Views: 3
الحكاية السابعة 7 رمضان 1446 هجري (جوز مباريم):
في لهجتِنا المحليّة نبدّل مكان الأحرف فبدل أن نقول للمرأة: أطيعي زوجَك نقول: أطيعي جوزك، وبدل أن نقول: على الحائطِ زوجٌ من الحمام نقول: جوز حمام، أما (المَبرومة) يا سادة يا كرام فهي مشغولة ذهبية، تشبه الإسوارة لكنها أثقل وزناً لتقترب من 50 غراماً من الذّهب، بالتالي فإن زوج المَباريم يعادل 100 غرام من الذهب، وهو ادّخارٌ ماليّ للشّدائد، وزينةٌ في أيدي النساء تَتباهى به السيدةُ لدى صويحباتها وتكيد بهِ خصومَها.
في عام 1983 تمّ اعتقال (خلدون المسحّراتي) في حيّ باب التبّانة بمدينة طرابلس شمال لبنان، بتهمة انتمائِه لأحد الأحزاب المَحظورة، وهذا الرّجل من إحدى القرى المجاورة لنا، لم يسبق لي معرفتُه، لكن عرفت أخاه الأصغرَ خلال لقائي به في إحدى المدارسِ المجاورةِ لقريتنا.
خلدون متزوّج إحدى بنات عمّه، وله منها طفلة، ويعملُ حمّالاً في (سوق الهال) بمدينة طرابلس، وقد مضى على اعتقالِه 10 سنوات من قِبَل أحد أجهزة الأمن السورية التي تمتدّ ذراعُها الباطشةُ إلى لبنانَ أيام وجود الجيش السوري على الأراضي اللبنانيّة، وقد صبرتْ زوجتُه واعتنتْ بطفلتِها التي لا تعرف عن أبيها إلا صورتَه وحكاياتٍ تسمعها من أمّها وأعمامِها وجَدِّها، وذاعَ خبرٌ شبهُ مؤكّد عن وجودِ ضابط أمنٍ سوري بمنطقة (القرداحة) في جبال الساحلِ السوري، وهي بلدةُ انتماءِ الرئيس حافظِ الأسد وابنِه الوارث بشار، وهذا (الضابط) يساعدُ أهالي المعتقلين على معرفةِ مصير أبنائِهم مقابل (ما تيسّر من عطاء).
ما سبقَ لزوجةِ خلدون أن ذهبتْ لتلكَ المنطقة، ولكنها أرادتْ أن تحسمَ التكهّنات، وتأتي بالخبر اليقين بعد المصير المجهولِ لزوجها، فوضعتْ (جوز المباريم) في علبةٍ بلاستيكية داخلَ حقيبة يدها، ويمّمتْ وجهَها شطرَ (القرداحة) برفقةِ شقيقِها ووالدِ زوجها، وبعد دوخةِ الباصات والمواصلات والنفقاتِ وصلوا، ودخلوا منزلَ الضابط فاستقبلَهم وأدخلهم (غرفةَ عملياته) وبدأ الحوار:
– أهلا يا حجّي، من وين هنت؟ ومين هاي الحرمة؟
– يا سيدي نحن من قرية (…. ) بمنطقةِ معرة النّعمان من محافظة إدلب وهاي مرت ابني المعتقل.
– شو اسم ابنك؟ ومن وين اعتقلوه؟ ومن كم سنة صارت الشّغلي؟..
– (خلدون المسحّراتي)، اعتقلوه من طرابلس بلبنان، قبل عشر سنوات تقريباً..
– شوف يا حجّي: باين عليك زلمي آدمي، ومارح نقصّر معك، مطلوب 100 ألف ورقة (ليرة)، ونفيدك بأن زلمتكن طيّب أو ميّت، وإذا طيّب ندلّك على مكان اعتقاله.
– والله العظيم ما حيلتنا شي، معنا (جوز مباريم) من يوم عرس كنّتنا، ووضعتْهم المرأةُ أمامه.
– ياحجّي الأمور خطيرة وفيها مسؤوليّة ومغامرة، وأنت حرّ
– أمرنا لله، الله يخليك ساعدنا.
– تلمسّتْ يداه القذِرتان الذهبَ وتأكّد منه، وأخفى (جوز المباريم) مع العلبة في درجِ الطاولة..
أدارَ (العقيد) أزرارَ هاتفه الأرضيّ واتصلَ واستفسر، وكتبَ بقلمِ الرصاصِ على قُصاصةِ ورق بجانبه، ثم ختم المكالمةَ مع المتحدّث الآخرِ مجهولِ الهويّة بقوله: مشكور يا حبيب، ومارح ننساك، حقّك محفوظ..
ثم التفتَ إلى الرّجل الذي كانتْ عيناه تدوران في الزوايا والسقف، متخيّلاً ابنَه خلدون يأتيه من كل زوايا الغرفةِ أو يثقبُ سقفَها ويتدلّى كالثّريا، ليحتضنَه بعدَ غياب، ثم قالَ للرّجل:
– شوف يا حجّي، ابنك طيّب، وموقوف في سجن صيدنايا، وربّما يتمّ إطلاقُ سراحه في المستقبل، وأكتر من هيك آفيني أحكي أو أعطيك أيّة معلومات.
لملمَ الحجّي نفسه، ونهضتِ المرأة برفقة أخيها مغادرين، وقد حصَلا على ضوءٍ في نهاية النفقِ المظلم، ورجعا للقرية بالبشارة..
دار الزمن دورته، وفي عام 1995، وبعد اثنتي عشرة سنة من الاعتقال تمَّ إطلاق سراح (خلدون المسحّراتي)، بمَكرمة عفوٍ من السيد الرئيس، وقد اشترطوا عليه خلال استقبالِ المُهنّئين بسلامة خروجه عدّةَ أشياء منها:
وضع صورة الرئيس القائد، وعلم الجمهورية العربية السوريّة على بابِ البيت، وعدم الكلام نهائياً عمّا رأى في السجن، تحت طائلةِ إعادةِ اعتقاله دون خروجٍ هذه المرّة.
أجل! عاد معتقل الرأي (خلدون المسحّراتي) بشكلٍ يشبهُ البشر، يحمل في جسمهِ عدّة أمراضٍ مزمنة، محطّم الجسم والنفس والروح والطموح، لكن الآلاف غيرَه لم يعودوا حتّى الآن، ومع طولِ الصمت ومأساة الحالة قلت في نفسي:
في بلادي يكونُ أَدهى العَجَبْ
بينَ ظُلُماتِهم وَلمعِ الذَّهبْ
كيفَ للنّاسِ أنْ يُذَلّوا جَهاراً
وَلا يُشعِلوا ثورةً مِن غَضَبْ؟
*****