Views: 3
الحكاية الثالثة والعشرون 23 رمضان 1446 هجري
(صبّي شاي):
استولى حزبُ البعث العربيّ الاشتراكيّ على الحكمِ في العراقِ بانقلاب عسكري يوم 8 شباط (فبراير 1963)، وبعد شهرٍ كان انقلابُه في دمشقَ ناجزاً تحت مسمّى ثورة 8 آذار (مارس 1963)، فصارتْ سوريةُ والعراقُ تحتَ حكمِ حزبٍ عُروبيّ قوميّ واحد، واستبشرتْ الجماهيرُ خيراً، فهذا الحزبُ اليساريّ له شعارٌ مشهورٌ يقول:
أمّةٌ عربيّةٌ واحِدة واحدة / ذاتُ رسالةٍ خالدة، أما (أهدافُنا) فهي: وحدة، حريّة، اشتراكية..
ولكنّ الواقعَ غيرُ ذلك، فقد كانتِ الريبةُ والشكّ والعَداء، تحكمُ العلاقةَ بين زعماءِ الحزب في الدّولتين الجارتين، وكِلا القيادتين تَرى نفسَها المَعصومةَ في نضالِها ومواقفِها، وترى الأُخرى مارِقةً خائنةً مُتآمرة، ومع مرورِ حقبةٍ من الزمنِ شاركَ الجيشُ العراقيّ في القتالِ على الجبهةِ السوريّةِ، خلال حرب (تشرين الأول / أكتوبر 1973)، ثم تصاعدَ الخِلاف إلى درجةِ القطيعة التامّةِ بين الدولتين نهاية عام 1979، بعدَ تنحيةِ الرئيس العراقي (أحمد حسن البكر) وَوصولِ الرئيسِ صدّام حسين للحُكمِ في بغداد، واكتشافِ التنسيق المتآمرِ على العراقِ بين دمشقَ وطهران عقب انتصارِ ثورةِ الخميني .
ومن طرائفِ القصة أنّ والدةَ صدام حسين اسمها (صبحة طلفاح)، وهناك مطرِبٌ دمشقي ناشِئ، يبحث عن طريقهِ في مجالِ الغِناء يُدعى (موفّق بهجت)، لديه أغنيةٌ شعبيّةٌ بعنوان (يا صبحة هاتي الصينيّة)، فكانت توجيهاتُ الرئيسِ حافظ الأسد لوزيرِ إعلامهِ الشهير (الرفيق أحمد إسكندر أحمد) أن يذيعوا الأغنيةَ عدّةَ مرّاتٍ في اليوم، لإغاظةِ الرئيسِ صدام حسين وكأنّ أمّه خادمةٌ تحملُ الصينيّة وتصبّ الشاي.
لم يكنْ (شاكر بريخان) الذي ألّفَ الكلمات، ولا الملحّن (عبد الفتاح سكّر) يقصدون أمّ صدام حسين، ولكنّهُ الكَيدَ الصبيانيّ الذي يمارسُه أشخاصٌ يحكمون دوَلاً، فصارتْ (إذاعةُ الجمهورية العربية السورية من دمشق) تبثّ في الصباحِ (ياصبحة هاتي الصينية ) وعندَ الظهيرةِ، وبعدَ المغرب، وفي السّهرة، وحفظَ الناسُ الأغنيةَ الخفيفةَ التي يقولُ أحد مقاطعِها:
يا صبحة يا أحلى صبية / يا أمّ عيون سود كحلاوية
بقربك العيشة هنيّة/ والسلام على الأصحاب..
ومن مفارقاتِ العلاقةِ بين الرّجُلَين أنّ معظم المعارضةِ العراقيّةِ من أحزابٍ وأفرادٍ وشعراءَ يعيشونَ في دمشقَ حياةً مخمليّة بصفةِ (اللجوء السياسي)، ويعيش في بغدادَ بشكلٍ مُرفّهٍ معظمُ المعارضينَ السّوريين، في مناكَفةٍ سياسيّةٍ أجهدتِ البلدين والمنطقةَ من كلِّ النواحي، وبلغتِ القطيعةُ ذُروتَها حين كانوا يكتبونَ لنا على (جوازِ السفر السوريّ) : يُسمحُ لحامِلهِ السفرُ إلى كلّ البلدانِ العربية (عدا العراق)، وكلُّ من تثبتُ زيارتُه للعراقِ كان (يذهبُ في خبر كان أو عند بيت خالته)، وكلا العبارتين في سوريّة تعني الموتَ أو السّجنَ المؤبّد.
أحدُ أصدقائي الذي كان بعثيّاً كبيراً لتدبيرِ شؤونِه ومصالحِه، ثم جمّدَ نشاطَه (النّضاليّ) وانسحبَ من الحزب، كان يفسّرُ لي أهدافَ هذا الحزبِ تفسيراً خطيراً طريفاً يتعلق (بالحَمّام فقط – أكرمكم الله –)، فيقول:
– وحدة: تدخلُ الحمّامَ وحدَك ولا يجوزُ أن يكونَ معك فيهِ أحد..
– حريّة: في الحمام (تاخد راحتك) وتفعلُ ما تريدُ دونَ قيودٍ ولا إحراج..
– اشتراكيّة: كلّ أفرادِ العائلةِ أو الضيوفِ يشتركونَ في استخدامِ الحمّام حينَ تخرجُ أنتَ ليدخلَ غيرُك..
استمرَّ حكمُ البعث للعراق حتى الغزو الأمريكي 2003، وفي سورية بقيَ حتى عام انتصار الثورة 2024، ولم يَستطع في سوريا توحيدَ قريتِنا مع القريةِ المجاورة، ولم يستطع في العراق توحيدَ أربيل مع كركوك، ولكنّها شِعاراتٌ خادعةٌ برّاقةٌ لملءِ فراغٍ فكريّ وجدانيّ لشعوبٍ تتوقُ للحريّة والازدهارِ والعَدالة، فتكون مسرحيةُ الضّحكِ على الجماهيرِ مُتقَنةَ التأليفِ والإخراج، أتذكَّر تلكَ المُوبقاتِ وأقولُ في نفسي:
إنّ يومَ البعثِ مَوعودُ القِيامَة
يَومَ لا تَنْفَـعُ مَخلوقاً نَدامة
يا جَماهيراً غَدَتْ مَخْدوعَـةً
تَحسَبُ القِمّةَ في كَومِ القُمامة
*****