Views: 2
“هدهدُ النبأ وموتُ العطر ”
دراسة نقدية فلسفية وسيميائية
في قصيدة الشاعرة ناهدة شبيب
بقلم : الناقد د.عبدالكريم الحلو
دراسة نقدية حديثة
مقدمة الدراسه :
——————-
* القصيدة التي قدمتها للشاعرة ناهده شبيب تتسم بالعديد من الخصائص الأدبية التي يمكن أن تكون محورًا لدراسة نقدية حديثة وشاملة.
*
* دعنا نستعرض بعض الجوانب التي تستحق التحليل:
( ١ ) البعد الفلسفي:
* ————–
التأمل في الزمن:
الشاعرة تطرح قضية الزمن بشكل عميق، حيث “النهايات تُطوى”
وكأن الزمن لا يتوقف عن الحركة. والتشبيه بـ”سبأ” يضفي بعدًا
تاريخيًا فلسفيًا.
* القصيدة هي صراع داخلي بين الذات والشعور بالزمن والنهاية.
*
* الشاعرة لا تقتصر على التعبير عن معاناتها الشخصية بل تطرح تساؤلات وجودية أعمق تتعلق بالإنسان والوجود نفسه.
كما يظهر في عبارة “موت توضّأ من عطر السماء”، الشاعرة تتناول موضوعات مثل الموت والنهاية بطريقة صوفية وفلسفية، حيث الموت يتسم بالجمال والنقاء رغم كونه نهاية مأساوية.
القصيدة تلعب على مساحات الوجود والعدم، مع التركيز على فكرة النهاية واللارجوع. العبارات مثل “النهايات تُطوى” و”موت توضّأ من عطر السماء” تُظهر فكرة الموت كمفهوم روحي وعقائدي وليس مجرد نهاية بيولوجية. الموت هنا ليس حدثًا ماديًا فقط، بل هو تصوف ذاتي يبحث عن معاني أكبر.
القصيدة لا تقتصر على المعاني المادية، بل تمتد إلى التصوف الذي يعكس الارتباط بين الجسد والروح. “موت توضّأ من عطر السماء” هو مجاز شعري صوفي، إذ أن الموت هنا يرتبط بعطر السماء الذي يشير إلى النقاء، مما يعكس معاناة الروح في مسارها نحو الطهارة.
( ٢ ) التحليل السيميائي :
——————
من منظور سيميائي :
القصيدة تزخر بالرموز التي تفتح المجال لتعدد التأويلات. تستخدم الشاعرة الرموز بصورة ذكية لتشكيل صور شعرية تحمل معاني خفية.
وبهذا الشك يكون النص ليس مجرد تعبير شعري بل هو بمثابة نظام من العلامات التي تدير دلالة معينة حول مفهوم الحياة والموت.
و يعتمد النص على استخدام الرموز بشكل مكثف لتوصيل معانٍ غير مباشرة. الشاعرة تلعب على مستوى العلامات والرموز المتعددة التي يمكن أن تتخذ معانٍ مختلفة حسب السياق.
إليك بعض الرموز المهمة:
———————–
الهدد والطائر (الهدهد):
يبدأ النص بـ”كَهدهد”، وهو طائر له رمزية قوية في الثقافات المختلفة.
الطائر عادة ما يرمز للحرية أو الهروب أو البحث عن الحقيقة.
الهدهد في النص يبدو وكأنه يفرّ من “منقار النبأ”، وهو يرمز إلى هروب الروح أو الذات من مواجهات غير مرغوبة، وقد يرمز أيضًا إلى البحث عن معنى أعمق للحياة.
“ منقار النبأ” يُظهر ارتباطًا قويًا بين الطائر وموضوع الموت أو الفاجعة، فالنص يربط الهروب بالموت أو الحياة التي تتجه نحو النهاية.
الجمل مثل “صبرٌ تردّى ذبيحًا هدّه الظمأ” تتناول المعاناة الإنسانية في سعيها المستمر من أجل الصبر والوجود، ولكن هذا الصبر يتحول إلى ضرب من الضعف والتضحية الذاتية، حيث يعبّر عن حالة نفسية مضطربة تعيش فيها الذات الشاعرة، مما يعكس الانكسار الداخلي أمام قسوة الحياة.
