Views: 1
قراءة :أحلام حسين غانم
على سبيل البدء
“إنّني أعيش شعريا على هذه الأرض” (هولدرلن).
ما الذي يراه الشاعر حين يعيش شعريًا على هذه الأرض وكيف يطوّع الرؤية حين يدور شعريًا حول الوجود..؟
هل فعلا لم نَعُدْ بحاجة للنَّظْم الذي تحميه لغةُ المُقدَّسات الخشبية.. ؟
ثَمَّةَ أشياء يَعيش الشَّاعر طُوالَ حياتهِ يبحث عنها ويُفتش بكلِّ مَا وُهِبَ من حيلةٍ عنها في كلِّ قافيةٍ وبحر، ولا يَلجأُ الشاعر إلى ركوب أعالي بحار القلق والبحث عن تلك الأشياء إلا لِيُحقِّقَ ذاته من خلال التَّوَهُّج التوليديّ العالي والذي برأي هو الأهم ..
تتمثل شعرية الشاعر توفيق أحمد في قدرته على عدم التماثل مع من سبقه؛ لأنه يعمد إلى الحديث عمّا لم يُتحدث عنه من قبل، وتنحاز قصائده ما بين التَّوَهُّج التوليديّ والنزوع إلى الحرية واستحالة المفاهيم إلى أن تكون ذات مستويين كتابيين أولهما صوفي مرمز والآخر وجداني مستحضر.
” عصافيرُ تنقرُ سنابلَ كفِّي”
تتجسد النزعة الرمزية في مجموعته الشعرية ” عصافيرُ تنقرُ سنابلَ كفِّي”،(الناشر : دار بعل – سوريا – دمشق،2024), في محورين الأول دلالي أساسه الوجد بمعناه الصوفي وتجلياته الروحية والمحور الآخر صوتي يتمثل في التعاطي الشكلي مع قصيدة النثر.
بعد أن أومأت له عصافير الروح أخذ الشاعر “توفيق أحمد “على عاتقه الخروج عن النمطية التعبيرية التي عرفها الأولون القدامى، وسعى إلى تغيير طرق التعبير، وكأنه يريد أن يؤكد على أن “كل أثر شعري جديد حقًا، يكشف عن أمرين مترابطين: شيء جديد يُقال، وطريقة قول جديدة”(1).
على خطى أرسطو
لا سيّما نرى توفيق أحمد يسير على خطى أرسطو حين ربط أرسطو الشعر بالمحاكاة، سواء كان بلغة منظومة أو منثورة، أي أنه خرج على حصر الشعر في الشكل والموسيقى الخارجية ..
ويعبّر عبر عصافيره عن تجربة وجدانية ذاتية وروحية تعتمد على الاتصال بجوهر الوجود وباطنه، بلغة مشحونة بالإيحاء، لأن موضوعها (الحب، الروح، الحياة، الموت، مناجاة النفس، مخاطبة الذات) .
فيبدو للمتلقي شاعرًا لا يقبل الوصاية بكلِّ أنواعها ،فيكتب دون ارتباك ، ويبتكر تشظّياته في حالة رخاء طبيعي محاولاً الابتعاد عن الاحتقانات البلاغية ربّما لأنه المدرك : أن “الشعر ما هو إلا حالة برجوازية باذخة”.. والشعرية لا تتوافر في الشكل بقدر ما تتوافر في المضمون، أي أنها داخلية أكثر منها خارجية، قابعة بين طيات النص أكثر منها مغلِّفة للنص من الخارج.
نص الغلاف
في هذا السياق التجديدي تندرج التجربة الشعرية للشاعر السوري ” توفيق أحمد “؛ الذي يشكل صوتًا شعريً فريدًا مجددًا، مبتدعًا بلاغته الخاصة به؛ بلاغة مفعمة بحياة المجازات الخلاقة، والاستعارات الموغلة في القبض على المنفلت من الوجود والذات. ويحاول تكوين رؤية وإضافة لائقة يرصّع بها نص الغلاف ،حيث يقول:” أسئلةُ الواقع والحياة مُكتظَّةٌ بالإلحاح ،وعلى المبدعين مسؤولية أخلاقية في الإجابة عنها كثيرًا ما كتبنا منعزلين عن وعينا بآفاق ما نكتب .”
