Views: 14
البعد الفلسفي في شعر محمد عبد الله البريكي
د. محمد بشير الأحمد
لطالما كان الشعر نافذة تطل على الفلسفة، فهو ليس مجرد نظم للكلمات بقدر ما هو انعكاس للتأمل العميق في الوجود والمعرفة والذات. ويُعد الشاعر الإماراتي محمد عبد الله البريكي واحدًا من الأصوات الشعرية التي يتجسد هذا البعد الفلسفي في تجربته على نحو يمتزج من خلاله التساؤل الوجودي بالحكمة، ليغوص في ماهية الإنسان والزمن والمطلق. ويعد الزمن أحد الموضوعات الفلسفية الكبرى التي تناولها البريكي في شعره، حيث يبرز مفهوم الزمن بوصفه كياناً متحركاً يحمل معه تغيرات الحياة وأسرارها، ومن ذلك قوله:
كقشّة دون وعي تعبر الوادي
تمر فوق تخوم الوقت أجيادي
ملقىً على هامش الأيام تحملني
عكّازة تعزف الألحان للشادي
عبرتُ ضفّة عمري وهي مزهرةٌ
وما قطفتُ من الأيام أعيادي
فهنا يعكس البريكي رؤيته للزمن باعتباره كيانًا متغيرًا يحمل معه بصمات الذاكرة وأثر التجربة الإنسانية بأسلوبٍ يعكس فكرة الزوال السريع للحظات الزمن، وهو تصور يتلاقى مع فلسفة هيرقليطس الذي يرى أن كل شيء يتغير ولا شيء يبقى ثابتًا، ومن جهة ثانية نجد فيه دلالة تؤكد أن مرور الزمن لا ينهي التساؤلات، بل يفتح أبوابًا جديدة للتفكير والتأمل، مما يجسد المفارقة بين انقضاء الزمن واستمرارية البحث عن المعنى.
وفي قصيدة “ضفاف الحياة” تتجلى الأبعاد الفلسفية لدى البريكي بأسلوبٍ فني يعكس قدرته على تفريغ الحمولة الفكرية والشعورية في النص بالاستناد على رؤية فلسفية تعالج موقفه من الحياة وظروفها، خالقاً بذلك مساحة يتقاطع فيها التأمل الفلسفي مع الإبداع الأدبي، يقول:
مثل ريشٍ يسير سهواً لضفّهْ
يعبر الناس في الحياة بخفّهْ
وكخطٍّ على الرمال غريبٍ
تقصم الريح حين تلقاه نصفهْ
هكذا عقرب الزمان يمضي
مضعةً كان… والنهاية رجفهْ
يتضّح لنا من خلال هذه الأبيات موقف الشاعر من الحياة والزمن الزمن الذي لا ينظر إليهما باعتبارهما مجرد لحظاتٍ تمضي، بل كوجود يحمل بعدًا تأمليًا يعكس حقيقة الإنسان وأحلامه، إنه يشير إلى الزمن بوصفه مرآة تعكس أعماق الروح، وهو ما يمثّل طرحًا فلسفيًا قريبًا من تأملات الفلاسفة الوجوديين؛ فكما ناقش الفلاسفة طبيعة الزمن بين كونه ثابتًا أو متغيرًا، يعكس البريكي هذه الرؤية بطريقة شعرية تشد القارئ إلى تأمل عميق حول تأثير الزمن على الوعي البشري. ومن هنا أمكن القول عن هذه التجربة إنها تجربة التأمل في ثنائية الحياة والزمن، فعلى المستوى الفني يعالج الشاعر الطرح الفلسفي بأسلوب فني يشي ببراعة توظيف الصورة الفنية وفق ما يوجه إليه السياق العام للنص، فتشبيهه الإنسان بريشة تسير بلا وعي نحو مصيرها المحتوم تصوير يتناغم مع فكرة الوجود العابر والعدم الذي يترقب كل شيء، ثم إنَّ صورة الخط على الرمال الذي تمحوه الريح، إشارة واضحة إلى عدم ديمومة الإنسان وأثره في هذا العالم. أما البيت الأخير فهو يلخص الفكرة الأساسية التي يعالجاها الشاعر، حيث يرمز “عقرب الزمان” إلى مرور الوقت الذي ينهش الحياة تدريجيًا حتى تأتي “الرجفة”، أي الموت، وهذا تقاطع واضحٌ مع الأفكار الفلسفية الوجودية التي ترى أن الزمن ليس مجرد أداة قياس بل قوة محورية تتحكم في المصير البشري.
ولعلَّ أبرز ما يمكن لخظه في تجربة البريكي هو اعتمادها على تكثيف التساؤلات في أثناء البحث عن الذات، الأمر الذي يجعلها تجربة ترفض الإجابات الجاهزة وتسعى إلى البحث عن معنى يتجاوز المألوف، باستثمار الأبعاد التي يضفيها الحوار الداخلي والخارجي لخدمة النص، ومن ثمَّ تقديم موقف جمالي من الوجود وفق أسلوب يعكس فلسفته الخاصة، ومن ذلك قوله:
أنا من أنا يا أنا، من أنا؟
أنا من يكثّف فيك السنا
أقول لأصحاب حرفي تعبتُ
يقولون لي: إننا كلّنا
فإن كنت تعرف شطاً قريباً
ننام على دفئه.. دلّنا
فنحن رجونا بأن نستظلّ
بسقف الأمان فما ظلّنا
نلمح في هذه الأبيات نزعة الشاعر نحو البحث الفلسفي المتعلق باليقين والشك؛ فتساؤله عن الذات هو بحث عن الحقيقة المطلقة، وهو ما يتناغم مع أفكار الفلاسفة الذين ناقشوا طبيعة الحقيقة، ففلسفة ديكارت حول الشك المنهجي تبدو قريبة جدًا من هذا الطرح، حيث يتم تفكيك الحقائق المتوارثة وإعادة بنائها على الشك كمنهج للوصول إلى اليقين.
