Views: 3
(سيادة المحافظ):
أوّل شتاء عام 1995 كانت قريتُنا الوادعة (ركايا كفرسجنة) على موعدٍ مع قدوم محافظ إدلب و(كوكبةٍ المسؤولين)، من أمين فرع حزب البعث، ومدراء الدوائر المهمّة وأعضاءِ المكتب التنفيذي للمحافظة، وذلك بهدف افتتاح (تدشين) المدرسة الإعداديّة جنوب القرية، حيث تم الانتهاء من بنائِها، ومن عادة المسؤولين افتتاحُ مثل تلك الأبنية والمشاريع في (زيطة وزنبليطة)، و (هوسة وحوسة)، بالتّزامن مع إحدى المناسبات الوطنيّة أو الحزبية، وما أكثرها في أوراق التقويم!!!!
جاء الموكب، و(عقدت الجماهيرُ حلقاتِ الدبكة والرقص الشعبي، ورفعتِ اللّافتات التي تحمل عباراتٍ وطنيّةً، تمجّد مسيرةَ البناء والعطاء، وردّدت الهتافات التي تحيّي الحزبَ والقائد)، هذا الكلام كان لازمةً في نشراتِ الأخبار وليس من تأليفي.وتمّت إزالةُ الستارةِ عن اللوحة التي تؤرّخ للحدث وتحمل اسم الرئيس حافظ الأسد بالخطّ الفارسي الكبير، واسم محافظ إدلب (…..) بخطّ الرقعة في قياسٍ أصغر، وتقاطرَ الوجهاءُ والطامحون للقاء المسؤولين، وبعضهم كان منذ أسبوعّ قد جهّز رسالة مطالبٍ لتسليمها للرفيق المحافظ عساه أن يتعطّفَ ويرقّ قلبُه لتنفيذِها.
مسحُ القرية ورسم مخطُط تنظيمي لها، مدّ طريق معبّدة تربط القرية بجاراتِها، لإنهاءِ معاناة غبار الصيف وَوحلِ الشتاء، خطوط هاتف أو خطّ هاتف للعموم على الأقلّ، إحداثُ مستوصف صحيّ للرعايةِ الأوليّة…..
كل تلك الطلباتِ كانت في رسائلَ موضوعةٍ بمظاريف عليها عنوان (من أهالي قرية الركايا)، وبعضُهم أرفقها برسائلَ خاصةٍ، كتأجيل قسطِ الجرار، أو إطالةِ أمد القروض الزراعيّة، أو قبولِ ابنه في وظيفةٍ براتبٍ يسترُ الحال، وفي نشوةِ (العرس الجماهيري الوطني) طلب السيد المحافظُ الهدوءَ ليتكلم، كان (المايكرفون جاهزاً) ومكبّر الصوتِ الذي استعرناه من مدرسةٍ مجاورةٍ (مهمّةّ أكثر منّا) يترقّبُ كلمةَ سيادته، فقال ما معناه:
في الخطة الخمسية الحالية لا توجد مشروعاتٌ لقريتِكم، غير هذه المدرسة وقد أنجزناها، لكن وفي الخطة الخمسيّة القادمةِ سوف نهتم بكم وندرج في الميزانيّةِ بعضَ الطلبات التي تلبّي احتياجَ المواطنين في هذه القرية الجميلة الطيبة…
وتقدّم مختارُ قريتنا خالي محمود محمد الدرباس – رحمه الله – ليسلّمَ المحافظَ تلك الرسائل الورقيّة التي فيها طلبات أهل القرية، فأخذَها منه بابتسامةٍ (ساخرة ماكرة) وأعطاها لمرافقهِ الذي كان وراءه، وبعد نهاية الحفل غادر قريتَنا الموكبُ الميمون (بمثل ما استُقبلَ به من الحفاوة والفرح والمحبّة)..
وقبل مغيبِ ذلك اليوم الشتويّ البارد، كان جارنا (……) -رحمه الله – الذي لم يحضر ذلك الحدث الجلَل وفضّلَ أن يرعى غنماتِه في البراري شمال القرية، رجعَ وهو ينادي عليّ بصوتٍ متلهُف:
– أستاذ عبد!! أستاذ عبد..
– خير؟ ليش ما شفناك بحفل تدشين المدرسة مع المحافظ..
– (مدّ يده نحوي) لقيت هدول المظاريف جنب الطريق شمال الضيعة، ومبلُلة بالوَحل..
مدَدتُ يدي كالذي يمدّها نحوَ جحرِ أفعى سامة، وقد ارتعشً جسدي وزُلزلتْ أفكاري من هولِ الصدمة، يا الله! إنها رسائلُ أهلِ قريتنا، رماها (الوغد) في الوحلِ والمطر، بعد مغادرته القرية، شكرتُ الراعي الطيّب ودخلتُ البيتَ لأقترب من المدفأة وأفضّ تلكَ المظاريف وأعيد قراءتها بصمتّ وضحكةٍ أتخيّلها وصلتْ مكتبَ المحافظ بإدلب الذي يبعد عن قرينا 70 كيلو متر، أو بصرخاتٍ ترنّ في القصرِ الجمهوري بالعاصمة دمشق التي تبعد عن قريتنا 300 كيلو متر، وقررتُ كتم السرّ كي لا يقتادني وطاويطُ الليل إلى (بيت خالتي) إن نشرتُ الخبر.
لكنّي الآن أبوح بالسّرِ وأذكّر أهلَ قريتنا بالخطة الخمسيّةِ الجديدة التي ما جاءتْ، ولساني ينشد:
أيُّها السَّاخِرون مِنْ حالِ أهلي
كَيفَ ألقَيْتُمُ الطُّموحَ بِوَحْلِ؟؟
أَنْتُمُ بِئْـسَ مَنْ خَلَـقَ اللّـهُ..
غَدرُ ضَبعِ الفَلا وَرَفْسةُ بَغْلِ
*****