Views: 2
الحكاية السادسة عشرة 16 رمضان 1446 هجري
(محاولة اغتيال):
شتاء عام 1985 كانت المنافسةُ على أشدّها، والمعركةُ حاميةَ الوطيس بين المسؤولين و(الرفاق البعثيين) لرفعِ شأنهم وتبييضِ صفحتهم لدى القيادة الرشيدة، فالوقت يمرّ سريعاً، والمؤتمرُ القطريّ للحزب على وشك الالتئام في دمشق، ويجبُ (القفز فوق الأكتاف والأساطيح) في سبيل الوصولِ لمنصبٍ أعلى أو البقاءِ في الوضع الحالي على أقلّ تقدير.
قرأ (الرفيق) قصةً من الأدب الروسي، عن شخصيةٍ ذكية هدفُها التسلّق وافتعالُ المشكلات، للوصول للهدف، فراقتْ له وأرادَ أن يطبّقها، فنادى حارسَه وسائقَه، والتقى بهما في مكانٍ آمِن وهمسَ لهما:
– غداً يجب أن تغتالوني..
اصفرّت الوجوهُ وارتجفتِ الأصابعُ، ولكنّه طلبَ منهمُ الصمتَ حتى يكملَ خطته فقال:
الرفيق فلان (أخو الــ…..) أقوى منّي، ومن المحتملِ أن يذهبَ للعاصمةِ ويحضرَ المؤتمرَ ممثّلاً عن منطقتِنا، وأنا مازلتُ على الهامش، وبصراحةٍ أخاف أن يذهبَ مني المنصِبُ، ويأخذوا مني السيارة، وأعودَ موظّفاً مُهملاً، لذلك يجب عليكما أنْ تكمنا لي في الطريقِ معَ غيابِ الشمس، وأنا عائدٌ من مكتبي للبيت، وتطلِقا النارَ بكثافةٍ صوبَ السيارةِ التي أقودُها بنفسي، ثم تركبا درّاجتَكما الناريّة وتعودا للبيتِ من زقاقٍ مهمل، وكأنّ شيئاً لم يحصل…
– يا إلهي! ما أشجعَك يا رفيق!
– شجاعة مين يا بغل؟ أنتَ تطلقُ النارَ (رشّاً) في الهواء، ثم تسدّد طلقتين (دِراكاً) على مؤخّرة السيارة، فتثقبُ حديدَها أو تكسرُ مصباحَها الخلفيّ، ولن أنسى فضلَك، إن (ظبطتْ العملية ومشي الحال) ستكونُ المُرافقَ الشخصيَّ لي في منصبي الجديد، وإلاّ أقسمُ (بشرفي ومعتقدي) سوف تعودُ كما كنتَ ناطوراً لكرمِ الفستق ليس حولك إلا (الكوخ والفراغ ونباح الكلاب)
في أمسيةٍ باردة قامتِ الدنيا ولم تقعد، سياراتُ الشرطة والمحامي العام والتحقيق وأجهزة الأمن والرفاق (الأنصار والعاملون)، والكارِهون والمحبّون، متناثرون بين مكانِ محاولة الاغتيال وبيتِ (الرفيق) لتهنئتهِ بالسلامة، والخبر على كل لسان:
المجرمون أذنابُ الرجعية وعملاءُ الاستعمار يحاولون اغتيال (الرفيق…) لأنه رمزٌ وطنيّ بارز، وشخصيةٌ قيادية محبوبة..
مرّ أسبوعٌ والمسؤولون يتقاطرون من كل أنحاء المحافظةِ للتهنئة بالسلامة، وجاءَ اتصال من أحد (الرّفاق الكبار في العاصمة دمشق) للتهنئة، مع وعدٍ غيرِ مكذوب بأنّ القيادةَ لن تنسى تضحياتِ (الرفيق)، ومحاولةَ قتله من المجرمين (أعداءِ الله والوطن والشعب)، وسوف تخصّهُ بمنصبٍ أعلى بعد أعمالِ المؤتمر، وقد كانت حزمةُ المكاسب التي حصل عليها (الرفيق) بعد محاولةِ الاغتيال كثيرةً منها:
استراحةٌ لمدة شهر مع مكافأةٍ ماديّة تعادل راتب شهرين، ومنحوه بدلَ سيارتِه المكسورِ مصباحُها سيارةً حكوميّة (موديل سنتِها)، وزادوا له المرافقةَ الأمنيّة من واحدٍ إلى ثلاثةِ حرّاس، وطلبوا منهُ اختيار سائقهِ بنفسه، وَزكّوه ليكونَ عضواً فاعلاً في المؤتمرِ القطريّ العتيد، وحجزوا له منصباً رفيعاً في الحكومة القادمة، لقاء الخطورةِ التي تعرّضَ لها خلال أداء (واجباته النضاليّة)، التي كاد أن يفقدَ فيها حياتَه ويصبح شهيداً من فئة (أكرم مَن في الدنيا وأنبل بني البشر).
ذاع صيتُه في الآفاق، ولهجتْ باسمهِ الألسنة، وصار أيقونةً نضاليّة في مسيرة (الحزب القائد) وبدأتِ الأكتاف تتزاحمُ كلَّ ليلةٍ على باب منزله، الذي نصبوا جانبَه بيتاً خشبياً صغيراً للحراسةِ طيلة 24 ساعة، أمّا الهدايا والرّشاوى من بطانيّات وخواتم ذهب، وأجبان وألبان وأصواف وعسل، و(خواريف محشية جاهزة)، ومظاريف منتفخة بالليرات، فقد كانتْ تمطرُ بين يديهِ كالغيثِ الربيعيّ الدَّفّاق.
كان (الرفيق) – والله يشهد – يعطي نصيباً منها (للمجرمَين) لأنهما نفّذا تمثيليّةَ محاولةِ الاغتيال، ليعيشا في (بحبوبة) لقاءَ حفظ السرّ، الذي قاما به بين رغبةٍ ورَهبة.
أتذكّر محاولةَ الاغتيال تلك، وأضحكُ بصوتٍ عالٍ دون أن يعرفَ المحيطون بي سببَ ضحكتي، ثم تدورُ الكلماتُ لأقول في نفسي:
أَطلِقوا النَّارَ كي يَصيرَ وَزيرا
لَيسَ عَدلاً بقاؤهُ مَغمورا
هَكَذا الحُكْمُ، عِندَ شَعبٍ جَهولٍ
كانَ يَوماً على الطُّغـاةِ صَبورا
*****