Views: 5
الحكاية السابعة والعشرون27 رمضان 1446 هجري
(تَقَشّف):
التّوفير مصطلحٌ اقتصاديّ يصلحُ للمنزلِ والدولِ والحكومات، وهو سياسةٌ تقومُ على كيفيّة قضاءِ الحاجاتِ وشراءِ المُتطلباتِ، وفق مقدار الدّخلِ المتوافر، مع التّقتيرِ في الإنفاقِ والتَّقَشُّف لإحداثِ وفرٍ نقديّ، يصنعُ مع التراكمِ الزمنيّ كتلةً نقديّةً جيّدة، وحين تقوم الحكومات بذلكَ تسمّى تلكَ العملية (التّقشّف).
المهمّ (مالكم وما الاقتصاد ومصطلحاته) فهو ليسَ من تخصّصي الأكاديمي، لكنّي حكيمٌ في الإنفاقِ بما يناسبُ دَخلي كموظّفٍ محدودِ الدخل كي (أصلَ رأسَ الشهر بسلامٍ دونَ ديون).
وحين قرّرتْ (قيادتنا الحكيمة والشجاعة) تطبيقَ نهجِ التقشفِ دعَت إليهِ عبرَ الخطاباتِ الرسميّة ووسائلِ الإعلام وَجولاتِ المسؤولين، الذينَ اجتهدوا في إقناعِ المُواطنين بالتقشّف، وذلكَ توفيراً للنّفقات في مواجهةِ (المؤامرة الإمبريالية الشّرسة التي تستهدفُ النَّيلَ من صمودِ شعبِنا)، فقد أوهموا (الجماهير المناضلة) أنّ آسيا وأوربا وأمريكا والدول العربية (الرجعيّة) تحاصر سوريّة عقوبةً لها على مواقفِها النضاليّة وصمودِها، وأنهم يمنعون عنّا السّكرَ والزيت والصابونَ والشايَ والرزّ والطحينَ والمناديلَ و الورقَ و (مستلزمات الصمود والتصدّي)، وتحضرُني من تلك المواقفِ (النّضالية) ثلاثةُ مشاهدَ سأجعلُها محورَ حكايَتي لهذا اليوم:
– في ربيع عام 1985 وخلالَ اجتماعِ رئيس نقابةِ المعلمين بكوادرِ المعلّمين في محافظةِ إدلب، شرح (الرفيقُ) الوضعَ الاقتصاديّ ليبرّرَ قلّةَ الراتب، وعدمَ إمكانيّة الزّيادة، لذلكَ فإنّ الخدماتِ التي تقدّمُها النقابة لأعضائِها متواضعةٌ في مجال الطبابةِ والتقاعدِ والرعايةِ الاجتماعية، وخلفَه لافتَةٌ كبيرةٌ مكتوبٌ عليها بخطّ الثلثِ عبارةٌ من أقوال (المعلّم الأول):
(المعلّمون بناةٌ حقيقيّون لأنهم يبنونَ الإنسان)، فتقدّم منهُ أحدُ المعلّمين بملفِّ علاجِ ابنهِ وتقاريرَ لإجراءِ العمليّة الجراحيّة الصعبةِ في بلدٍ أوربيّ، بناءً على تقاريرِ الأطباء، فما كانَ من الزميلِ الدّاعي للتقشّفِ إلا أن أزاحَ الملفّ من أمامِهِ بحركةٍ لئيمةٍ وقال ساخِراً:
– (بلا السياحة في دول أوربا والتّمتع بالشقراوات، لدينا من أماكن السياحة والنساءِ الجميلات ما يكفينا)، فانتقضَ المعلمُ المسكين في وجهِ (نقيبه) قائلاً:
– السياحةُ في أوربا والتمتّع بجميلاتِها من اختصاصِكم وليس من طبعِنا، فبُهتَ (الرفيق) وتصبّبتْ صلعتُه عرَقاً من كشفِ الزّيف وتعريةِ الباطل.
