Views: 4
الحكاية الحادية والعشرون 21 رمضان 1446 هجري..
(سوق السُّـنَّة):
نصحني أحدُ أصحابي المخلصين أن لا أنشر هذه الحكاية، لأنّها – على حدّ زعمِه – تثيرُ النّعراتِ الطائفية، وتضعفُ الحسّ الوطني، ونحن نحتاج شفاءَ الجروحِ وتقوية (اللُّحمة) الوطنية، فأوضحتُ له رأيي بأنّي ناقلٌ للحقيقةِ دون زيف، موثّقٌ للجريمةِ دون تهاون، محبٌّ لوطني بكل مناطقه ومكوّناته، مطالِب بمحاسبةِ اللصوص والمجرمين أيّاً كان انتماؤهم.
هذا المصطلحُ شاع بقوةٍ وألمٍ خلال معارك الثورة السورية (2011 – 2024)، في بعضِ المدنِ السورية (حمص، دمشق، اللاذقية، طرطوس..) وبعض قرى الريف، وهو باختصار: مكانٌ مفتوح لبيعِ الأثاث المنزليّ المنهوبِ من بيوت المواطنين السوريّين (من أهلِ السُنّة)، بعد تهجيرِ أهلها، وهدمِها بمختلفِ صنوفِ الأسلحةِ الفتّاكة.
أبطالُها (جنودُ الجيشِ العربيّ السوري البواسل) ومَن حالفَهم من المقاتلين المَدنيّين السّوريين تحتَ مسمّياتٍ مختلفة، والميليشيات الطائفيّة التي جاءت من العراقِ ولبنان وإيران و….، فاستباحتِ المدنَ والقرى والمساكنَ، والمستودعاتِ والأسواقَ والمساجدَ، والمدارسَ والمشافي والمزارعَ، ونهبت محتوياتها، ثم نقلتْها لتلكَ الأسواقِ كي تبيعَها بأيّ ثمن، وتحصلَ على مبالغ نقديّة كغنائم حرب.
الأبواب والنوافذ، والأثاث الخشبي، والغسّالات والثلّاجات، والمكيّفات والأفران واسطوانات الغاز المنزلي، والمراوح وأجهزة التلفاز والحاسوب، والسجّاد والمفارش والبطانيّات والوسائد، حتى الثياب والملاعق والفناجين والصحون و(الطّناجر)، كلّها موجودةٌ، بعضها مستعمَلٌ، وبعضُها مازالَ في عبواتِه دونَ استعمال، وهذا يشكّلُ حافزاً للمستهلكِ والتاجرِ الذي سيشتري البضاعة (بتراب المصاري) ثم ينفضُ عنها غبار الحرب، وينفضُ عن ضميره غطاءَ الشرف والإنسانيّة والدِّين، ويستخدمُها أو يبيعُها بثمنٍ أعلى، وكانتْ تلك الأسواقُ بمسمّاها المُؤلم، وبضاعتِها الفوضوية، تحتَ نظرِ وسمعِ (الحكومة الرشيدة)، وذلك في قصدٍ منها لإرهابِ السوريّين إن هم فكّروا أن يقولوا للظالمين: كفى، لذلك آثرَ الكثيرون السكوتَ وانتظارَ النهايةِ دون أن يعرّضوا بيوتَهم للدمار، وأنفسَهم للقتلِ والاعتقال، وأرزاقَهم وممتلكاتِهم للسرقة، فيجدونَها في (سوقِ السُّنة).
ومن طرائفِ تلك الأسواق (وشرّ البليّة ما يُضحِك) سأروي حادثتين اثنتين:
الأولى: صيف عام 2007 جاءت موجةُ حرّ شديدةٍ لم تنفع معها المراوح، فتمّ تنظيم حملةِ تبرّعات في قريتنا لشراء 4 مكيّفات للمسجد، وتمّ التعاقد مع وكيلٍ معتمد لماركةٍ مشهورةٍ، فأعطانا تخفيضاتٍ وكفالةً، وركّبَ الفنيّون تلك المكيّفات، بعد أن وضعوا لصاقةً معدنيةً في سطحها الخلفي مكتوباً عليها: (جامع الأربعين في الرّكايا)، ودار الزمن دورتَه، وتهدّمَ الجامع بالغاراتِ الجوية الغادرة، وتمَّ نهبُ محتوياتِه بعد تهجيرِ أهل القرية، وانتهى الأمرُ بالمكيّفات الأربعةِ لدى تاجر أدواتٍ كهربائيّة من مدينة حماة، وقد أتى بها إليهِ جنديٌّ فقير كي يبيعَها لصالحِ (معلّمهِ الخنزير) الذي لا يريد كشفَ نفسه، وتمّ تصويرُ اللّصاقة للتأكدِ وإثباتِ الواقعة، ووصلني الخبرُ عن طريق أحدِ معارفي الموثوقِ بهم من مدينة حماة.
الثانية: أحدُ الضباط الذين اقتحموا مدينةَ (خان شيخون)، بعد تدميرِ معظمِها وتهجير كافةِ سكّانها، حكى لزميلِه الضابطِ المتقاعدِ من أبناء المدينة نفسِها، بأنّهم أرادوا وضعَ مَطبٍّ على الطريقِ الدوليّة المارّةِ من شرقِ المدينة، فلم يجدوا غير السجّادِ المنهوبِ من بيوت أهليها، فقاموا بمدِّ مئات قطعِ السجاد من مختلفِ القياساتِ والألوانِ فوقَ بعضها، لصناعة مطبٍّ يجبرُ السيّاراتِ العابرةَ على الوقوف للتفتيش.
تلك حكايةٌ من حكاياتِ الظلمِ الذي لن ننساه، ووجهٌ قذِرٌ للحربِ التي أردناها ثورةً لإزاحةِ الاستبداد والظلم، فأرادوها قتالاً طائفيّاً بكل صنوفِ الأسلحة ابتداءً بالسكاكينِ والسّواطيرِ وانتهاءً بالسلاح الكيماوي، وما بينهما من كل الأسلحة التي كنا نظنّ – واهِمين مَخدوعين – أنها مكدّسةٌ ضد عدوّنا الإسرائيليّ المحتل، لكنها كانتْ ضدّنا، لتجعلَنا بين قتيلٍ وسجينٍ ونازحٍ ولاجئٍ ومشرّدّ وجائع، ومنهوب، يرى أثاثَ منزلِهِ في أسواقٍ تحملُ اسمَ ديانته السَّمحة، فتطول الآه، وتمتدُ الصّرخةُ، (منَ الشّامِ لبغدانِ)، وترتعشُ الكلماتُ لأقولَ في نفسي:
افضحِ الأَمرَ في فَضا الأوراقِ
فالخِيـاناتُ في خَنَـا الأَسواقِ
سَـرَقوا سَدَّ جوعِهِمْ وَسْـط ذُلٍّ
حينَ نِلْنـا حُريّةَ الأَعنـاقِ
*****