قاموس الذات
وهنا قد تتهافت الأسئلة الصعبة :هل رأى الشاعر “توفيق أحمد ” أن الشعر رحلة بحث عن جنّة مفقودة.. وأنّه لن يجدها أبدًا.. لا سيما هو العارف إنها رحلة في عوالم جديدة ؛مفاتيحها الإيغال في اكتشاف الذات وتطويع الرؤية لغة وصورة … وتجاوز سلطة السائد وكيفية الخروج عن المألوف وكسر حواجز الخوف، والتحرر من حياة القيد ليكون على قيد الحياة وتصبح الخسارة وهمًا في قاموس الذات التي رضعت لبن الحياة من فم النبع الأوَّل.. ؟
هل يبحث عن أريج الحرية وعبق الانطلاق؛ ليصدح بكلماته في الآفاق، ويهب للقصيد صوتاً حرًّا سريًا من الأعماق كنشيد للأبدية..؟
مداليل ترميزية
إذا حاولنا النظر من زاوية أخرى نلمح أن الشجر لا يجيزُ إقصاء العصافير،ولا العصافير تجيد إقصاء الشجر ،علاوة على ذلك، التساؤل والخمرة والورد و وأنثى الأرض والقصيدة والضباب وفوضى الليل مداليل ترميزية مهيمنة على الخطاب الشعري عند الشاعر؛ فتبدو الأسئلة مفارقة، وفاجعة أحياناً، ليس لأن قصيدة النثر تجاوزت ما هو أجناسي، لتحضر بوصفها شكلاً وأداءً في الممارسة الشعرية، لها شعراء رواد، و«أبطال» جعلوا منها حافزاً على إعادة قراءة التاريخ الشعري، واستغوار مساحاته التي يمكن أن تتسع للمغامرين وتوفيق أحمد أهم هؤلاء .
” تأملات في الحب والحياة ”
إزاء هذه الأسئلة وغيرها تبدو جملة ” تأملات في الحب والحياة ” مفتاحًا لتنطي عتبات الكتاب، والدخول إلى عوالم الشاعر توفيق أحمد التي تتسم بالتنوع والاختلاف و تجترح راهن معيشها بحثًا عن مكمن الماء القابع في أغوار ذاته وذاتنا طبعًا، مؤمن بقدره، بل بقدر الشعر والشعراء الحقيقيين المنذورين للهامش القصي.. وتكشف هذه التأملات عن التنوع في الينابيع الفكرية والفلسفية والشعرية التي تشكل الخلفية المتحكمة في العملية الإبداعية، ولعل هذه السمة الإبداعية هي ما يسم قصائد الشاعر “توفيق أحمد”هذا ما يجعلنا ندرك كيف ” تركض النجومُ بأهدابها لوادٍ من عيون الينابيع ” .
و كيف لا ،وهو الشاعر الذي يفكُّ الكوى قطبةً قطبةً وكُلُّه ثقة بجدوى الحياة وبراءة العشق ، عبر مراوحة من الشك واليقين، الشك في بداهة الحقيقة وحريرها الذي يتحدَّى مِقصَّ الزَّمن، بخاصة حين يتحول في خضم حالات المد والجزر عاطفياً إلى قمر شمالي يضيء لغايةٍ في نفس الريح ، في مقابل ذلك يبدو البحث عن اليقين بمثابة جغرافيا المَلَذَّات ومخاتلة لحلم لا يبرح العتبات ويراوغ من أجل أن يظل هو الشيء ونقيضه معاً في غزارة نهارٍ وفوضى ليل.
كلمات العنوان
هذا ما يضعنا أمام شاعر لم يخفض للريح جوانحه، ولا يملُّ من البحث عن نفسه، محاولاً الإمساك بنقطة توازن، أو يقين مضاد، يشكل خطاً موازياً مع الماضي والحاضر.
عند تأمل كلمات العنوان ، نجد أن العصافير وسنابل الكفّ تتجاوزان كونهما مجرد عناصر من الطبيعة لتصبحا رموزًا عميقة ومليئة بالمعاني. توفيق أحمد يرى في العصافير أكثر من مجرد تجسيد لجمال طبيعي؛ إنها تجسيد للخلود والقدرة على رؤية الجنة في أبسط الأمور.
