Views: 3
الحكاية السادسة 6 رمضان 1446 هجري..
(راس الرئيس):
شهر شباط (فبراير1993) كان يوافق شهر رمضان 1413 هجري، والصيامُ في الشتاء سهلٌ لبرودة الطقس وقِصَرِ ساعات النهار، وفي بلديّة قريتنا (كفرسجنة) موظفٌ مجتهدٌ خلوق اسمه (محمد خير الرمضان)، يعمل بوظيفةِ مساعد فني للمكتب الهندسي، ويحفظ مخطّط القرية وشوارعَها وأزقتها ومخالفاتِها عن ظهر قلب، يأتي مبكّرا للقرية من خلال الباصات التي تصابحُ معرة النعمان بالجُبن واللبنِ والبيضِ، وفي آخر نقلةٍ لتلك الباصات القديمة المهترئة يغادرُ القريةَ قافلاً للمعرة، محبوبٌ من موظّفي البلدية فينادونه (أبو الخير) ومعروفٌ من كل أهل القرية بأدبِه وقلّة كلامه وإتقانِ عمله وعفّة نفسه.
هو بطلُ حكايتنا اليوم، فقد كان ممتلئَ القوام، أصلع الرأس، يلفّ عنقَه وكتفيه بلفّاحةٍ صوفيّة، يتقّي بها لسعاتِ البرد، وفيما هو جالس في غرفتِه، وفوق رأسِه رفٌّ خشبيّ، عليه تمثالٌ رأسيّ فقط لرئيس سوريا آنذاك (حافظ الأسد)، يشبه الصورة الموضوعة على ال 25 ليرة المعدنية سابقاً، وفجأةً دون سابق إنذار وقعَ الرفُّ وأحدث رأسُ التمثال في رأسِ (أبي الخير) شرخاً دامياً وجُرحاً عميقا، حيث هرع برفقةِ زملائه إلى عيادة طبيبِ القرية، فقام بحلٍّ إسعافيّ لوقفِ النزيف وخياطةِ الجرح، وطمأنهم بأنَّ الجرحَ في (الصلعةِ وفروة الرأس فقط)، وأن الجمجمةَ سليمة، والرجلُ بخيرٍ ولا خطورةَ عليه.
لم يفطر (أبو الخير الصائم) رغم نزفِه، فقد احتسبَ أجر الصيام والصبر على الله، وغادرَ من فورِه لبيتٍه في المعرة، ليستريحَ في إجازة مرضيّة لثلاثة أيام..
كان دمُه في غرفتِه وعلى ثيابه وفي السيارة، وعلى بلاطِ عيادة الطبيب، والاتصالاتُ تتوالى للاطمئنان عليه، وانتشرتِ القصةُ في القرية وفلّاحيها وموظّفيها ومعلّميها وطلّابها، والجميعُ حزينٌ لِما حلّ بهذا الرجلِ الطيّب، لكنَّ أحداً لم يجرُؤ على ذكرِ سببِ هذه الإصابة، لأنّ مجرّدَ ذكرِ السبب يجعلُ قائلَه في خبرِ كان، فلا يعرفُ مكانَه دواهي الإنسِ ولا شياطينُ الجان، وهل يجرؤ أحدٌ على توجيهِ اللّومِ لرأس الرئيس؟؟
في ذلك الوقت كانت أيّة مدرسةٍ أو بلديّة أو دائرةٍ حكومية ليس فيها (ذلك الرأس/ الصنم)، ناقصةً ومن غير ولاءٍ وانتماءٍ للوطنِ وقيادته (الحكيمة والشجاعة)، وكان على رؤساءِ الدوائر شراءُ (ذلك الرأس الغالي) بمبلغٍ وقدره، من ميزانيّة الدائرة، وربما هناك اختلاساتٌ وعجزٌ في الميزانية، فتكونُ فاتورةُ شراءِ رأس الرئيس طوقَ النجاة للّصوصِ ومختلسي المال العام، وتحتَ هذا البندِ في فواتيرِ النفقات، لا يجرؤُ (أخو أخته) على التّدقيق المالي والتفتيش القانوني.
حين تماثلَ أبو الخير للشفاءِ رأيتُه في الباص خلالَ ذهابي للمعرّة، وكان جلوسُه بجانبي، فقلتُ له مازحاً:
– ألن تشتكيَ للمطالبة بالتّعويضات.
– وحّد الله يا أستاذ، على مَن سأشتكي؟
– على رأس الرئيس؟ فهو سببُ إصابتِك ونزيفِك..
– استرنا الله يستر عرضك.
سادَ الصمتُ مع ضحكةٍ مكبوتةٍ ثم قلتُ له: كلّنا بالرّوح وبالدم نفتدي الرئيس، ويا ستّ أم كلثوم فداكِ خمسين حمار، فقال مبتسماً خائِفاً: وما علاقة أمّ كلثوم بالموضوع؟ قلت له:
أحدُ فلاحي مصر جاء للقاهرةِ كي يبيعَ حمارَه، ويساهمَ في كلفةِ زواجٍ ابنه، ولمّا باعَ الحمارَ وقبضَ ثمنه، رأى الناس تتزاحمُ على شبّاكِ التذاكر لحضورِ حفلةٍ غنائيّة للستُ أم كلثوم، فما كان منهُ – وهو الشغوفُ برؤيتِها وسماعِها- إلا أن دفعَ ثمنَ الحمارِ لقاءَ التذكرة، ودخلَ لحضور الحفلةِ واستمعَ و(سلطَن)، وخلالَ التصفيق بين فقرتين من الأغنيةِ كانت الهتافات:
عَظَمة على عَظَمة يا ستّ، بصّ شوف سومة بتعمل إيه، فكانَ الرّجلُ يرفعُ يديهِ وصوتَه ليقول: فداكِ خمسين حمار يا ستّ أم كلثوم، فضحكَ (أبو الخير) حتى سمعَ كلُّ مَن في الباص ضحكتَه دون معرفةِ السّبب، وتوسّلَ لي أن أكفّ عن ممازحته التي (تخرب البيت)، ولمّا وصلنا المعرّة تركَني مغادراً الباص، فقلتُ في نفسي:
الرأسُ غالٍ فهو رأسُ القائدْ
يا شبهَ أصنامٍ وأنتَ العابِدْ
اللهُ يشفي كلَّ جرحٍ نازفٍ
هيهاتَ جرحُك أنْ تفيه قَصائِدْ
*****