Views: 3
الحكاية الرابعة والعشرون 24 رمضان 1446 هجري
(يسقط يعيش):
من عادةِ معلّمي اللغةِ العربيّة في المرحلةِ الابتدائية، أن يعطوا لطلابِهم بعضَ الكلماتِ ليَضعوها في جُمَلٍ مُفيدة، ومن خلالِ السّياقِ يتعرّفُ الطلبةُ المعنى المُعجميّ للكلمةِ، وهذه الكلمةُ بالذّاتِ (يسقط): تعني كرهَنا للشيء ورغبتَنا أن ينزلَ من الأعلى نحوَ الأسفل، أما كلمةُ (يعيش): فمعناها المحبّةُ وَالتأييد والرغبةُ في البقاء.
وفي زمنِ حكم الرئيس حافظ الأسد وابنه، كان شعارُ السّقوطِ مَعمولاً بهِ في أدبيّات الشارعِ السياسيّ، والاقتصاديّ، والاجتماعيّ، وهي أسهلُ كلمةٍ تقولُها في وجهِ كلّ مَن لا تحبّه، فتشعرُ أنّك أفرغتَ الشحنةَ العاطفيّة، وأدّيتَ (واجبكَ النّضالي)، وبالتّالي بإمكانِكَ أنْ تقول:
يسقطُ الاستعمارُ وأعوانُه، تسقطُ البرجوازيّةُ والرأسماليّة، تسقطُ الرجعيّةُ المُتعفّنة، يسقطُ دعاةُ الاستِسلام، يسقطُ الاحتلالُ الصهيونيّ، تسقطُ الإمبرياليّةُ، وفي لفتةٍ مهمّة جريئة للكاتب محمد الماغوط في مسرحيّة (ضيعة تشرين) تجرّأ أهلُ القرية على الهُتاف بقولهم: يسقطُ مختارُ الضيعة، يسقط (حمارُ البيك).
وعلى عكسِ السّقوط، كان هناك مصطلحُ (التّعيّيش)، فيطلقُهُ الناسُ لمدحِ أيِّ شيءٍ يحبّونه، فتقولُ على سبيل المثال: يعيشُ الوطن، يعيش حزبُ البعث، يعيش السيّدُ الرئيس، يعيشُ الاتحاد السوفييتي، عاشت الصّداقةُ السوريةُ مع كوريا الشماليّة، وكنتُ أسمعُ كثيراً من المُتزاحمين على باب المخبزِ، الذي أشتري منه أرغفتي الشّهيّة أيامَ كنتُ طالباً في مدينة إدلب وهم يهتفون: (يعيش أبو حسيب)، فسألت أحدهم:
– مين أبو حسيب يو خاي؟
– صاحب الفرن يا عين عمّك، لو عيّشتُه (علَينا الطّلاء) رح يعطيك خبزاتك من غير الوقفة على الدَّور.
ولم يكنْ أحدٌ يجرؤُ على إسقاطِ (أمورٍ إضافيّة) لأنّهُ سيكونُ في (ويلٍ وثبورِ وعظائمِ الأمور)، ولكي تبتعدَ عن السياسةِ، وتعيشَ في أمانٍ من (بطش المخابرات) كان يجبُ عليكَ أن (تمشي الحيط الحيط)، وتبتعدَ عن أيّ تهوّرٍ غيرِ محسوب، فإذا طلبوا منكَ أن تضعَ كلمة (يسقط) في جملةٍ مفيدة، فبإمكانِك أن تقولَ على سبيلِ المثال:
يسقطُ المطرُ على الأرض، يسقطُ الثلجُ في الشّتاء، يسقطُ الدّلو في البئر، يسقطُ بيّاعُ الحليبِ المغشوس..
أمّا لو عَكسوا الآيةَ وطلبوا منكَ وضعَ كلمةِ (يعيش) فيمكنُ أن تكونَ دبلوماسيّاً، ولا تتورّط في أيّ شعارٍ سياسيّ، وتقول:
يعيشُ السمكُ في المَاء، تعيشُ النباتاتُ إذا توافر لها الماءُ والتربةُ والضوء، تعيشُ الزٍرافةُ في الغابات، تعيش (أم حمزة الخَطّابة) لأنّها تجمعُ العرسان بالحلالِ على مخدّةٍ واحدة…
لكن بعد عام 2011 ارتفعَ سقفُ الشّعارات، وصارَ ضرورياً تسميةُ الأشياءِ بمسمّياتِها، فقد لاقى الشعبُ السوريّ الإهمالَ والخديعة، والتآمر، وهو يتعرّضُ للإبادةِ قَتلاً وتَهجيراً وتَدميراً واعتقالاً رغم محبّته لوطنِهِ الجميل سوريا، أمامَ عيون العالم ومنظماتِه وهيئاتِه السياسيّةِ والقضائيّة، فانتشرَتْ شعاراتُ (التّسقيط والتّعييش) بجرأةٍ وصَراحة، حيث تردّدها الشعوبُ المظلومةُ في كلّ مكان:
عاشتْ سوريا ويسقطُ الأسد، تسقط منظمةُ حظرِ الأسلحةِ الكيماوية، تسقطُ السجونُ والمعتقلات، يسقطُ مجلسُ الأمن، تسقطُ منظّمةُ حقوقُ الإنسان، تسقطُ محكمةُ العدلِ الدوليّة، تسقط جامعةُ الدولِ العربيّة، يسقطُ الطّغاةُ الذين جَلَبوا الغُزاة، تعيشُ الثورةُ والثّوار،
والحقيقة، لا التّعييشُ ينفعُكَ على أرضِ الواقع، ولا التّسقيطُ ينصرُك على العدوّ، ولكنّها صرخاتٌ تعبّرُ عمّا في الصُّدورِ، وتوصلُ رسالةً وتحدّدً موقفاً، ولذلكَ أقولُ في نَفسي:
في سقوطِ الغَيثِ أفراحُ البشَرْ
وسقوطُ الظُّلمِ آتٍ كالقَدَرْ
إِنّما الأوطانُ حضنٌ دافِئٌ
فإّلى الحريّةِ الحَمراءِ سِرّْ
*****