Views: 3
الحكايةالثلاثون 30 رمضان 1446 هجري
(سوريّون):
لا توجدُ دولةٌ جميعُ سكانِها من طيفٍ واحد، لأنّ اختلافَ الألسنةِ والألوانِ والأعراقِ والاعتقاداتِ آيةٌ من آياتِ اللهِ تعالى في خَلقه، وَمعيارُ التفاضلِ بينَ الناسِ هوَ حُسنُ العملِ والتّقوى والإخلاصِ لأهلهِ وبلادِه، وكي لا يتّهمني أحدٌ بأنّني في حكاياتي أفرّقُ ولا أُجمّع، فإنّي وفي حكايتي الختاميّةِ لهذا الشهرِ الكريمِ أؤَكّد على أنّ سوريةَ ومن فجرِ التاريخ وَطنٌ يعيشُ فيهِ الكثيرُ من الأعراقِ والأديانِ والطّوائفِ والمذاهب، ولكلِّ حقبةٍ تاريخيّةٍ خصوصيّتُها في الحكم والتطوّرات السياسيّة والعسكريّة، ولم يشهدِ التاريخُ صِراعاً دمويّاً داخليّاً بينَ مكوّناتِ الشعبِ السوريّ، فقد تعاقبَتْ عليهِ حضاراتٌ وأمَم، وتعرّضتْ للغزواتِ الخارجيّةِ كثيراً، فتكونُ الغلبَةُ للأقوى، وعلى مَدى التاريخِ عاشتْ فيهِ قبائلُ وعرقيّاتُ العربِ والكردِ والتّركمان والشركسِ والأرمنِ، وتعايَشَتْ فيهِ دياناتُ اليهودِ والنّصارى والمُسلمين، وحين تشّعبتِ المذاهبُ عن تلكَ الدياناتِ السماويةِ تآلفتْ فيهِ مذاهبُ تلكَ الدّيانات وتصاهرَتْ وتجاوَرَتْ، دونَ أحقادٍ واعتداءاتٍ، معَ تقديرٍ كاملٍ للاعتقاداتِ الدينيّةِ ودُورِ العبادة للجميع.
لكنّ الطغاةَ حينَ يُفلِسون من أسبابِ القوّة، وتنكشفُ سوءاتُهم، يبحثونَ عن أيّ حبلِ نَجاةٍ ليتعلّقوا به، في سبيلِ البقاءِ على الكرسيّ، وقمعِ الشعوبِ الرافضةِ للذلّ والاستِبداد، وهذا ما حصلَ خلالَ الثورةِ السوريةِ، حيث بدأتْ لعبةٌ قذرةٌ لتمزيقِ النسيجِ الاجتماعيّ للشعبِ السّوري، حتّى كأنّه شعوبٌ لا يجمعُ بينَها إلّا الحذاءُ العسكريّ وفوهةُ البندقيّة، فقامَ الحكمُ الطائفيّ المستَبدّ باستعداءِ الكردِ على العرب، واستعداءِ سهلِ حوران على جبلِها، واستعداءِ المذاهبِ الإسلاميّة على بعضِها وِفقاً للطوائِفِ والمناطقِ الجغرافيّة، واستعدى الأريافَ على المُدنِ والبدوَ على الحَضرِ، (وحارتنا الشرقية على الحارة الغربيّة)، حتّى وصلَتِ الحالُ إلى التّصفيقِ لأيّ غازٍ خارجيّ محتلّ يناصرُ فئةً على أُخرى وِفقَ مصالحهِ لا مصالحِ السوريّين، فصارتْ تركيا حليفةَ المعارضةِ السّنيّة، وأمريكا حليفةَ الكُرد، وإيرانُ حليفةَ الشّيعة، وروسيا حليفةَ طائفةِ الرئيسِ، وأوربا حليفةَ المَسيحيّين، ومدّت إسرائيلُ يدَها الملوّثةَ بالدمِ لتدّعي مُناصرةَ الدّروز، واختلطَ الحابلُ بالنّابل، واستيقظتِ الأحقادُ، ونبشَ القومُ صفحاتِ التاريخِ من ألفِ سنةٍ وأكثر، ليحاسِبوا بعضَهم على أساسِها، ويصنّفوا الشعبَ السوريّ على أسسِ المذاهبِ والأعراقِ والمناطقِ، فجرى الدمُ سيولاً دونما وازعٍ من ضَمير أو إنسانية أو أخلاقٍ أو وطنيّة، وكثر الشّامتون بنا، وصبّ بعضهم الزيتَ على نارِ الفتنةِ ليزيدَ اشتعالَها ويُطيلَ مدّتها.
