Views: 2
الحكاية الرابعة عشرة 14 رمضان 1446 هجري (يوم على يوم):
منذ أن كنا أطفالاً ونسمع الراديو، كان يلفتُ انتباهَنا ذلك الصوتُ الرجوليّ المدوّي، فنصغي له بفضولٍ ونحفظ أغانيه، وندندن بها، مع فتح سقف حلقِنا أكبر ما نستطيع عسى أن نقتربَ من تقليده، إنه فهد بلان (أبو طلال) ابن جبل العرب الذي طافَ بالأغنية السوريةِ كل أرجاءِ الوطن العربي، وحين كنتُ في الصف الرابع، حفظتُ له أغنية (واشرح لها)، بكلماتِها ولحنها الشعبي الطروب، لكنّ العلاقةَ انتقلتْ للمشاهدة الحقيقية، ذات مساء صيفيّ عام 1981 في الحي الشرقي من مدينة السويداء (المَقْوَس) حين كنتُ هناكَ، قرب عين ماء عذبة، وفيما نحن كذلك وإذ بسيارة (كابرس) سوداء اللون، تتوقّف وينزل منها رجلان اثنان مبتسمان، أحدهما يتأبّط عوداً، فاجتمعنا حولَهما، وعرفنا من (أهل الخبرة) الذين كانوا يشاهدون التلفزيون، أنّ هذا الفنان فهد بلان ابن بلدة (مَلَح) من محافظة السويداء، وذاك الذي يحملُ العود هو الملحّن عبد الفتاح سكّر.
تركتْ الصبايا قواديسَها فارغة، وطلبنا منهما شيئاً من الغناء، بعد أن أحضر أحدُ أهل الحيّ صينيّةً من فواكه السويداء الشهية (عنب، مشمش، درّاق، تفّاح)، وغسلها من مياه العينِ المتدفقة، غنى أبو طلال للحضور: (لأركب حدّك يا الموتور، واشرح لها، تحت التفاحة..) وقبيل غروبِ الشمس، قام الرجلان للسيارة وركبا فيها وغابا في طريقٍ طويلةٍ وبقيت الذكرى..
في ذاك الصيف من العام نفسه، ذهبنا إلى (القريّا) في ورشةِ عمل يدويّ، وبعد إنهاء مهمتِنا طلبنا السلام على (الباشا) سلطان، قائد الثورة السورية الكبرى، ووصلنا دارته، فاسقبلَنا المقرّبون منه بالترحاب وأوصونا بعدمِ إطالة الجلسة لأنه مريض، وتمّ اللقاء وفرحنا بلقائهِ ومصافحتِه، وقال لنا حين عرّفناهُ بأنفسِنا:
نحن وأهل إدلب وكل سوريا أشقّاءُ الدمّ والوطن، وشربنا القهوةَ العربية في مضافته التراثيّة الواسعة..
ودارتِ الأيام وصرنا في ذات ربيع من شهر نيسان (أبريل 1996)، وعدتُ إلى السويداءِ ضمن وفد محافظة إدلب، للمشاركة في النشاطاتِ الثقافية الموازية لمهرجان الطلائع في السويداء، فأقمنا لقاءاتٍ جماهيريةً مفتوحة في مدينة السويداء (مدرسة بورسعيد)، وفي بلدات (شهبا، الكَفر، سهوة الخضر، بوسان، عريقة، السّجن، المزرعة، قنوات)، ورأينا من الطيب والكرم والجَمال ما أدهشَنا، وكانت قصيدتي (من هنانو إلى سلطان) أيقونةَ هذهِ اللقاءات، فيعتلي التّصفيق، وتبدأ (الجوفيّات) التراثيّة بشكل تلقائي ليتفاعل معها الحضورُ بما يسرّ العينَ ويبهجُ القلب.
في الليلة الختامية للمهرجان وبعدَ رغباتِ من وفود المحافظات للجهات المسؤولةِ في السويداء، أفرحونا بحضور الفنان فهد بلّان لمسرح المهرجان..
كان مريضاً مرتعشَ الأطراف، تبدو عليه علامات الإنهاك، لكنه رغم ذلك وقفَ على المسرح مستنداً على عكّازتين: إحداهما عصا لامعة أنيقة، والأُخرى فتاةٌ باهرةُ الجَمال من جبلِ العرب، كانت تعينُه في الحركة، ثم قيل لنا إنها حفيدتُه التي تحرص على مرافقةِ جدها.
غنى لنا: (يا سالمة، يا طير وناشدك بالله، يا ساحر العينين، ثم طلب الجمهور أغنية: يومٍ على يوم)، فبدأ بموّالها ثم انطلق بها إلى أن وصلَ إلى مقطع (عالبال بعد يا جبل حوران/ شرشف قصب ومطرّز بنيسان)، وتهدّج صوتُه، ووقف عن الغناء، وأجهشَ بالبكاء، وهو يلوّح لنا بيده التي لا تستند للعكاز، ونزل عن المسرح دون أن يكملَها.
توفي (أبو طلال) في 24 كانون الأول (ديسمبر 1997)، وتوفي سلطان باشا الأطرش في 26 آذار (مارس 1982)، وبقيت الذكرى في البال لا تذبل، رغم عدم وجودِ صوري التي توثق تلك الذكريات، حيث كانتِ الكاميرات شيئاً من (غير الممكن حضوره).
لقد أحببنا أغاني فهد بلان، ومواقفَ سلطان باشا الأطرش قبل أن نعرف انتماءَهما لطائفة الدروز، فالانتماء لسوريا أكبر من أي انتماءٍ عرقي أو مذهبيّ أو مناطقيّ، فيا أيها السوريّون جميعاً احذروا وحاذروا اللعبَ بالنار والعزفَ على وتر الطائفيّة البغيضة.
مناسبةُ هذه الحكاية، أن بعضَهم يحاول الإساءة لجبلِ العرب والسويداء من خلالِ التناغم مع الغطرسةِ الإسرائيلية، وتصريحاتِ الفتنة التي تحاول فيها حكومة العدو أن تبدو بمظهرِ الدفاع عن (الأقليات في سورية) وتخيفَها من الحكم الجديد (الأكثرية السنيّة)، وهي التي تذبحُ أهلنا في غزّة وفلسطين، وقد قتلَت من السورين (من كلّ الطوائف والأعراق) عشراتِ آلاف الشهداء في المواجهاتِ العسكرية وقصف المدنيّين، وهذه الفتنة -مع الأسف- انقادَ لها (بعض من ضاق أفقُهم) من أهل السويداء فحسبوا السرابَ ماءً، وردّ عليهم بعض السوريّين بشيطنةِ أهلِ جبل العرب جميعا، وكلا الفريقين مخطئٌ أحمق، يزرعُ فتيلَ اللّهب قرب خزّانِ الوقود في شهور الصيف، وهنا أقول:
لا الطائفيّةُ طبعُنا طولَ الزّمانِ
والحُبّ في وَطني أَساسٌ للأَمانِ
كونوا على الوطنِ الجميلِ غَيارى
فَالـسُّـمُ بَصقُ نُعومَـةِ الثُّعبانِ
*****