Views: 1
مع مَنْ أنْتِ؟
الدكتور صلاح جرّار
في مؤتمرٍ صحفي عقد يوم الأربعاء الماضي 12/ 3/ 2025 بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس وزراء إيرلندا مايكل مارتن وجّهت إحدى الصحفيّات سؤالاً لرئيس الوزراء الإيرلندي عن غزّة والتهديد بتهجير أهلها ومنع دخول المساعدات الإنسانية الأساسيّة إليها، فعاجل ترامب الصحفيّة بالردّ عليها قاطعاً الطريق على رئيس الوزراء الإيرلندي وكأنّه لا يريد له أن يجيب عن هذا السؤال الذي يعرف مسبقاً كيف سيكون جوابه لكون إيرلندا من الدول القليلة التي تعلن صراحة تأييدها للفلسطينيين ورفضها القاطع للعدوان الإسرائيلي عليهم، ولكون ترامب لديه حساسية عالية جداً من سماع أي كلمة تعاطف مع الفلسطينيين عموماً ومع أهل غزّة خصوصاً، فكلمة (غزّة) توجعه لأنها لم تمنحه فرصة إثبات فحولته عندما هدّدها بالجحيم إذا لم تمتثل لأوامره بتسليم الأسرى الصهاينة في الحال.
قاطع الرئيس الأمريكي رئيس وزراء إيرلندا وأجاب عن سؤال الصحفية إجابة مختصرة جداً حتّى لا يطول التوقّف عند هذه المسألة الحسّاسة في نظره وقال: لا أحد سيطرد من غزّة، ثمّ وجّه سؤالاً ساذجاً للصحفية صاحبة السؤال قال لها فيه: مع مَنْ أنْتِ؟ ومع سذاجة هذا السؤال إلاّ أنّ له دلالات عميقة في الكشف عن حقيقة ترامب؛ فلم يكن سؤاله صادراً عن دافعٍ فضوليّ بل كان استجوابيّاً كأنّه صادرٌ عن محقّقٍ يعمل في جهاز الشاباك أو الموساد الإسرائيلي، وكأنّه اكتشف من خلال سؤال الصحفية وجود عميل لحركة حماس في القاعة التي عقد بها ذلك المؤتمر الصحفي.
إنّ سؤال: مع مَنْ أنْتِ؟ هو محاولة للربط بين انتماء السائلة وسؤالها. ولم يكن ترامب في سؤاله منحازاً لبلده أمريكا، بل كان ممثّلاً ومندوباً للاحتلال الإسرائيلي وناطقاً باسمه، وكان يستبعد أن تكون صحفية أمريكية من صوت أمريكا توجّه سؤالاً يصبّ في مصلحة أهل غزّة ويبدي تعاطفاً معهم وليس مع الإسرائيليين. والدليل على ذلك ما صرّح به في أثناء هذا المؤتمر الصحفي من دفاعٍ مستميت عن الإسرائيليين وتعاطف بالغ معهم على ما أصابهم يوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) مقيماً حجّته على الأكاذيب التي لفّقها الصهاينة، وفي الوقت نفسه متجاهلاً كلّ التجاهل مقتل خمسين ألف فلسطينيّ وإصابة أكثر من مائة ألفٍ وتدمير بيوتهم وتهجيرهم ومحاصرتهم ومنع كلّ أسباب الحياة عنهم، ومتجاهلاً تاريخاً صهيونياً احتلالياً دامياً للأرض الفلسطينية.
ومن الأدلّة على أن ترامب لا يعدو في تعليقه هذا أن يكون ضابطاً برتبةٍ متدنيّة في جهاز المخابرات الصهيونية (الموساد) أنّ شرطته تلاحق كلّ من تظاهر في جامعة كولومبيا وفي خمسين جامعة أخرى من الجامعات الأميركية للمطالبة بوقف العدوان الصهيوني على غزّة، وتداهم منازلهم ليلاً وتعتقلهم، وتهدّد بترحيل من كان منهم غير أمريكي، وقياس استحقاق أيّ منهم البقاء في الجامعة أو في وظيفته أو في الولايات المتحدة هو تأييده أو عدم تأييده للفلسطينيين، وهذه هي ذاتها الممارسات التي تقوم بها قوّات الجيش الإسرائيلي وعناصر الموساد والشاباك في مدن الضفّة الغربيّة الفلسطينية وقراها ومخيّماتها.
إنّ سؤال: مع مَنْ أنتِ؟ سؤالٌ لا يليق قطعاً برئيس دولةٍ توصف بأنّها (عظمى) لأنّه سؤالٌ يكشف عن مدى تراجع مكانة هذه الدولة وتراجع (عظمتها) ومدى انحطاط تفكير إدارتها الذي لا يزيد عن مستوى تفكير أطفال يلعبون الكرة في شارع عامّ. ويكشف هذا السؤال كذلك عن لونٍ فاقعٍ من الانحياز للجانب الصهيوني، وعن انسياق الإدارة الأميركية للرواية الإسرائيلية في كلّ صغيرة وكبيرة، وفي هذه الحالة الصارخة لا يجوز للعرب أينما كانوا أن يعتمدوا الولايات المتّحدة الأميركية وسيطاً بينهم وبين أعدائهم في أيّ نزاعٍ أو مشكلة أو قضيّة من القضايا مهما صغرت أو كبرت.
إنّ أبسط معايير الحكم على أيّ إنسان في أيّ مجالٍ من المجالات قديماً وحديثاً هو عدم استناده إلى انتمائه الديني أو المذهبي أو العرقي أو الجغرافي أو الحزبي أو إلى لون بشرته ومنهجه وغير ذلك، بل ينبغي أن تستند فقط إلى أدائه وسلامة إجراءاته وصحة نتائج أدائه. ولا يليق برئيس دولة عظمى أو صغرى أن يخالف المعايير المنطقية المعهودة، وينبغي عليه أن يتسامى على مشاعر الحقد والكراهية ولا يطلق لسانه في التعبير عنها، فكيف إذا كانت قضيّة إنسانيّة ساطعةً سطوع الشمس في إنسانيتها وعدالتها مثل قضية الاحتلال الصهيوني لفلسطين والعدوان الصهيوني الإجرامي الغاشم على غزّة وأطفالها ونسائها ورجالها وشيوخها وبيوتها وكلّ أثر للحياة فيها؟!
وأمّا أن يكون الحكم على الناس ومحاسبة كلّ منهم بناءً على تأييده أو عدم تأييده لأهل غزّة فذلك ظلم تاريخي فادح وفاضح!!