Views: 2
الحكاية السابعة عشرة 17 رمضان 1446 هجري..
(ألو أبو محمد):
الأمريكي من أصل أسكتلندي (ألكسندر غراهام بل 1847 – 1922 ميلادي) له فضلٌ كبيرٌ على الإنسانيّة لأنه اخترعَ الهاتف، وأنا هنا لن أتكلّم عنه، ولكني سأتكلم عن هاتفِنا.
سمعتُ أن هناك تسجيلاً على خطوطِ هاتف أرضيّ في مركز بريد منطقة معرة النعمان، فجئتُ من أعماقِ قريتنا الوادعة لأسبقَ غيري وأسجّل كبقيّةِ عبادِ الله (الصالحين وغير الصالحين)، وذلك ذات نهارٍ صيفيّ من عام 1986 ميلادي، وبعد إبراز هويتي الشخصية تأكَّدوا أنّي مواطنٌ (عربي سوري) دفعتُ خمسين ليرة ( دولار ونصف)، وأعطوني إيصالَ التسجيلِ ورقم الطلب فاحتفظتُ به كوثيقةٍ ثمينةٍ يجب ألا تضيع.
لم تكن حاجتي للهاتف ضروريّةً فالقرية كلها ليس فيها هواتف، والقريّة الأم (كفرسجنة) ليس فيها إلا خطّ هاتفٍ للعموم في منزل (المختار أبو فواز) رحمه الله، وفي أحسنِ الحالات لا يعمل…
حين زادتِ الحاجةُ للهاتف في حياتِنا كانت استعانتُنا بالأصحابِ في القرى التي حولنا ضروريّةً، إذ كنا نذهبُ إليهم للزيارة ثم نتصل (على حسابهم)، وحين سافرَ أخي محمد (أبو قتيبة رحمه الله) إلى دولةِ الإمارات للتدريس فيها، كنا نذهبُ إلى مدينة خان شيخون أو معرة النعمان لسماعِ صوته من خلال الهاتف، فنعود وعلى وجوهِنا نشوةُ استخدام التقدّم العلمي وعلى ثيابنا غبرةُ (منجزات الوطن).
الأمور في التنمية باردةٌ، ويأتي محافظ ويذهبُ وزير، ولا (ثوب خيش ولا قميص حرير)، ثم غادرتُ سوريا للعملِ في الشارقة، ولا جديد بخصوصِ الهاتف، فكان عليّ إيصالُ الرسائل الصوتية لأصحابي في المدن، ويخبرونَ بها أشقّائي حين يزورونهم.
جاء عام 2004 بعد أن (وجدَ الأعورُ عينه) وصار هناك مركز للهاتف في قريتنا الأم (كفرسجنة)، يبدأ بالنداء (585)، وبعد سنوات تمّ إدراج قريتي الوادعة (الركايا) بخدمةِ الهاتف، فأوصيت أهلي بإخراجِ (الكنز المدفون) وتسليمِ الإيصال للحكومة الرشيدة لتخصيص رقم هاتف لي، وفي (واسطة ثقيلة) تمّ تخصيص رقمي (585700)، وانطلقت كلمة (ألو) من بيتي الجميل لتغرّد في فضاء الدنيا.
بين عام 1986 الذي شهدَ التسجيل على الهاتف، وعام 2004 الذي شهد كلمة (ألو) ثماني عشرة سنة، فهل رأيتم سلحفاةً أبطأ من هذه؟؟ وهل سمعتُم بشخصٍ سجّل على رقم هاتف فماتَ ولم يقل (ألو) إلا ورثتُه؟؟
لكن حين تعلّق الأمر بمافيات التّهريب وعصابات الضرائب وشركات الاتصال العائدة لزبانية الحكومة، أمطروا سوريا بأجهزةِ الهاتف المحمول، واستولوا على المباني الحكوميّة لتحويلِها إلى أبراج ودوائر تخصّ شركةَ (سيرياتيل وأخواتها)، دون أن يجرؤَ (عنتر بن شدّاد) على الاعتراض، وتحوّلَ قطاعُ الاتصالاتِ اللاسلكيّة إلى (بقرةٍ حلوب) تصبّ المليارات في جيوبِ الانتهازيين دون أن تستفيدَ الحكومة منها شيئاً..
الفصلُ الختاميّ المأساوي، أن ذلك الرقم توفيَ إلى رحمة الله عام 2012 مع بدءِ حملات القصفِ من البرِ والبحرِ والجوّ للسلاحِ (الأسديّ، الروسيّ، الإيرانيّ، الحزبلاتيّ، الميليشويَ الطائفي) على القرية، فنامتِ الأعمدةُ الواقفة وتقطّعتِ الأسلاكُ الموصولة، واحترق مركز الاتصالات، فلم يعد في الهاتفِ (دفء الحرارة)، ومن هَولِ الدمار (فقعَت المرارة)، ثمّ لم يعد هناك لي (بيتٌ ولا قرارة) وأصبحتِ القريةُ وما جاورها خَراباً يبابا.
أجل! مازلتُ أحفظُ الرقم الذي لن يجيبَني منهُ أحدٌ لو طلبتُه، ولم أعُد أسمعُ منه (صوتَها) فأحسُّ أنّ وطناً مُكتملاً في سمّاعةِ الهاتف، لكنَّ صوتَ رنينِه في البال، يَأبى الزّوال، من ذاكرةٍ تعانِدُ الاِضمحلال، حيث شاعرُها قال:
لَمْ نكُنْ نعرفُ مَعزوفةَ (ألو)
أو رنينَ الصَّوتِ أو بُرجَ الدّلو
ثمَّ جَاءَتْنا على اِسْتِحيائِها
آهِ يا (لَولا) وَيَا حَسْراتِ (لَو)
*****