سنابل الذات
تتجلى العصافير الذاتية وتتجسد سنابل الذات الشاعرة للشاعر “توفيق أحمد ” بصور مختلفة داخل النصوص، لتشكل الثنائية المعروفة: ثنائية الذات والعالم (الذات والموضوع/الذات والآخر/الخاص والعام). فيصبح للذات دور فاعل في العالم، وليس منفعلا كما كان يحدث في الشعر القديم.
الطابع الرمزي
من هنا يمكن أن ندرك الطابع الرمزي للعصافير، بكل تفاصيلها الرقيقة وألوانها المتألقة، والتي تعكس جوهر الأبدية وتفتح أمامنا نوافذ إلى عالم الروح حيث يتلاقى الجمال مع سنابل السعادة في تناغمٍ خفي.. فقمح توفيق أحمد الشعري “يخلق شيئًا جديدًا في الجزئيات والكليات منه، حين يحدث علاقات ودلالات وصورًا تحمل وسمه وذاتيته”. (2)
أما السنابل ، التي قد تبدو صغيرة وبسيطة للعين البشرية، فهي في نظر الشاعر بؤر لامتناهية من الإمكانيات المفتوحة ممتلئة بالمعاني الذهنية والعاطفية؛ فالشاعر قد نراه يأخذ موقع الفيلسوف في تعريفه لماهية الأشياء، ومعالجة المفاهيم العامة بمنظور فلسفي شاعري؛ بما يصنع ما يشابه القصص التي نحيا بها.
في كل سنبلة، هناك عالم كامل، حيث يمكن للروح أن تجد عمقًا غير محدود، متصلًا بكل شيء حوله، وهذا يدعونا لتأمل هذا الجمال الخفي، ليشعر الإنسان بالقدرة على رؤية اللانهاية في تلك العوالم الصغيرة .
الوعي الروحي
بهذا يمكن أن نفهم أن الشاعر توفيق أحمد أسس لتجربة فريدة منبعها الوعي الروحي الذي يوصل إلى الحقيقة المختبئة وراء الظواهر، حيث يقف القارئ في مقدمة هذا الديوان عند مختلف المفاهيم النظرية لعالم الشعرية الحداثية في فضائها النظري، حيث يتناول أهم الخاصيات الجمالية للكون الشعري في أفقه الحداثي.
تغطي هذه المقدمة الطويلة عنصرين أساسيين: الأول وهو عام مرتبط بالموقف التنظيري والنقدي لقصيدة النثر، والثاني خاص أو شخصي متعلق برؤية ذاتية .
وقد أكد في مقدمته أن شعرية الدهشة تعني القدرة على تقديم رؤية جديدة بمنظور جديد في عالمه الشعري، وهي التي بنى عليها الشاعر توفيق أحمد تأملاته في الحب والحياة ، وكما هو واضح في قوله :
” أعتقد أنَّ المطلوب من النصوص التأمُّليّة النثرية كهدف استراتيجي لها ،أن تنتجَ شعريَّةً خاصةً بها ،وحالة فكرية واضحة ومخلصةً لروح النص الحديث فهي نصوصٌ مغامرةٌ وطموحةٌ وشجاعةٌ ،وقادرةٌ على فتح المغاليق والانطلاق نحو فضاءات لا تُحَدُّ . “ص-7
إن الشاعر يعمل جاهدًا في مقدمته على أن يبين ما يجعل نصه الشعري نصًا شعريًا حداثيًا، ويؤكد في نصوصه على أن شرط الفكرة لكي تكون شعرية أن تتوحد مع الكلمات في كل بنيوي واحد، بحيث لا نشعر أنها كانت موجودة سابقًا، بل نشعر على العكس أن الشاعر يبدعها شيئًا فشيئًا تحت شعار : “ضرورة إعادة قراءة الماضي بعين معاصرة واستشراف المستقبل “..إنها ثمة محاولة لإعادة ترتيب الحياة داخله، محاولة للخروج من حالة التشظي التي تنتاب روحه .
” عصافير تنقر سنابل كفّي ”
يعد ديوان ” عصافير تنقر سنابل كفّي ” للشاعر توفيق أحمد من الأعمال الشعرية الحديثة التي تنتمي لقصيدة النثر المعاصرة، والذي تتشكل نصوصه من العديد من الصور الشعرية التي تتعدد محافل التيه والسديم فيها، مما يجعلها سبيلًا نحو بناء عوالمه الشعرية، والتلميح بأبعادها الدلالية والرمزية.. و تطوق هذه العصافير الوجودية الذات، وتجعلها في صراع أبدي للبحث عن الكينونة المفتقدة .
