّيَمُ
يا صاحبي كلماتُ اللهِ جاريةٌ
حتى وإنْ وقَفَتْ في وجهِها الأُممُ
ما شاءَ ربُّك َ لا ما شاءَ ذو رَغَبٍ
وشأْنُ ربِّ العُلا في خَلْقِهِ حِكَمُ
غابتْ ملامحُ شمسٍ كنتَ تعشَقُها
خلفَ الحِجابِ وأحنى رأسَهُ العَلَمُ
في كلِّ يومٍ لهُ بيضاءُ ساطعةٌ
يلمُّ فيها شُتاتًا أو يُعِيلُهُمُ
سيماهُ بدرٌ وعينُ الليثِ تسكنُهُ
إذا تلفّتَ غضَّ الناسُ طَرْفَهُمُ
دليلُنا كانَ في قولٍ وفي عملٍ
الى مواردِ فِكْرٍ كلُّها عِظَمُ
بلى فقدناهُ والاضلاعُ باكيةٌ
عليهِ حُزْنَ خُناسٍ ليسَ يُخْتَتَمُ
فكيفَ لا تذرفُ الأحداقُ وابِلَها
والقلبُ يبحثُ مثلي والدموعُ دمُ
عِشْناهُ بلْ عاشَ فينا والحِجا فمُهُ
مرَّ الزمانُ علينا والدُنا سَلَمُ
بلى فقدناهُ حتى أنَّ شيبَتَنا
شَكَتْ مِنَ اليُتْمِ ما لمْ يُفصِحِ اليُتُمُ
تقولُ: بعدَ الثريّا ليسَ مِنْ قَمَرٍ
أقولُ: خلفَ حبيبِ الناسِ نلتئِمُ
هو بنُ بجدتِها فينا ومنطقُهُ
فصْلُ الخِطابِ فلا ريبٌ ولا وَهَمُ
فأنّما هو شيخُ الصالحينَ وقدْ
أسرى وفي أصغريهِ العِلْمُ والقِيَمُ
يحدو بنا: أيُّها المستمسكونَ بنا
تمسَّكوا قَبْلَنا باللهِ واعتصموا
بلى فقدناهُ والدنيا مُكَدَّرَةٌ
حتى تبدَّى على سيمائِها القِدَمُ
كنا نجئُ حجيجاً كُلَ مُصْبِحَةٍ
أرواحُنا في مدارِ الخافقينِ هُمُ
قَبْلَ انبلاجِ السَّنا كنّا قِبالَهم
وقبلَ أنْ نلثِمَ الاطفالَ نزدحِمُ
هيّا معاً عندَ عبدِ اللهِ موعدُنا
فتحتَ قبّتهِ بالمِسْكِ نخْتَتِمُ
بلى فقدناهُ والاحزانُ مُطْبقَةٌ
فلا ألومُكَ يا مَنْ إسمُكَ القلمُ
لكنّما دورةُ الازمانِ ماضيةٌ
الى مشيئةِ مَنْ في امرِنا حَكَمُ
ياصاحبي كلماتُ اللهِ جاريةٌ
حتى وإنْ وقَفَتْ في وجهِها الأُمَمُ
ما شاءَ ربُّك لا ما شاءَ ذو رَغَبٍ
فشأنُ ربِّ العُلا في خَلْقِهِ حِكَمُ
حين تتأمل الكلمات وقد انبثقت من أعماق قلب مثقل بالوجد، ترى الشعر يأخذ شكله الحقيقي كمرآة صادقة للروح. في هذه القصيدة،
نجد الشاعر الكبير غازي أبو طبيخ ينسج بحروفه لوحة تنبض بالحنين والدموع، تنطق بالشجن وتفيض بالحكمة.
إنها قصيدة تحمل همًّا إنسانيًا عظيمًا، وتسبر أغوار الفقد الذي يهزّ أركان الروح حين نفتقد من كان نورًا ومرشدًا، كأنما الزمن نفسه يتوقف ليبكي معنا.
في “بطاقة بلون الدم”، ينادي الشاعر قلمه، ذاك الرفيق الذي لم يعرف الصمت في وجه الألم. يستنهضه ليكتب عن الحزن الذي يكاد يكون بلا نهاية، وعن الحكمة التي يستلهمها من أقدار الله التي تسير على غير هوى البشر. هي قصيدةٌ تشرق بين جنباتها شموس الصبر والإيمان، وإن حجبتها سحب الألم.
هذه مرثية خالدة تسكب الكلمات كدموع على صدر الزمان. يحدّثنا الشاعر بلغةٍ تلامس الوجدان، حيث الفقد ليس مجرد غيابٍ بل مساحة من الفراغ تعجز الكلمات عن ملئها. وبين ثنايا الأبيات، نستشعر روح العظماء الذين تركوا بصماتهم في القلوب، وكأنها دعوة للتأمل في جوهر الحياة ومعناها الحقيقي.
هنا، يقف الشاعر الكبير غازي أبو طبيخ ليُثبت أن الشعر هو سفينة الإحساس العميق، وأن القلم أصدق ما يكون حين يخط بمداد القلب.
