Views: 5
الحكاية التاسعة 9 رمضان 1446 هجري (تبليط البحر):
لّما حصلتُ على الشهادةِ الثانوية، رفضَ والدي – أطال اللهُ عمره – أن أنتسبَ للجامعةِ كي أدرسَ اللغةَ العربية، وقال لي بأنّ طريقها طويلةٌ، وإخوانَك كلهم بالمدارس وال(الدّبسات مراق)، كناية عن قلّةِ المال، وطريقُ المعهد أقربُ والوظيفةُ بعدَه مضمونةٌ أكثر، والحقيقة رأيُه الذي يتعارضُ مع رغبتي صائب، لأنّ كلَّ الذين دخلوا الجامعةَ من قريتِنا ما تخرّجوا منها، وَتركوها من منتصفِ الطريق ليبحثوا عن طريقٍ غيرِها.
كان التقدّم لمعهدِ دار المعلّمين في إدلب يحتاجُ أن يكونَ الطالب منتسباً لحزب البعث، وإلّا فلن يكونَ مقبولاً، وأنا – يومها – لستُ من البعثيين، فتعهّد الوالدُ أنْ (يدبّر لي واسطة قوية) وبالفعل، تمّ الأمرُ ودخلتُ المعهدَ رفقة 175 من الشباب وما يماثلهم من الشابات في قسم دار المعلمات (المنفصل تماماً)، قادمون من كلّ مدنِ محافظة إدلب وقراها وأريافِها الواسعة المتنوعةِ الجميلة، وكانت أجملَ أيام العمر، وتخرّجنا في نهاية شهر آب (أغسطس 1984)، وكانت المفاجأةُ بمجموعِ درجاتي الذي يجعلُني في الترتيبِ الأول على الدّفعة كلها في قسمَي المعلمين والمعلمات، ولهذا التفوّق دلالتُه وحساباته.
مدير التربية في إدلب الأستاذ (يوسف رزوق / أبو مروان) كانَ وعدَنا في اجتماعٍ شامل بأنّ (الذي أو التي) يحرزُ الترتيب الأول سيمنَح مكرمةً إداريّةً من خلالِ تعيينهِ في المكان الذي يريدُه (على منطوق لسانه)، لأنهم كانوا يعيّنون المعلمين الجددَ خارج أماكن سكنهم لسدّ الشواغر النائية، أمّا وزير التربية يومَذاك الأستاذ (محمد نجيب السيّد أحمد) فقد وعدَ صاحبَ المرتبة الأولى بحافزٍ أكاديميّ، فيكمل دراستَه مباشرةً في السنةِ الثانيةِ من كلية التربية بجامعة دمشق، أنا تنازلتُ عن هذا الحافز لرغبتي في دراسةِ اللغةِ العربيةِ لا سواها، أما الحافزُ الإداري فلن أتنازلَ عنه مهما حصل.
صدرتْ قوائم التعيينات، وإذا بالقومِ من مسؤولي (حزب البعث القائد للدولة والمجتمع)، يصدرونَ قرار تعييني في إحدى القرى النائية، وليس عليها طريق معبّدةٌ من أيةِ جهةٍ كانت، لأن حكومتَنا كانت مشغولة يومَها بمعاركِها الكرتونية من أجل (تحريرِ الجولان وفلسطين وتوحيد الأمة العربية كلّها).
حملتُ قرارَ تعييني غاضِباً بعدَ اعتراضي عليه، وسماعي منهم كلمةَ:
(إذا مو عاجبك روح بلّط البحر)..
طبعاً البحرُ بعيدٌ عن قريتِنا، ولكنَّ الجملةَ أوجعَتني ومعناها: (أعلى ما في خيلك اركبه، ولن تنجح مساعيك في إلغاء القرار).
ساعة من الركوب في باص (أبو ميّادة) أهمّ سائق على خط معرة النعمان – إدلب، ونستمعُ خلالَ الطريق للمطربِ الشعبي السراقبيّ (أحمد التلاوي) يغنّي: (قوم درّجني وامشِ قدامي/ ولا تخاف من أهلي والأعمامي)، وَ إدلب ترحبّ بكم، وكنتُ أمام مكتبِ مدير التربيةِ راغباً بالدخولِ لمقابلته، فأوقفَني مديرُ مكتبه سائلاً:
– (وين يو خاي؟) الشغلة ليست فوضى..
– أريدُ مقابلةَ السيد مدير التربية..
– هل هناك موعدٌ مسبَق؟
– لا..
– – لماذا تريدُ مقابلته؟
– – موضوعي كذا وكذا وهو وَعدَنا، وأنا سأقابلُه لأذكّرَه بوعدِه لنا وإنصافي من (ظُلمِ الرّفاق)..
ما هي إلا دقائق بعدَ ذلكَ حتى أَذِنَ لي الرّجل بالدخول، فدخلتُ غاضباً لم تلفت اِنتباهي فخامةُ المكتب ولا هيبةُ صاحبِه، فقال لي: أهلاً يا أستاذ، ماذا لديك؟ فسَردتُ عليه الحكايةَ باختصارٍ واقفاً، وذكّرتُهُ بوعدِه، فابتسمَ وقال: وأنا عندَ وَعدي، وأمسكَ أوراقاً وتتبّعَ قائمةَ الأسماءِ فيها ثم توقّفتْ إصبعُه السّبّابةُ على اسمٍ وقال:
– أنتَ عبد الرّزاق حمدو الدّرباس؟؟؟ أجبتُهُ: نعم يا أستاذَنا، وهذه هويّتي.
قام من وراء مكتبه وجاءَ نحوي مصافِحاً مبارِكاً لي التفوّق، وَأجلسَني بعد أن كنتُ واقفاً وأمرَ لي بفنجانِ قهوة، ثم نادى مسؤولَ التعيينات في دائرةِ التعليم الابتدائيّ وأمرَهُ بتغيير قرار تعييني لأكونَ في مدرسةِ (الرّكايا)، وبعد دقائقَ كان القرارُ على مكتبهِ فوضعَ توقيعَه الكريم، وودّعَني بقولِه: وفّقكَ اللهُ ونفعَ بك، تستاهل.
عدتُ من إدلبَ يومَها دونَ أنْ أفطرَ في مطعم (أبو برهان) ومن غير التهامِ (قرص من شعيبيّات غنّوم)، وكانت تلكَ الورقةُ في يدي (كَسرةَ راس) لمَن أرادَ كيدي وإبعادي عن مدرسةِ الرّكايا الملاصقةِ لبابِ دارنا، والتي نعتبرُها جزءاً من بيتِنا.
أجل! لقد صرت أستاذاً أصيلاً مثبّتاً ولمّا يكتمل شعرُ لحيَتي بعد، فقد كان عمري وقتها 19 عاماً فقط، والآن أتذكّرُ مُسامِحاً عصابةَ الحقدِ والكيد، مُترحّماً على وزير التربية ومديرِ تربيةِ إدلب، والمسؤولِ (الواسطة) الذي ساعدَني في دخولِ المعهد، لتجريَ على لساني كلماتٌ أقولُ فيها:
الحَاقِدونَ عَلَيْكَ قَد غُلِبوا
لَمّا رَأَوكَ كَأَنّكَ الشُّـهُـبُ
خَيْرُ الرُّدودِ عَلَيْهِمُ صَبْـرٌ
وَمِن اِجتِهـادِكَ يُدرَكُ الأربُ
*****