ويعد الحب من أبرز الموضوعات التي يتناولها البريكي، يطريقة تأخذ أبعادًا فلسفية تتجاوز العاطفة المجردة، ليتحول من ثمَّ إلى تجربة تأملية تتداخل فيها المشاعر مع الأسئلة الكبرى عن الوجود، الزمن، والمعنى، فهو لا يُنظر إلى الحب باعتباره حالة وجدانية عابرة، بل يعدّه عنصراً أساسياً في تشكيل هوية الإنسان، وتعدّ قصيدة “رقصة في الريح” من النماذج التي تتجلى فيها هذه الظاهرة على نحوٍ بارز، حيث تتشح بنيتها الفنية والفكرية بالرؤى الفلسفية التي تسعى إلى تقديم موقفه الخاص من الحب على نحوٍ يمنح التجربة العاطفية بعدها العميق، يقول:
فأنت التي في القرب مني بعيدة
وأنت التي في الحلم أنثاي.. والتي
وأنت غطا عمري إذا ما تناوبت
على الجسم أعصابي وهمّي وغربتي
وأفرح بالعطر الذي منك قادم
كفرحة أمي حين آتي لقرتي
ويرقص قلبي لو تزورين مسمعي
كما رقصت في الريح نخلة دنيتي
تعكس ثنائية القرب والبعد في الأبيات السابقة فلسفة الحب وفق المنظور الفني الخاص بالبريكي، حيث يصبح الحبيب مصدر ألم وسعادة في آن واحد، وهو تعبير عن صراع داخلي بين الرغبة والواقع، ما يذكرنا برؤية الفيلسوف كيركيغارد الذي اعتبر الحب تجربة قائمة على التوتر بين الأمل واليأس.
ويأخذ الحب بعداً عميقاً لدى البريكي من خلال اعتباره مأوى نفسيًا يقي الإنسان من الألم، وملاذًا من قسوة الحياة، حيث يكون الحبيب بمثابة غطاء يحمي الشاعر من أعباء الوجود والقلق الوجودي، ومن ثمَّ يصبح الحب قوة تحرك المشاعر كما تحرك الريح الأشجار، وهو ما يعكس نزعة صوفية ترى الحب كقوة كونية تتغلغل في الوجود كله.
ولا تغيب الرؤية الفلسفية عن موضوعات البريكي التي تعكس موقفه من الاغتراب، حيث يتأمل هذا الموضوع بوصفه ثيمة تتقاطع مع طبيعة الزمن والمصير، فيكون الشاعر معلقًا بين الحلم والواقع، بين الممكن والمستحيل، وهو يعالجها وفق أسلوب تصويري يعكس فكرة الوجود التي ترى الإنسان معلقًا بين الاختيار والمصير، يقول:
حدّقي يا شمس
في هذا الفتى المسجون دوماً في الأعالي
من يغني فوق ظهر الغيمة الحبلى بحبٍّ:
يا خيالي
هذه الأرض التي تمشي إلى غيري بخيري
لا أرى فيها لحزني ظلَّ “غافٍ”
يحجب الدمع المسجّى فوق جرحي
لا أرى للبحر إلا فضة المعنى الذي يمشي ورائي
تجسد هذه الأبيات الشعور بالاغتراب عن الواقع من خلال اعتبار الحب حالة تعويضية عن انعدام العدالة أو الفهم في العالم المادي، مما ينسجم مع فلسفة نيتشه حول خلق الإنسان لمعناه، وتعكس الأبيات شعور الشعر تجاه الأرض التي تسير بعيدًا عنه وتأخذ خيراته إلى غيره، وهي نظرة تعبر عن فلسفة الوجود والعدالة التي ناقشها نيتشه، حيث يبحث الإنسان عن دوره في عالم يبدو غير عادل وغير مكترث بآلامه، ويستثمر الشاعر البحر بوصفه رمزاً إلى المعنى المتغير والزمن المتحرك، كما نستقرئ من تشبيه البحر بالفضة دلالة محيلةً على الطبيعة المتحركة وغير الثابتة، ما يشي بأنَّ المعنى ليس ثابتًا، فهو يتحرك مع الشاعر ويطارده، كما هو الحال مع الزمن في فلسفة هيدغر، حيث يُنظر إليه على أنه تجربة ذاتية متغيرة باستمرار.
في الختام.. إن شعر محمد عبد الله البريكي ليس مجرد انعكاس لعاطفة شاعرية، بل هو تأمل في أعمق قضايا الوجود من خلال تناوله لموضوعات الزمن، والحقيقة، والقدر، فهو يقدم منظورًا فلسفيًا يثير التساؤلات ويجعل القارئ يعيد التفكير في مفاهيم مألوفة بحلة جديدة. إنه شاعر لا يكتفي برسم المشاعر، بل يبحر في معاني الحياة بروح تأملية تجعل من شعره تجربة فكرية وجدانية غنية، فكما أن الفلسفة تسعى إلى البحث عن المعنى في أعمق مستوياتها، كذلك يفعل البريكي بشعره، حيث يفتح آفاقًا جديدة للتأمل والتساؤل في رحلة البحث عن الذات والكون.