بدأ الشاعر قصيدته :
“إنْطُقْ… كفاكَ انتظارًا أيُّها القَلَمُ
أوْدَى بصبرِكَ أنْ قدْ أبْرَقَ الألمُ”
ينادي الشاعر القلم ويدعوه للكتابة، فقد طال صبره وصمته، وكأن الألم قد استبد به لدرجة لا تحتمل المزيد من الانتظار. فهو يطلب من القلم أن يبوح بما يعتمل في الصدر ليخفف من وطأة الألم الذي أصبح كالبرق يلمع في أعماقه.
“كفاكَ صمْتًا فمدرارُ الفؤادِ هَما
رؤىً ودمعًا كأنَّ الماطرَ الدِّيَمُ”
الشاعر يحث القلم على إنهاء صمته، لأن القلب بات مليئًا بالمشاعر المتدفقة التي تنهمر كالمطر. هذه المشاعر تتنوع بين رؤى حالمة ودموع حسرة، مما يعكس شدة التأثر الداخلي الذي يشبه السحاب الماطر في غزارته واستمراريته.
“يا صاحبي كلماتُ اللهِ جاريةٌ
حتى وإنْ وقَفَتْ في وجهِها الأُممُ”
يؤكد الشاعر لصاحبه أن كلمات الله ووحيه ستظل باقية وسارية، مهما حاولت الأمم معارضتها أو الوقوف في وجهها. ففي ذلك إشارة إلى قوة الحق وخلود الكلمة الإلهية التي لا تقهر.
“ما شاءَ ربُّك لا ما شاءَ ذو رَغَبٍ
وشأنُ ربِّ العُلا في خَلْقِهِ حِكَمُ”
يذكر الشاعر أن إرادة الله هي النافذة، وليس ما يشتهي الناس أو يسعون إليه. كل ما يفعله الله حكيم، وخلقه يحمل من الأسرار والحكم ما يعجز البشر عن إدراكه.
“غابتْ ملامحُ شمسٍ كنتَ تعشَقُها
خلفَ الحِجابِ وأحنى رأسَهُ العَلَمُ”
هنا تعبير عن فقدان شيء عزيز كان يملأ الحياة نورًا وأملًا، وكأن شمسًا قد اختفت خلف ستار من الحزن. والعَلَم الذي كان رمزًا للفخر انحنى برأسه وكأنه ينعى ما فقد.
“في كلِّ يومٍ لهُ بيضاءُ ساطعةٌ
يلمُّ فيها شُتاتًا أو يُعِيلُهُمُ”
كان ذلك الشخص الذي فقدوه كالنور الساطع في كل يوم، يجمع الشمل ويوحد الصفوف، ويعين المحتاجين، مما يجعله مصدر أمل ورحمة لكل من حوله.
“سيماهُ بدرٌ وعينُ الليثِ تسكنُهُ
إذا تلفّتَ غضَّ الناسُ طَرْفَهُمُ”
يوصف الفقيد بجمال طلته وسمو ملامحه التي تشبه البدر، وبهيبته التي تشبه الأسد. كان مهاب الجانب، وكلما مرّ بجانب الناس، أحاطوه بالاحترام وغضوا أبصارهم تقديرًا له.
“دليلُنا كانَ في قولٍ وفي عملٍ
الى مواردِ فِكْرٍ كلُّها عِظَمُ”
كان الفقيد مثالًا وقدوةً في القول والعمل، ودليلاً يهدي إلى منابع الفكر النبيل والمعرفة الرفيعة، مما جعله رمزًا للعظمة في كل أفعاله.
“بلى فقدناهُ حتى أنَّ شيبَتَنا
شَكَتْ مِنَ اليُتْمِ ما لمْ يُفصِحِ اليُتُمُ”
يشير الشاعر إلى شدة الفقد، حتى أن الشيب الذي يرمز للنضج والتجربة اشتكى من يتم عاطفي، هو أبلغ من يتم الأطفال، ولا يمكن للكلمات أن تصفه.
“هيّا معاً عندَ عبدِ اللهِ موعدُنا
فتحتَ قبّتهِ بالمِسْكِ نخْتَتِمُ”
يختم الشاعر بالدعوة للالتقاء في المكان الذي كان يجمعهم، عند عبد الله، رمز الخير والصلاح. هناك سيكون اللقاء تحت عبق المسك، حيث تطمئن الأرواح وتُختتم الحكاية برائحة الطيب.
هذه القصيدة مرآة تعكس صراعًا داخليًا بين الألم واليقين، بين الفقد والرجاء، وبين الإنسان الذي يواجه الحياة بعين دامعة وقلب متشبث بالسماء. تتناول القصيدة تجربة وجدانية فريدة، تتشابك فيها الأحزان الشخصية مع التأملات العميقة في معاني القدر والإيمان.
تميزت القصيدة بلغة أدبية جزلة، تستدعي روح التراث الشعري العربي، إذ جاءت المفردات مُثقلة بدلالاتها العميقة وصورها البديعة. المزاوجة بين البساطة في التعبير والعمق في الفكرة جعلت النص أقرب ما يكون إلى لوحة فنية تتراقص فيها الكلمات بإيقاع مؤثر.
