Views: 4
الحكاية الخامسة عشرة 15 رمضان 1446 هجري (مجالس عزاء):
ذاتَ شتاءٍ وفي شهر كانون الثاني (يناير 1994) توفي (باسل الأسد) النجل الأكبر للرئيس حافظ الأسد، وذلك – كما قالوا – في حادث سير، على طريق مطار دمشق الدولي، وحتى الآن يبدو الأمر عادياً فالرؤساء يموتون، وأبناؤهم يموتون، فهم في نهاية الأمر (بشر مثلنا) ولكنّ الأقدارَ جعلت بعضَ البشر َحكّاماً وبعضهم محكومين، لكن الأمرَ غير العادي هو ما رافقَ الحدث من مفارقاتٍ لا يمكن نسيانها.
كان المذيع الذي تكاد تدمع عيناه، والمذيعة التي وضعتْ من المكياج أقلّ ما يمكن، يجدونَ صعوبةً في لفظ اسم المتوفّى، لأنّ البروتوكول الإعلامي يقتضي أن يقولوا قبل اسمه:
(الرائد، الركن، المظليّ، المهندس، الفارس الذهبيّ، الشهيد…)
أمّا أجهزة الأمن المنتشرة في كل بلدةٍ ومدينة، فقد ألزمتْ مخاتيرَ الأحياء والمسؤولين والمدارس بإقامةِ مجالس عزاء لمدة ثلاثةِ أيام، ويتوجّب على الحضور أن يكونوا متجهّمي الوجوه، ولا بأس ببعضِ الدموع، أمّا أئمة المساجد فكان لزاماً عليهم وضعَ تلاواتِ القرآن الكريم في مكبّرات الصوت، لثلاثة أيام أيضاً، في حين كانتْ تلك المآذن تصدح لثلاثِ ساعات فقط، خلال موت أحد سكان القرية حتى لو كان الميتُ (المختار بذاته، أو أبو زيد الهلالي).
في المدنِ انطلق عناصر الأمن للتأكّد من إغلاق المحلات التّجارية، حِداداً وحزناً على (فقيد الوطن والأمة) و (يا ويله وسواد ليله) صاحب المحل المفتوح، فهذا يعني عدم حزنِه على الفقيد، الأمر الذي يستدعي (شحطةً مُذلّةً) إلى أقرب مفرزة أمنٍ ليخرج منها بعد أيام (ومقاس قدمه 55 ولا يعرف الجمعة من الإثنين)، في حين كان من الفرضِ اللازم تعليقُ صورة (الرائد الركن المظلّي، المهندس الفارس الذهبي الشهيد) في وسائلِ النقل والدوائر الحكوميّة، مع عبارة شاعريّة بالخط الأسود العريض تقول: (وترجّـل الفارس)، مع استنفار طواقمِ وسائل الإعلام (المقروء والمسموع والمرئي) لنقل حزن الجماهيرِ على الفقيد الكبير، والوفود الرسمية التي جاءت إلى (القرداحة) لحضور الجنازة، أو العزاء، وفي الفواصل الموسيقية كان التلفزيون يضعُ لنا أغنية (يا دنيا راحوا الغوالي) من كلمات الشاعر عيسى أيوب، وألحان سهيل عرفة، بصوتِ الفنان وديع الصافي الذي لم يظهر على الشاشة، والظاهرُ فقط هو (المرحوم) يقفز الحواجزَ على صهوة حصانه، لكنني يومها سمعت من والدتي – رحمها الله – وهي لا تتدخل بالسياسة أبداً مثَلا شعبيّا قالت فيه: (الله يلحّق الحبل بالدلو).
كنتُ جالساً أشرب القهوة، في بيتِ أهلي وهو بيتٌ قديمُ الطراز يعود بناؤه إلى سنة 1923 في عهد مُلّاك أراضي قريتنا خلال الاستعمار الفرنسي، وفي الجلسة بعضُ الأهل والأرحام والجيران، لأن تلفازَنا (كانت شاشته متوسطةَ الحجم ملوّنة الصورة)، وفي نهاية موسمِ العزاء، كان الرئيس حافظ الأسد يجلس صامتاً يرتدي معطفاً شتويا سميكاً، وبعد تلاوة القرآن الكريم، وكلمات الحزب، والمنظمات الشعبية، جاء دور آل الفقيد لإلقاء الكلمة، فكان (خطيب القوم) هو بشار حافظ الأسد.
وقف الفتى وعمره آنذاك 29 سنة (مثل عمري)، وأخرجَ ورقةً كبيرة من جيب (جاكيت أسود طويل) وبدأ يقرأ وسط رياحٍ باردةٍ تلعبُ بشعر رأسه، وكلّنا آذان صاغية، فكسرتُ صمتَ الجلسة وقلتُ للحاضرين:
يا جماعة هذا رئيسنا القادم والله يكون في عونِنا.
غضبَ القومُ، واعترضوا، وكذّبوا مقالتي، وسفّهوا رأيي، واتّهموني بالحماقة والجنون، خاصة من خالي محمود الدرباس (أبو بشار) – رحمه الله – الذي قال لي وهو يرمقُني بعَينين فاحِصتين:
(هاد اللي طلع معك، ونحن نقول عنك ذكي)، فما كان في حسبانِ الجميع أن يكون الولدُ وريثَ أبيه في الرئاسةِ عام 2000، لأننا (جمهورية) ولسنا مملكةً وراثية..
انتهى العزاء، وصار القبرُ مَزاراً ومحجّاً (للرفاق) من كل أنحاء البلاد، وانتشرت التماثيل (الرخامية والبرونزية والنحاسية) للشهيدِ الباسل في كل البلاد، وتمّ إطلاق اسمه على المرافِق والحدائق، والشوارع والمعسكرات، والملاعب والميادين، والمعاهد والصالات، والمطارات والمنتجعات، والمسابقات والمهرجانات، أمّا (زيارة الضريح) فقد كانت تعطي لصاحبها ميزةً عاليةَ المقام، تؤهله ليتبوّأ المنصب المناسب.
صدقَ ظنّي الذي استنكرَه الأهل، وتوفي الرئيس حافظ الأسد، (لحقَ الحبل بالدّلو)، فصارَ الفتى رئيساً صيفَ عام 2000، فأعادَ سوريا بنصفِ سكانها ودمارِ عمرانها، وزلزالِ أركانِها، وهدمِ بيتَنا التاريخيّ، ولن أطيلَ عليكم، لأنّ بقيةَ الحكايةِ معروفةٌ عندكم، لكنّي لا أستطيعُ كتمانَ بيتين من الشِّعر أقولها في نفسي:
ماتَ ابنُ الرّئيسِ وَالحُزنُ عَمّْ
وَسَرى في البلادِ صَمْتٌ وَعَتـمْ
يَحسَبـونَ الشُّعوبَ قِسـْمَةَ إِرثٍ
أَلْفُ كَلّا وَلا، ثُمَّ لَنْ، ثُمّ لَمْ
*****