Views: 4
الحكاية الثانية والعشرون 22 رمضان 1446 هجري..
(حديد أوكرانيا):
لا يخفى عليكم أنّ أهمَّ مادتين في البناء العمراني هما الحديد والإسمنت، والموظّف الحكومي البسيط، قد يمضي عشرَ سنوات في طريق بناءِ مسكنٍ يأويه، وقد سرتُ في تلك الملحمةِ صيف 1987، من خلال الشروع في بناء مسكنِ الأحلام، على قطعة أرض استراتيجيةِ الموقع بجانب بيتِ الأهل، وكانت مسيرةُ الإنجاز (سلحفاتيّة التقدّم) وبقيتِ الجدران واقفةً أربعَ سنوات، تبتهلُ لله ولي وتنتظرُ إكمالَ سقفِها.
مؤسّسات (العمران) التابعة للحكومة خاويةٌ من الحديدِ تماماً، وفيها مادةُ الاسمنتِ فقط، توزّعها الحكومة على المواطنين حسبَ رخصةِ البناء، أو وفقَ آليّةٍ بيروقراطيّةٍ ابتكرَها الألمعيّون من (شعبِنا الذكيّ)، حيث تتقدّم لمختارِ القرية بطلبِ شراء عشرةِ أكياس من الإسمنت (نصف طن)، وبعد (الختم المُدوّر) للمختار تأخذ الطلبَ للبلديّة، فيضعونَ للموافقةِ (ختماً آخرَ)، ثم تحملُ الطلبَ إلى الفرقةِ الحزبية، وهناك (يختمُ لكَ الرفيق) بخاتمٍ نضاليّ جديد، ثم تأخذ ذلك الطلبَ بأختامه الثلاثةِ إلى مؤسسةِ العمران، وتبرزُ (دون تشديد حرف الراء) بطاقتَك الشخصية، فيختمونَ الطلبَ بـ (ختمٍ مُفلطَح)، ثم تخضعُ للدَّور الذي قد يحينُ بعد شهرين أو ثلاثةِ لتستلمَ الكمية.
أمّا الحديد، فغيرُ واردٍ أن تحصلَ عليه من الحكومة، لأن (المهرّبين الكبار) من أزلامِ الحُكم، يستوردونهُ للبلادِ من أوكرانيا، فتنزله البواخرُ في الموانئِ الخاصة (غير الحكومية) وتبدأُ مافيات التّوزيع بنقلهِ للمحافظات، وبيعهِ للمُستهلِكين بالثمن الذي يحدّدونه، وهنا تأتي مهمّةُ دورياتِ الأمن والشرطة والجمارك، في ملاحقة الحديدِ ومُشتريه، لأنّ شراءَه جريمةٌ وطنية كبرى (تضرُّ بالاقتصادِ الوطني وتضعفُ السِّلَعَ المحلّيّة)، حيث تكون العقوبةُ مغلّظة في السجن والغرامة المالية، لكلّ مَن (يتعاطى مع الحديد).
ما العمل وأنا يلزمُني طنٌّ من هذا الحديد؟؟ لصبّ السطحِ الذي طالتْ شكواهُ من التأخير، فقررتُ المغامرةَ وشراءَ الكمية من أحدِ المهرّبين بالثمنِ الغالي، مع اشتراطِه بأنهُ غيرُ مسؤولٍ عن (البضاعة) بعدً تحميلِها في مقطورةِّ الجرارِ الزراعيّ الذي استأجرتُه لهذا الغرض.
كان الوقتُ موسمَ حصادٍ من صيف 1990، فوضعنا في المقطورةِ كميةً من قشّ الشعير، وبرميلينِ فارغين للتّمويه، ثم أخفينا الحديدَ تحتهما، وركبتُ دراجةً ناريةً لأكونَ (رائداً) أمامَ الجرّار، لنعبرَ به الوديانَ والطرقاتِ الوعرةَ الخطِرة، فأتأكدَ من خلوّ الطريق من أيةِ دوريّة حكوميّة.
تمَّ الأمرُ وأخفَينا الحديد ليلاً في إحدى المغاورِ القديمةِ القريبة، ريثما يتمُّ استعمالُه في صبّة البيت، وذلكَ خشيةَ المُفسدين والمُخبرين، (وما أكثرَهم حولَنا من أبناءِ جِلدتنا!!)
تذكرتُ مأساةَ الحديد، حين قرأتُ عن اتفاقيّة المعادنِ بين أوكرانيا وأمريكا، لتصدير الحديد الأوكراني للغربِ رغم مأساةِ الحربِ الأوكرانية الروسيّة، وطيلةَ الوقت كانتْ أفكارٌ وأفكار تدورُ في بالي:
– لماذا عليّ أن أدفعَ ثمن طن الحديد الأوكراني 30 ألف ليرة سورية، بينما تسعيرة الحكومة 12 ألف ليرة؟؟ والجواب: لا يوجد حديد لدى الحكومة.
– لماذا يسمحونَ بدخول بواخرِ الحديد تهريباً إلى الموانئِ غير الشرعيّة؟ ثم يجتهدونَ على طرقاتِ المدنِ والقُرى لمكافحةِ التهريب، فيصادرونَه ممّن اشتراهُ ليكملَ بناءَ بيتِه؟
كانت الأجوبةُ تهربُ مني (كالأرانب البريّة حين تسمعُ بندقيّة الصياد)، لكنّي مع كل تلكَ المغامرةٍ استطعتُ دفنَ الحديد الأوكراني في سقفِ بيتي وأكملتُ (الصَّبّة) واطمأنّ قلبي، وكتبتُ على زاوية السقف تاريخ 18/4/1991 ليكونَ شاهداً على الإنجاز، لكنّ تاريخاً آخر كتبتُه بدموعي وحسراتي حين هَدَمَتْ براميلُ (حُماة الدّيار) بيتي الهادئَ الجميلَ في 18/11/2019 ودمرتِ القريةَ كلَّها، ثم جاءَ (جنودُنا البواسل) وكسّروا السقفَ المُدمَّرَ بمطارقِهم اللئيمةِ ليستخرجوا (الحديدَ الأوكرانيّ) ويبيعوهُ مِن جديد، فتكتملُ دائرةُ اللصوصيّة من الشراءِ للبيع، وهذا ما صنعته أيديهم القذرةُ في آلافِ المدن والقرى من هذا الوطنِ المنكوبِ، الذي كان مزرعةً خاصةً لإجرامِهم، وقطيعاً يحلبونَ غنماتِه ويأكلونَ لحمَها، وطارتْ بي الكلماتُ على جناحِ الألم لأقولَ في نفسي:
كلّ يَومٍ وَلَنـا هَـمٌّ جَديدْ
وحكاياتٌ بها زُبُرُ الحَديدْ
يا لُصوصَ الوَطنِ المَنهوبِ لَنْ
يَمنعَ اللّيلُ سَـنا الفَجرَ الجَديدْ
*****