“ عطر السماء” رمز آخر يتناغم مع الفكرة السيميائية التي تُدمج بين المكان
(السماء) والحالة النفسية (العطر).
السماء في الأدب الصوفي والمجازي عادة ما تمثل النقاء والروحانية،
ولكن هنا الشاعرة تدمجها مع الموت، مما يخلق حالة من التوتر بين الطهارة والفناء.
هذه الفكرة العميقة تضفي على القصيدة بعدًا دينيًا وفلسفيًا في آنٍ واحد.
“ موت توضّأ من عطر السماء”
هو رمز مركب يوظف عنصرين متناقضين – الموت والعطر – حيث يمكن أن يُقرأ العطر كرمز للحياة أو الجمال، بينما الموت يمثل النهاية والفراغ.
استخدام هذه الرمزية في القصيدة يوحي بتشابك الحياة والموت في سياق واحد، مما يعكس رؤية سيميائية تتجاوز الثنائيات التقليدية مثل الحياة مقابل الموت.
تمثل “سبأ” رمزًا تاريخيًا وحضاريًا ضائعًا في القصيدة، حيث تشير إلى الاندثار والفقدان، وهو ما يربط النص بمفهوم الهويات الضائعة والمجتمعات التي تتبدد.
( ٣ ) البناء النفسي :
• القصيدة تبني حالة نفسية مفرغة من الأمل، تعكس الصراع الداخلي للشاعرة بين الموت والحياة، بين الظلم والأمل. الشاعرة تبحث عن الراحة من خلال الألم المستمر:
“ صبرٌ تردّى ذبيحاً هدّه الظمأ”.
– التهويمات والذهنيات المعذبة:
– القصيدة تنقل حالة نفسية متقلبة بين الأمل واليأس، ما يعكس حالة ذهنية مليئة بالصراع الداخلي، والذهنيات الممزقة التي تكافح بين الرغبة في الحياة والهروب من الألم.
– “ جرح على الجرح” يعبر عن تزايد المعاناة، كما أن “حدّه الصّدأ” يمكن أن يعكس حالة من الانكماش الداخلي، حيث تتراكم الآلام النفسية وتصبح غير قابلة للشفاء.
القصيدة تتسم بالرمزية والتجريد:
النص شعري مكثف، يبتعد عن الوضوح التقليدي ويعتمد على الرمزية التي تفتح المجال لتعدد التأويلات. البداية بـ “كَهدهد” تحمل دلالة الخروج والهروب، ما يثير تساؤلات حول الفعل الذي يُراد التهرب منه، وما يعزز من هذه الفكرة هو الفعل “فرّ” الذي يعكس محاولات الرفض والابتعاد عن شيء غير محدد.
( ٤ ) العاطفة الانطباعية :٠
القصيدة تتسم بشحنة عاطفية وجمالية مكثفة، حيث تخلق حالة من الارتباك والتشتت داخل الذات الشاعرة، مما يجعل القارئ يشعر بكثافة العواطف المتدفقة من النص.
يُمكننا ملاحظة الوجود الشديد للألم الوجودي والحزن الممزج بمشاعر من الضياع الداخلي والقلق، خاصة في العبارات مثل :
“جرح على الجرح”
و”موت توضّأ من عطر السماء”.
هذه الصور تجعل القارئ يشعر بثقل الأسئلة الوجودية:
ماذا يعني العيش في عالم مليء بالنهايات والألم؟
وهل يمكن للإنسان أن يجد الخلاص في الهروب من الحقيقة؟
شعور العجز هو المهيمن على النص،
مما يعكس الذات الشاعرة التي تبحث عن ملاذ أو أمل في ظل الواقع المؤلم.
وعند قول الشاعرة “ما لي من ألوذ به”، تعكس حالة من العزلة الشديدة، مثلما لو أن الذات قد فقدت جميع مصادر الأمان والراحة، وهي حالة تخلق صدى قويًا لدى القارئ الذي قد يشعر بعجز مشابه في لحظات معينة من حياته.
عندما تقول الشاعرة “موت توضّأ من عطر السماء”، فإنها تعكس فلسفة معقدة حول الموت الذي يتنكر في صورة رمزية إيجابية. ففي العديد من المواقف الفلسفية، يعتبر الموت مخرجًا من قسوة الحياة، لكن شبيب تمنحه طابعًا صوفيًا مرتبطًا بالعطر السماوي، ما يشير إلى نقاء روحاني مفقود بين الحياة والموت.
