Views: 2
الحكاية السادسة والعشرون 26 رمضان 1446 هجري
(بلقيس):
هيَ ليستْ ملكةَ سبأ، ولكنّها دبلوماسيّةٌ من العراقِ كانتْ تعمل في السفارةِ العراقيّةِ ببيروت، ولقيَتْ حتفَها في تفجيرٍ مُدبّرٍ هدمَ السّفارةَ على مَن كانَ فيها خلال الحربِ الأهليّةِ اللبنانية عام 1981، حيث التجاذب السياسيّ بين الدول الإقليميّةِ اللّاعبةِ بنارِ الحرب.
لكنَّ خيطَ الحكايةِ غيرَ العادي يبدأُ من الشاعرِ نزار قبّاني، الذي أحبّ بلقيس وتزوّجها، فدخلتْ مملكةَ الشّهرةِ والقصيدة، لأنَّ قلبَ نزار قباني كان حديقةَ نساءٍ جميلاتٍ أثيرات، كلُُ واحدةٍ منهنّ تُلهِمُ الشاعرَ أجملَ الأبياتِ، و(ترقصُ حافيةَ القدمين بمدخلِ شريانه)، قبلَ أن تمنحَه من أُنوثتِها ما هو متعطّشٌ له دونَ ارتواء.
يعودُ شغفي بنزار إلى أيامٍ كنتُ فيها في الصفِّ الرابع الابتدائي، حين سمعتُ في الرّاديو أغنيةً لفيروز تقولُ فيها: (لا تسألوني ما اسمُه حبيبي) فأعجبَتني الكلمات، وحين قالت المذيعة إنّ الأغنيةَ من كلماتِ الشاعر نزار قبّاني عبثاً كنتُ أبحثُ عن اسمِ هذا الشاعرِ في كتبي المدرسيّة، ثمَُ وسّعتُ البحثَ إلى كتبِ شقيقي الأكبر (نايف رحمه الله)، الذي كان في الصفِّ السادس، فوجدتُ قصيدةً عنوانُها (إلى فلسطين)، وتحتَها اسم نزار قباني، فعرفتُ أن الشاعرَ سوريّ دمشقيّ، واستمرّتْ رحلتي الودّية مع نزار، من خلال المذياعِ والمجلّات والكتبِ المدرسيّة، حتى وصلْنا شهرَ كانون الأول (ديسمبر) من عام 1982، حيثُ كنتُ في إدلب، طالباً في السنةِ الأولى من معهدِ دارِ المعلّمين، وتسرّبتْ بشكلٍ سرّيٍّ بين الطلاب، قصيدةٌ طويلةٌ لنزار قباني من شعرِ التفعيلةِ، عنوانُها (بلقيس)، أحضرَها طالبٌ من أسرةٍ عراقيّةٍ معارضةٍ لحكمِ الرئيسِ صدَُام حسين، تقيمُ في حلب، فاستعرتُ النسخةَ، ودخلتُ إلى (مكتبة الدّاي) في إدلب، وطلبتُ تصويرَها على أنُها ملخّصُ محاضراتٍ جامعيّة، فلمّا قرأ صاحبُ المكتبةِ – رحمه الله – العنوانَ واسمَ الشاعر، امتقعَ لونُه وقال بلهجتِه الإدلبيّة:
– أشو يوخاي أنت نيوي تودّيني على السجن؟
– لماذا؟ إنها محاضرةٌ جامعيّة..
– ماشالله عليك! كتير فهمان ولك عين عمك، أشو شايفني ما بعرف أقرا؟
– أرجوك، صوّر لي هذه الصفحاتِ وَخُذ ما تريد (ولا من شاف ولا من دري)، فابتسمَ ونظر حوله ليطمئنّ، وتمّ الأمر، فأرجعتُ النسخةَ الأصليّة السرّيةَ إلى صاحبِها، واحتفظتُ بنسختي الخاصّة.