ومن أمثلة هذا الإبداع:
“إنْطُقْ… كفاكَ انتظارًا أيُّها القَلَمُ”
حيث تبدأ القصيدة بنداء مهيب للقلم، وكأن الشاعر يُجسّد عجزه الشخصي عن التعبير، ليحمّله مسؤولية البوح. هنا يتحول القلم إلى رمز إنساني، شاهداً على الأحزان.
“غابتْ ملامحُ شمسٍ كنتَ تعشَقُها
خلفَ الحِجابِ وأحنى رأسَهُ العَلَمُ”
في هذا البيت تتجلى عبقرية التصوير، حيث الشمس ترمز للأمل والفرح، والحجاب والعلم المائل يُمثلان الحزن والانكسار. هذا المزج بين المعاني الحسية والمعنوية يُثري الصورة ويُعمّق أثرها.
تدور القصيدة حول موضوع رئيسي هو رثاء شخص عظيم المكانة، ربما عالم أو قائد، كان محورًا للحياة الفكرية والروحية للشاعر ومن حوله. ينقسم المضمون إلى محاور عدة:
1. الانطلاق من الألم الشخصي إلى البوح الكوني:
يبدأ النص بصراع داخلي مع الألم، حيث يناجي الشاعر القلم ليكون وسيلة للتعبير. لكنه سرعان ما ينطلق من هذا الهمّ الشخصي إلى تناول موضوعات أكثر شمولًا، مثل استمرار كلمات الله رغم المحن، وارتباط القدر بالحكمة الإلهية.
2. تصوير الفقد وأثره في النفس:
عبر الشاعر عن حزنه بأسلوب يتسم بالصدق والدفء، مستخدمًا صورًا مؤثرة:
“بلى فقدناهُ والاضلاعُ باكيةٌ
عليهِ حُزْنَ خُناسٍ ليسَ يُخْتَتَمُ”
هنا يربط الشاعر حزن الأضلاع بمرارة الفقد، وهو تعبير مجازي ينقل الألم كأنه يتمركز في القلب ذاته.
3. الاستلهام من الإيمان والتسليم:
يوازن الشاعر بين الحزن والإيمان بحكمة الله:
“ما شاءَ ربُّك لا ما شاءَ ذو رَغَبٍ
وشأنُ ربِّ العُلا في خَلْقِهِ حِكَمُ”
هذا البيت يبرز التصالح مع مشيئة الله، فيظهر الشاعر قوته الروحية على الرغم من وجعه.
4. استدعاء الشخصية المفقودة ودورها:
خصص الشاعر أبياتًا للتغني بخصال الفقيد ودوره في توجيه الأمة:
“دليلُنا كانَ في قولٍ وفي عملٍ
الى مواردِ فِكْرٍ كلُّها عِظَمُ”
هنا يظهر الفقيد كرمز فكري وأخلاقي عظيم، يجمع بين القول الحكيم والفعل المؤثر.
تتألق القصيدة بصورها المبتكرة، التي جمعت بين الموروث والحداثة، وأبرزت قدرة الشاعر على تجسيد المعاني المجردة في صور ملموسة. ومن أجمل تلك الصور:
“سيماهُ بدرٌ وعينُ الليثِ تسكنُهُ
إذا تلفّتَ غضَّ الناسُ طَرْفَهُمُ”
هذه الصورة المركبة تجمع بين الجمال (البدر) والقوة (عين الليث)، لتُبرز الشخصية المهيبة للفقيد.
“والقلبُ يبحثُ مثلي والدموعُ دمُ”
في هذا التعبير العاطفي، تتحول الدموع إلى دماء، مما يعكس أقصى درجات الحزن والوجع.
اعتمد الشاعر على البحر الشعري الكلاسيكي، مما أضفى على القصيدة موسيقى رنانة تنساب بسلاسة وتزيد من تأثيرها الوجداني.
التزام الشاعر بالقافية الموحدة عزّز وحدة النص، وجعل التكرار في القافية وسيلة لتعميق الشعور بالحزن.
تمثل القصيدة مرآة تعكس تجربة إنسانية عميقة تتجاوز حدود الفرد إلى الأمة بأسرها. فهي ليست مجرد مرثية شخصية، بل نص يحمل أبعادًا فكرية وروحية عميقة.
الرسالة الأساسية تكمن في الإيمان بحكمة الله رغم ألم الفقد، وفي استلهام قيم الفقيد للسير على نهجه.
القصيدة عمل فني متكامل يجمع بين عمق المعنى وجمال المبنى. الشاعر نجح في تحويل تجربته الشخصية إلى نص يتسم بالشمولية، حيث خاطب مشاعر القراء وعقولهم في آنٍ واحد.
إنها قصيدة تُذكّرنا بأن الشعر العظيم هو ذلك الذي ينبع من أعماق الروح، فيلامس الأرواح الأخرى، ويظل خالدًا في ذاكرة الأدب.