Views: 5
راحلون:
بين عام 1943 و يوم أمس السبت 17 أيّار (مايو 2025) كانت فسحة للطفولة والدراسة والعطاء والنزوح واللجوء والقهر والموت.
هكذا كانت حياة الصديق الفنّان والأديب والموجّه التربوي والوطني الغيور:
عبد الرزاق كنجو .
ليس خبر الموت غريباً فهو الزائر الذي يأتي بلا استئذان، لكن لكل موت قصة، ولكل غارةٍ منه هدف لا ينجو منها.
من سراقب الأصالة والجَمال والخصب لفحته شمس الريف وعطّرته رائحة الحصاد، وزيّنت طفولته البيادر، إلى إدلب، إلى حلب، إلى بلغاريا حيث الدراسة والتخرج من كلية الديكور والفنون الجميلة، ثم العودة للوطن الذي يعيش في دمه، ثم موجّها للتربية الفنية في مديرية التربية بمحافظتنا الخضراء الغنّاء الشمّاء إدلب.
أحبّه كل من عرفه، إنسانا وموجّها ومهندساً وتربويا وفلّاحا أصيلاً يعرف كيف يلاطف التراب فيجود، ويعرف كيف يداعب العواطف والأفكار فترق له الصخور العنود.
وفي نكبتنا حطّ الرحال في المملكة العربية السعودية لدى أحد أبنائه، ورغم رغد الحياة ما استطاع البقاء فعاد لإدلب الحرة، وبيته الجميل في سراقب، ثم لمّا زحف الجراد الأصفر والجيش الطائفي واحتل البلدة ودمّرها وهجّر أهلها شتاء 2020، كانت مدينة مرسين التركية مستقرّه، الذي فاض فيها حنينا وشوقا للوطن القريب المنكوب، وبعد النصر تبادلنا نخب القوافي وابتسامات الأمل، وعاد لمدينة إدلب ليشتري فيها بيتاً يأويه، وأرسل لي صورة البيت ودعاني قائلاً بلهجته السراقبية:
(لما تجي على إدلب تعال لنتأدلب، هون بيتك، وبدي أشتري لك بيت جنبي قرب الزيتون الذي يشبه زيتون سراقب وركايا كفرسجنة)
عاجلكَ الموت قبل لقائنا يا أبا وسيم، وكان يضحك حين أناديه بأبي الوسامة نصفِها، فيسألني: ولمَن نصفها الآخر؟ فأجيبه: لمن يلهمنني قصائدي ويرسمن لوحاتك.
كلّفني بمراجعة وتدقيق إصدارة الأدبي الشهير (خبز وزيت)، ورغم كثرة انشغالاتي قبلتُ التكليف وأنجزته له بمحبّةٍ وكتبت له مقدمته النقدية التعريفية، وأدهشني رسمُه بالكلمات كما رسمه بالريشة، واستحضاره لأيقونات الرمز الديني والتاريخي، وتوظيفها لرسم معاناة الأهل وآلامهم وآمالهم في مخاض الثورة وتضحياتها وانتصارها.
حين زارني في إعدادية الركايا في ربيع عام 1997 وكنت أول مدير لها، قال لفريق الموجهين المرافق له: هذه القرية مميزة بمدرستها ومديرها، وخسارة لنا أن يذهب هذا الرجل لدولة الإمارات، فأجبته بخجل: الخير فيما اختاره الله.
ستذكركَ حلب وإدلب والرياض ومرسين وصوفيا، وتبكي عليك سنابل القمح وحصّادات الحقول، وطرقات سراقب التي تشبه عقدةً لشرايين القلب.
سيذكرك زملاؤك وأصدقاؤك وأهلك الافتراضيون والواقعيون بخير ودعاء وشجن فيه مرارة الفقد، ورفيف أجنحة الغياب دون عودة، و سيذكّرنا بك هذا الفضاء الأزرق الذي يضمّ لوحاتك وكلماتك، وأشواقك وتمرّدك على المأساة حتّى صارت نصراً منّ الله عليكَ لتشهده قبل رحيلك.
سنقتات من (خبزك وزيتك) ونعيد قراءته من جديد بعد رحيلك، لنعيد لمس صلعتك المتوقدة، وعقالك العربي الأصيل، ونتأمل عينيك وحركة يديك وأنت تمسك القلم والريشة، في مهرجان الألوان والكلمات.
سأبوح للقراء بأنك اعترفت بحبّك الكبير لي لأربعة أسباب:
اسمي شبيه اسمك، وجَمال كتابتي، وركايا كفرسجنة حبيبتي، والغربة نجاحي وحكايتي..
يطول الكلام ولا ينتهي الحزن يا أبا وسيم، ومبارك لسراقب الإدلبية السورية احتضان عظامك، وعودة نورسها طاويَ الجناحين ليتوسد ترابها الطاهر، ودعاؤنا لله تعالى خالقِ الحياة والموت، بأن يتغمّدك برحمته وأن يجعل مقامك في عليّين، مع الأنبياء والشهداء والصدّيقين والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا، وعزاؤنا من الأسرة الكريمة والصحبة وأهل الودّ، وإنا على فراقك لمحزونون، وإنّا لله وإنا إليه راجعون.