أذكرُ ذلكَ لأجعلَ من أمثلةٍ في حياتي مرتكزاتٍ لحكايةِ اليومِ وأتكلّمُ عن بضعةِ مواقفَ لا أنساها:
– من طائفة النّصيريين العلويّين تربطُنا صداقةٌ من عهد جَدي رحمهُ الله، واستمرّت لأيامِ والدي- أطالَ اللهُ عمره – وتابعناها نحنُ الجيل الجديدَ مع بعضِ الأُسَرِ من سهلِ الغابِ فكانتْ زياراتُ الودّ والتُهاني بالأعيادِ والتعازي بالأمواتِ، في ثقةٍ ومودّةٍ وأمانةٍ منقطعةِ النظير، ومن خلالِ أسرتِنا توسّعَتْ تلكَ العلاقةُ إلى كلّ بلدتِنا مع تلكِ العائلات.
– في ربيعِ 1987 اختارَ أحدُ الشبابِ من الطائفةِ الدرزيّة (السويداء) أن يكونَ شهرُ العسلِ مع عروسِه الجميلةِ في قريتِنا الوادعة، لأنّه يعرفُ بعضَ شبابِ القريةِ من خلالِ عملِهم في السويداء، فبقيَ (عصامُ وورد) نصفَ شهرٍ مَحمولينَ على الرُاحاتِ بينَنا مع غايةِ الإكرامِ والتقدير والمودُة، حتّى أنّ العروسَ قالت لزوجِها: لماذا لا تشتري قطعةَ أرضٍ هنا ونبني فيها بيتَنا بين هؤلاء الناسِ الطّيبين؟؟؟
– في عيدِ الأضحى من عامِ 1408 هجري الموافقِ لشهر تمّوز (يوليو 1988) فاجأني زميلي المسيحيُّ مع أهلِه من بلدةِ (السقيلبيّة) بزيارةِ قريتِنا لتهنئتي بالعيد، وكانَ مع أختِه (التوأم) زملاءَ دراسةٍ في كليّة الآدابِ بجامعةِ حمص، فرددتُ لهمُ الزيارةَ مهنّئاً برأسِ السنةِ الميلاديّة.
– أخي الأصغر – ونحن العربُ من قبيلةِ قيس – وبحُكمِ عملهِ في مدينةِ حلب تعرّفَ إلى إحدى العائلاتِ الكرديّة، وخطبَ ابنتَهم فوافقوا بعدَ حضورِ والدي إليهِم، وتمّ الزواجُ ومازالوا في سُباتٍ ونَبات..
وأنا أفخرُ بأنّ لي صحبةً أوفياءَ من كلّ أطيافِ الشعبِ السوريّ، وبيننا من المودةِ ما (يعدّل المايل) وفي صفحتي هنا أصدقاءُ وقرّاءُ ومتابعون من كلّ تلكَ (الفسيفساء) السوريُة الجميلة، لكنّ العزفَ على وترِ الطوائفِ والمذاهبِ والأعراقِ بأصابعِ الخسّةِ والغَدر جعلَ السوريّين (في حَيص بيص)، يشيطِنونَ بعضَهم ولا يعرفونَ عدوَّهم من صديقِهم، وعلى رأيِ المثلِ (من احترق في الشوربا ينفخ في زبادي اللبن) و( من لدغته الحيّة قطّع الحبال التي تشبهها).
إن الولاءَ لسوريا الوطنِ أكبرُ من أيّ انتماءٍ لدينٍ أو مذهب، أو حزبٍ أو شخصٍ أو فصيلٍ مسلّح أو منطقةٍ مُغلقة، ومادامتْ بوصلتُنا في هذا الاتجاهِ الوطنيّ الجامعِ فإننا مُطمئِنون لتطبيبِ الجراحِ، والنهوضِ من تحتِ ركامِ الجريمةِ إلى هواءِ الحريّة والمستقبلِ وبناءِ الوطن، وإذا بقيَ تفكيرُنا طائفيّاً شائكاً محدوداً فإنّ أعداءَنا – وما أكثرَهم! – سعداءُ بنا، ومن خطورةِ المرحلة وجودُ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ والمنابرِ المُنفلتةِ وغيرِ المسؤولةِ، التي يجرّبُ فيها (كلّ من هبّ ودبّ) صوتَه ليجعلَ من نفسِه (صانع محتوى) فيكونَ بذلكَ كالنافخِ في كيرِ الشرّ ليتطايرَ منه الشّرر، وفي هذا المقام نباركً للحكومةِ التي نتوسّم الخيرَ في كفاءات وزرائِها، ونباركَ العيدَ السعيدَ لكل السوريّين في داخلِ الوطن وشتاتِ المغترَبات، ونهنّئ أمّتنا العربيّةَ والإسلاميّةَ بعيد الفطرِ السعيد، وهنا أقولُ في نفسي:
في بِلادي العاقِلُ اليومَ خائِفْ
مِن نَعيقِ الغِربانِ بينَ الطّوائِفْ
فَاجعَلوا الحُبَّ والتَّعايشَ نَهْجاً
إنّ ماءَ السَّرابِ يا قومُ زائِفْ
*****