كنتُ أقرأُ صفحاتِها دائماً حتى حفظتُها عن ظهرِ قلب، ثمّ دوّنتُها بخطّي كي يثبتَ حفظي لها، وحينَ ألقيتُ مقطعاً منها في قاعةِ الصفِّ أمام مدرّس الرياضيّات (المحبّ لنزار وأشعاره)، همسَ في أذني:
– عبد الرزاق من أينَ حفظتَ هذهِ الكلمات لنزار؟
– القصيدة كاملةً موجودةٌ عندي، لكن لا أَجرؤ على حملِها والاعترافِ بوجودِها عندي.
– دير بالك! هي ممنوعة، ولو انتبهَ عليك (خفافيش الليل) فإنّك لن ترى الشمس.
– سأحضرُها لكَ غداً يا أستاذ، ولكن لا تكشفِ المستور.
– ولوووو، (سرّك في بير يا درباس أفندي)
– بطريقةِ السريّة الفردّية، وصلتِ القصيدةُ للعشرات، وبعدَ بضعةِ شهور، وإذ بالقصيدةِ مطبوعةٌ وحدَها في كتيّبٍٍ صغيرٍ أنيق، عن طريقِ منشوراتِ نزار قباني الخاصة من بيروت، ومعروضةٌ في المكتبةِ ذاتِها، التي خافَ صاحبُها من نسخِ القصيدةِ سابقاً، فسارعتُ لاقتناءِ نسخةٍ منها بسعر 50 ليرة سورية، كانت تعادلُ مصروفي لأسبوعين في ذلكَ الوقت، ولمّا سألتُه عن الحكايةِ قال:
– سمحوا بتوزيعِها يوخاي، وجبت ستين نسخة من حلب ونفقوا كلّن بيومَين.
كانَ نزارُ لمّا رثُى زوجتَه وحبيبتَه بلقيس، قد عرفَ أن المخابراتِ السوريةَ كانت تقفُ وراءَ تفجيرِ السفارةِ العراقيّة، كمَن يرثي وَطناً وأمّة، وليس امرأةً، كانَ كمَن يحطّم أصناماً طالتْ عبادتُها الباطلة، أو كالذي يَرمي قنبلةً في حضنِِ القاتل، أو كَمَن يقتلُ (أبا لهب) الذي تبّتْ يَداهُ في الدنيا والآخرة، كمَن يَثأرُ للإنسانِ، والحبّ، والنّقاء، والنخلةِ الباسقةِ حينَ يجتَثُّها مِنشارٌ حاقِدٌ.
كانتِ الكلمةُ مشكلةً تؤرّقُ الظالمين، ومازالتِ الكلمة الحرّةُ والقصيدةُ تخيفان الطُّغاةَ، وكانَ نزار قباني لا يهادنُ ولا ينافق، (ويقول للأعورِ أعور بعينه) لذلكَ لم يكن مُرحَّباً بهِ في كثيرٍ من عواصمِ هذا الشرقِ البائس المتناحر، فاختارَ أن يكملَ حياتَه في (لندن) حتّى توقّفَ فيها قلبُه المُحبُّ في يومٍ ربيعيٍّ مُزهرٍ 30 نيسان (أبريل 1998م)، وغابَ عن دنيانا لتبقى قصائدُه و(أطياف بلقيسِه) جَرساً عالي الرّنين يلفتُ انتباهَنا في الحبِّ والسِّياسةِ والعروبةِ والتّاريخِ والمواقفِ الحازمة.
وَمِن حُسْنِ حظّ بلقيس (القصيدة وليس المرأة) أنُي اصحبتُها بشغفٍ في رحلتي من مكتبَتي في بيتي الريفيّ بقريتِنا الوادعةِ، إلى حيثُ عملي وإقامتي في دولةِ الإمارات، ولولا اصطِحابي لها لكانَ مصيرُ الديوان الشِّعريِّ كمصيرِ صاحبتهِ بلقيس من القتلِ والدمارِ والرُكام والأشلاءِ، لأقولَ في نفسي:
في زحامِ الأقوالِ شِعرٌ نَفيسُ
وَضحايا عُنوانُها (بَلقيسُ)
إنَّ قَتْلَ الكلامِ أمرٌ خَطيرٌ
مثلُ شنقِ الرّقابِ في الجُرمِ، قِيسوا
*****