متاهة الروح
وما بين متاهة الروح وحصار الجسد/ النص نتلمس خصائص “توفيق أحمد” وذائقة منفتحة على آفاقها الكونية، متحاورة مع تجارب الآخرين، وجريئة في فتوحاتها المعرفية و إشراقاتها الإبداعية، يقول في نص “عزِّزي إرادتي باستقصاء اشيائكِ”:” لا أريد لِخُصْلَتَيْ شعركِ أن تكونا سائبتَيْن
إلا للريح وأصابعي
ما يكتبونَهُ أواخرَ الليل عن استرخاءِ زُنَّارِكِ
وعن ثماركِ التي تُقطَفُ عشوائيّاً
ما هي إلا تُهمٌ جائرةٌ
بحقِّ القلب والجسد
في تلك الأروقة المُعْتِمةِ “. ص- 17
الذات القلقة
ذائقة الشاعر تؤمن بأن نبع الكتابة الوحيد هي الذات القلقة التي يفيض عنها الوجود والعالم، و التي تختزل التجارب والمقولات، وهي السر المكنون الذي يثوي في أعماقه ماء الحياة، أسرار الكينونة وتجلي العالم.. وضمن تمارين الألم يقول :” حضوركِ في الغياب والحضور ؛
هو الحاجة الدائمةُ لتقبِّل الروح في الحياة ..
ولتقبّل الروحِ لروحٍها
في عوالمها المجهولة الصَّعبة على التَّفسير والشروحاتِ.. ص- 28
ويقول في نص ” المجد للهذيان “: لا توجد مسافاتٌ..
ثمّة جدلٌ كبيرٌ يدور في ساحاتٍ صغيرةٍ
توارت عن الأنظار .. ص-45
وفي رحلة البحث عبر صوره الشعرية، يقول :” أبحثُ في وجوه المُتعبينَ
وفي خُطا السَّاعينَ لجعل الأرض مستقبلاً
مكانًا أفضلَ للجميع “. ص- 59
تحرير اللغة
وفي نص “آخر العشاق “نرى تمكن الشاعر من تفجير طاقاته اللغوية، وتحرير اللغة من العلاقات العقلية بين مفرداتها،و توليد علاقات جديدة تحدث الدهشة، فتصبح لغة كشف ،و ينفتح النص على تأويلات كثيرة يلتقطها المتلقي كإشارات خاطفة حيث يقول : “افتحي كفَّيكِ أكثرَ
لأرى سَفَرَ الغِوايات في ضمير اللوعةِ واللَّهفةِ ..
لكِ خياراتُ الصمت أو المجابهةُ، أما الهُدْنَةُ فلا أحبُّها”ص- 88
المسافة الزمنية
يؤكد الشاعر أن القصيدة ذاكرة المواسم والفصول ..” حريرُها يتحدَّى مِقَصَّ الزَّمن ” لذلك الشعر ليس مشغولاً بتفسير الأشياء ولا بتعليلها، وإنما يفجّر ما بها من طاقة مخبوءة لإثارة الدهشة والأسئلة. كما أنه لا يحتاج إلى هذه المسافة الزمنية فتتبرعم فيه الطبيعة وتحدّد شبابَها متسائلا :” مَنْ يَمْنعُ رغيفَ التنور أن يروي حكايته للبَرْد المُحاذي ؟
كان عليهم أن يعرفوا أنَّ صدرَكِ فجْرٌ
ومأوى للعصافير عندما تستيقظُ من رُقادٍ مُؤقَّت..” ص 132
تخطي الشكل
وبين التماهي والتخييل وحالة المروق الوجداني، في سعي واضح إلى تخطي الشكل التقليدي لقصيدة النثر القديمة، فعصافيره تعقد مواجهة مع أسئلة سرمدية يحفل بها الوجدان.
مسارات التأمل
من هنا يتجلى التخييل الشعري لديه؛ ليستمد جماليته من مسارات التأمل والمراجعة لمفردات الحياة في اقترانها بالمطلق، دونما الخضوع لاشتراطات النسق التقليدي لها.