– الحادثةٌ الثانية كانت في محافظةِ حلب، في صيف 1993 حيثُ التقى رئيسُ الاتحادِ العام للفلاحين، ووزيرُ التموين والتجارةِ الداخليّة، بجماهيرِ المحافظة، ودعا في كلمتِه لتوفيرِ النّفقاتِ حتى أنه وصلَ إلى رغيفِ الخبز، وفي عمليّةٍ حسابيّة قالَ ما معناه:
(لو المواطن في اليوم أكل رغيفن خبز بدل ما ياكل أربع أرغفة، فسوف نوفّر من كل مواطن رغيفين وبالتالي على مستوى الدولة نوفر 40 مليون رغيف، وننتج نصف كمية الخبز فقط)، فاعتلتْ في القاعةِ ضحكاتُ المواطنين من أهل حلب (وهم أهل الفنّ والطرب والتاريخ والأدب والكَباب والكبب، وعندهم ملءُ البطونِ شيءٌ مقدُس)، وقامَ أحد المواطنين وقالَ للمسؤولين:
أنتم شخصان مسؤولان: جئتمْ من دمشقَ إلى حلب بموكبٍ من عشرِ سياراتٍ ومرافقاتٍ أمنيّة، وكان بإمكانِكم أن تأتوا بباصِ الرُكاب فتدفعوا 200 ليرة بدل أن تكلّفوا الدولةَ ربع مليون ليرة في موكِبِكم، فخرسَ المسؤولُ كأنما ألجمتَه بلِجامٍ (والقطة أكلت لسانه).
– في سنة 1995 زادتِ الحاجةُ لزيادةِ الرواتب والأجورِ في سورية، ولكنْ لا أملَ في ذلك، وفي إحدى جلسات مجلس الشّعب، وقف (..) رئيسُ مجلسِ الشعب ليقول: يكفي المواطنُ لو أكلَ نصفَ كيلو لحم في الشهر، ويجبٌ عليه أن يتحمّلَ التقشّفَ في سبيلِ الوطن، فَردَّ عليهِ أحدُ الصّحفيين:
إنَّ كلبَكم الموقّر (يا رفيق) يأكلُ اللحمَ والدجاجَ في الشهرِ عشرَ مرّات، فاعتبِروا المواطنينَ مثل كلبِكم (يخزي العين)، ومن يومِها صارَ المواطنونَ يقولونَ عن هذا المسؤولِ (أبو كلب)، وهو الذي قرّرَ تغييرَ الدّستور السوريّ ليصبحَ على مقاسِ الوريثِ القاصرِ عام 2000.
إنَّ للتّقشّفِ أسبابَه الموجبةَ حين يأتي بنتائجَ نافعةٍ للوطنِ والمواطن، لكنّه سهمٌ مُؤلمٌ حين يدخلُ البازارَ السياسيَّ لنهبِ ثرواتِ البلادِ والرّشوةِ وبناءِ القُصور والبذخِ والترفِ وسرقة الرصيدِ الذهبيّ والمالِ للخارجِ، حتّى يَشقى المواطنُ الذي يبحثُ عن لقمتِهِ وَكرامتِه، بين (ضباعِ الوطنِ وخنازيرِ المافيا الحاكمة المتحكّمة) لأنّ من تلك المافيا لصّينِ اثنين نزَلا بالعملةِ السوريّة من 18 ليرة للدولار الواحد إلى 50 ليرة مقابل الدولار، حين سرقا رصيد سوريا من الذهب، ووضعاهُ باسمهم الشخصيّ في سويسرا، ما يستدعي أن أكتمَ ألمَ الجُرحِ الذي رشّوا فوقه الملح، وأقولَ في نفسي:
قالوا: تَقَشّفْ وراعِ الحالَ والعُسْرة
واجعَلْ طعامَكَ يا (شعباً لنا) كِسْرة
فَجاءَهُم رَأيُنا رَدَّاً يُزلْزُلُهم:
ما كلُّ يومٍ (رَفيـقي) تَسلمُ الجَرّة
*****