وهنا يظهر الموت ليس كحدث مادي بل كحالة تأملية محورية.
الخلاصة والتقييم العام :
———————-
– اللغة عالية المستوى . الصور الشعرية والرموز موظفة بشكل فني بارع يُحسب للشاعرة.
– القصيدة تحمل خصائص الشعر الصوفي في تناول الموت والحياة في آن واحد، وهي توظف الرمزية الكثيفة بمهارة، بحيث تجعل القارئ يدخل في حالة من التأمل المستمر.
– القصيدة تعتمد على مزيج من الرمزية العميقة والفلسفة الوجودية والنفسية، حيث تهيم الذات الشاعرة بين مفاهيم الحياة والموت، وتبحث عن المعنى في وسط الضياع.
– القصيدة تنبض بشعور عميق من العزلة الداخلية والصراع النفسي بين الذات والواقع.
– القصيدة تطرح تأملات فلسفية ونفسية معقدة، ولا تقتصر على كونها مجرد تعبير عن معاناة شخصية، بل تتعدى ذلك إلى التأمل في الهويات الثقافية والمجتمعية المفقودة.
* الشاعرة ناهدة شبيب تستعمل الرمزية بشكل مبدع، حيث تتداخل مفاهيم الوجودية والفلسفية مع الرموز الثقافية واللغوية لتعكس حالة من الضياع الداخلي والبحث عن معنى في عالم مليء بالشكوك.
* الشاعرة ناهدة شبيب تقدم في هذه القصيدة نصًا شعريًا متداخلًا بين الوجود والموت، حيث تضع القارئ أمام تجربة فكرية وفلسفية عميقة.
* الشاعرة متمكنة من أدواتها الشعرية، وتجيد اللعب بالرمزية بشكل يعكس قدرة على التعبير عن المعاناة البشرية بأبعاد متعددة.
* الشاعرة تبرز في استخدام الأسلوب المجازي، حيث تجمع بين الأبعاد النفسية والفلسفية بطريقة شعورية عميقة.
* اللغة في القصيدة مركبة، لكنها ليست معقدة لدرجة تجعلها بعيدة عن الفهم، بل تحمل رسائل واضحة عبر الرمزية.
كما أن استخدام التكرار
(مثل “جرح على الجرح”)
* من الناحية الفلسفية، تظهر الشاعرة قدرة على الاستفادة من المفاهيم الوجودية والروحانية بشكل عميق.
* تطرح تساؤلات عن المعنى والنهاية، وعلاقتها بالزمان والمكان.
هذا يجسد تطورًا في التفكير الفلسفي داخل النصوص الشعرية الحديثة.
* الشاعرة ناهدة شبيب تقدم نصًا شعريًا يحمل عبق الماضي وجراح الحاضر، وتستخدم الرمزية بشكل متقن لطرح تساؤلات وجودية عميقة.
* النص يمثل حالة فكرية وشعرية متميزة، ويستحق تقييمًا عاليًا نظرًا لتنوعه وثرائه الدلالي.
* قصيدة ناضجة فلسفياً وفكرياً، تحمل تجربة شعورية صادقة وعميقة.
*
* تجربة الشاعرة واضحة، وتدل على تمكن فني ووعي فكري مهم.
*
* الشاعرة تمتلك طاقة شعرية وفكرية كبيرة، وفي هذه القصيدة جمعت بين الرمز والتاريخ والفلسفة بوعي متمكن.
د. عبدالكريم الحلو
===================
القصيدة :
كَهدهد فرّ من منقارِه النّبأ
أتاك يلهثُ خلف العمر يتكئ
هي النّهايات تُطوى خلفَ ثانية
كما توارَت على أسرارها سبأُ
ذرني أُجَدوِل أيامي أرمّمها
جرح على الجرحِ أبلى حدّه الصّدأ
أهفو وأدبر. ..ما لي من ألوذ به
صبرٌ تردّى ذبيحاً هدّه الظمأ
موت توضّأ من عطر السّماء
فماتدري ضحاياه أنّى يرتع الخطأُ
وحدي أزاحم حتف القلب أوقظه
ما أبطأ النبض إلا حين أختبئ
الشاعرة ناهده شبيب
———————–