حيث وقع أقدام القصيدة ولحظات استنفار القوى الذاتية للشاعر يبدو من خلال قوله : ” كان العابرون الصامتون الذاهلون
لا يعبؤُون بظلالهم المرميّة على الجوانب
بينما قامتُها
تنسكبُ فيها البراءةُ والاندياح
وتطير عن الأرض كريشةٍ
ليحتضِنَها الأفقُ القريب .
جاعلاً منها مدىً يضجُّ بالجمال والبهجة ” ص-241
جوانح الذات
وهذا ما أكده المقطع الشعري السابق، فانفجار النص الشعري لديه، وانطلاقه في عالم ما بعد الواقع، جاءا بمثابة التعبير عن الغرائز المحررة في جوانح الذات الشاعرة لديه.
وما بين فهرسة العواطف و جماليتي الانفجار / الانفصال والاتصال، انفصال داخلي بين الذات الشاعرة والصورة الشعرية الموازية لها، واتصال فيما بينها عبر الصورة الموازية لحالة اللاتشظي، ولما هو مأمول يسأل :” لمن يُومئ عُصفوراكِ وينادي : يا حبيسة الأقفاص
بلا خارطةٍ تسدِّد خطاها
يا رهينة شطآنٍ بلا منارات
أظنُّ أنَّ الله خلقكِ
منى فضائل اللذاذات ورحيقها
لتكوني بوصلةً لمتاهات العشاق
وكنوعٍ من التَّبتُّلِ في الحب” ص-191
مكابدة التشظي
ومن هذا المنطلق لا تجد الذات، أمام تمارين الألم، سوى الحاجة الدائمة لتقبُّلِ الروح في الحياة ولتقبُّل الروح لروحها في عوالمها المجهولة الصعبة على التفسير والشروحات ؛ اختيارًا للإقامة في البواطن الداخلية لغوامض الروح والتباساتها المفضية إلى اللانهائي واللا محدود في العوالم المظلمة، وعليه فهذا التمزق الوجودي الناجم عن مكابدة التشظي دليل ساطع على ضراوة المخفي من الذات و تعبير عن تراجيدية الذات تجاه العالم والذات يقول: ” سلامٌ على كل عينين تحاورانِ
فتشعلانِ اليقظةَ بمزيدٍ من الحُلُمِ والرَّفاه ..
وسلامٌ على الهوى الذي ينقذُ الأعمارَ من الضياع ..
وسلامٌ على الحرائق التي تُرَمِّدُ فاعليها
لينهضوا من جديد ،
يرتكبون عبثًا جميلاً جديداً..”
العبث الجميل
هذه المشهدية التصويرية توضح قدرة الشاعر العاشق على إنقاذ الأعمار من الضياع والتقاط لحظات منفلتة من تحت الرماد، يصعب القبض عليها إلا من لدن شاعر يمتلك ناصية الإبداع المتوهج والمدهش، و رؤية عميقة في خلق نص شعري حافل بهذه المعطيات الجمالية والفنية ويرتكب عبثًا جميلاً جديدًا ..
خلاصة القول
إن الحداثة الشعرية عند “توفيق أحمد”، “تتجسد في الإفضاء إلى المجهول، والابتعاد عن كل قالبية ونهائية، فكلما كان الشعر مؤديًا للمجهول ومحرضًا على التساؤل، ونائيًا عن كل نمطية، ومتحررًا من كل قاعدية ومرجعية، كان حريًا بأن يرقى إلى الحداثة الشعرية”.
فإن ما يمكن الخلوص إليه، بما لا يدع الشك، قصائد الشاعر ” توفيق أحمد ” تنماز بإبداعية شعرية خارقة لما هو كائن في الشعرية العربية؛ وذلك بواسطة لغة شعرية تمتح عمقها الجمالي، وبعدها الدلالي من معين تجربة الذات الشاعرة في الحياة كسيرة ذاتية تمت شعرنتها، عبر آليات نصية خلقت خطابا شعريًا يعبر عن جوهر الرؤية الشعرية المنطلَـق منها، والتي اكتسبت جدلية الرؤية الشعرية في ديوان ” عصافير تَنْقُرُ سنابلَ كفِّي”للشاعر القدير “توفيق أحمد”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
– أدونيس، مقدمة الشعر العربي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،
ط(5)، 1986م ، ص100.
(2)-انظر، د. إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير 1978م، العدد 2، ص112.