Views: 4
الحكاية العشرون 20 رمضان 1446 هجري (معمل السكّر):
سوريا بلدُ الخيرِ والخصب والتنوّع البشري والزراعي، وفي كثيرٍ من مناطقِها تزدهرُ زراعةُ الشّوندر السكّري، الذي هو المادة الأوليّة لتصنيع السكّر، وبالقرب من مناطق الإنتاج، أقيمت منذ زمنٍ طويل معاملُ إنتاج هذه السّلعة الاستراتيجيّة، ومن أشهرها معامل (حمص، جسر الشغور، الرقة، سلحب)
تعمل تلك المصانعُ بِطاقةٍ إنتاجيّة ثابتة، لكنها في موسم الإنتاجِ الزرايّ (شهور فصل الصيف) تتطلبُ زيادةً كبيرة في عددِ العمّالِ والموظفين، فكانوا يتعاقَدون مع عمّالٍ موسميّين لتلكَ الفترةِ فقط، وبيتُ القصيد في حكايةِ اليوم مديرُ أحد تلك المعامل الحديثة التي يوضعُ على مدخلها صورتان (للأبِ والابن) وعبارةٌ بالخطّ العريض تقول: (اليدُ المنتجةُ هي العليا في وطنِ التقدّم والاشتراكيّة)، طافَ هذا (المديرُ الفهلويّ) القرى المجاورةَ (من المواطنين الفقراء) واتفقَ مع أكثر من 1200 من العاملين و(العاملات)، وأخذ صورَ بطاقاتِهم الشخصيّة، ونظّم لهم عقوداً مؤقًّتة مكتوبة، أمّا التفاهمات الشفويّة غير المكتوبة فكانت في مُجملِها تتلخّص في:
العمّال الحاضرون يأخذون نصفَ الأجر المكتوبِ في العَقد فقط، والعمّالُ الغائبونَ يأخذون ربعَهُ فقط، مع بعضِ اللّقاءات الحمراءِ للعاملات الجميلات إن كان لديهنّ (مِزاج).
وبموجب هذا الأمر كانت تُستنزَفُ من المال العام ملايين الليرات، ليصبَّ القليلُ منها في أيدي العمّال، ويذهبَ الكثيرُ إلى (المديرِ العام) مع حاشيتِه من المُحاسبينَ و(السماسرة والذي منّو..).
وعلى تلكَ الشاكلةِ انتشر في الدوائرِ الخدميّة مفهوم (الموظّف الوهمي)، الذي يكون مُسجّلاً على ذمةِ إحدى دوائرِ الدولة، وليسَ موجوداً بالحقيقة، ثم يأتي أول الشهر ليأخذَ راتبَه، مع مقدارٍ (مُتفقٍ عليه) للمدير المسؤول، أمّا في الجيشِ فهناك (التّفييش)، وملخّص المفهوم:
أنتَ عسكريّ لا تحضر للدوامِ أبداً، ورئيسُكَ الضابط يأخذ راتبَكَ ومستحقّاتك من اللّباسِ والغذاء، لقاء سكوتِه عن غيابِك، وعلى منوالِ ذلك الفساد، كانَ قربَ منطقتِنا غاباتٌ حراجيّة (أحراش) تحتاجُ لحارسين اِثنين، وسمِعتُ على (ذمّة الراوي) أنّ على قيودِ حراستِها أكثرَ من عشرةِ أشخاص، يأخذ راتبَهم أحدُ المدراء (عين الله تحرسه).
وقد روى (أحدُ الزّملاء من ريف اللاذقيّة) أنّ المدرسةَ الابتدائيةَ قريتِهم فيها ستةُ صفوف، ولكنّ عدد المعلمين فيها 23 معلّماً ومعلّمة، وأنّهم يدامون بطريقةِ (التّناوب) التي ينظّمُها (مدير المدرسة صاحب الختمِ المدوّر)، فيحضر ستةٌ منهم فقط للدوام كلّ أسبوع.
لذلك لا يستغربنَّ أحدٌ ما حصلَ من فصلِ أناسٍ من وظائفِهم، فالوظيفةُ التي تحتاجُ ثلاثةً تجدُ فيها ثلاثين، وهناك قوائمُ موظفّين لا يعرفون مكانَ عملِهم إلا حينَ استلامِ راتبِهم الشهريّ.
معاملُ السكّر كانت تنتج (السكّرَ الوطنيّ) ثم صارتْ تكرّرُ السكرَ الخامَ المستورَد، ثم توقّفت بسببِ توقّفِ النشاط الزراعي في الحرب، والسوريّون الذين علّموا العالمَ صناعةَ الحلويات بكلّ أنواعِها ونكهاتِها، تحوّلتْ حياتُهم إلى علقَمٍ وحَنظلٍ ومرارةٍ، وطال النّهبُ معاملَ السكّر وآلاتِها ومستودعاتِها، ليصبحَ استهلاكُ الأفرادِ من هذه المادة حلماً وحسرةً، أو في (كرتونة المساعدات)، أمّا أصحابُ النسبةِ العالية منهُ في دمِهم (مرضى السكّري)، فقد كان دمُهم الحلوُ الزكيُّ رخيصاً في بازارِ السياسةِ ومتعهّدي القتلِ (المعلوم والمجهول)، الذي مارستهُ على الشعبِ السوريّ ميليشياتٌ طائفيّةٌ عابرة، وجيوشٌ حكوميّةٌ غادِرة، ليكونَ السكّرُ مُلهِماً للكلماتِ فأقول في نفسي:
فَسادٌ على الإفسادِ في معملِ السكّرْ
وَلَن يكشفُ المَلعوبَ زِيرٌ وَلا عَنْتَرْ
وَما كانَ حُلْواً طَعمُهُ في حلوقِنا
ولكِنْ بنَزفِ الدمِّ أَو رُبَّما أَكثَرْ
*****