Views: 29
الزمكانية والوعي النازف
قراءة في قصة ” وين بدنا نروح…؟”
للمبدعة دائما الأستاذة Mona Ezildeen
حين يكتب المبدع عن معاناة حقيقية عاشها أو عاين أحداثها فإنه يكتب بوعي، يكون هو الدافع الرئيس لعملية الإبداع؛ هذا الوعي يتحول
إلى إبداع مكتوب يصور هذه المعاناة ويرصد الآلام التي عاشها المبدع أو مر بها أو كان شاهدا عليها، عندها تتحول اللغة من كونها أداة للتعبير إلى صور ناطقة تتحرك، تحكي عن الآلام وتعبر عن الحسرة والانكسار، ويصبح الزمان والمكان من عناصر البناء، وحين يتشكل وعي المبدع ويدرك عظم المأساة يتسرب هذا الوعي إلى النص المكتوب، فيتحول بفعل الوعي إلى قضية من القضايا الاجتماعية التي تبحث عن الحل وتتطلّب العلاج.
وكلما كان تأثر المبدع بقضيته كتبها بوعي ليلفت إليها الأنظار، فيكون حصيلة ذلك إدانة واستنكارا وتنديدا جماعيا، أو تعاطفا ودعما فرديا ، أو دعاءً وتضامنا قلبيا وهو أضعف الإيمان.
وفي قصتها ( وين بدنا نروح..؟) نلحظ هذا الوعي
النازف، والذي تسرب مبكرا لأحداث القصة بداية من العنوان عبر هذا السؤال بصيغته العامية والذي عبر بقوة عن خصوصية الموضوع، ونبهنا نحن القراء لنشارك الكاتبة البحث عن السؤال، وين بدنا نروح؟
وبوعي وعن قصد جعلتنا الكاتبة جميعا والحسرة تعتصر قلوبنا نكرر السؤال؛ أين يذهب من يجبر على التهجير؟، أي وجهة يقصد وأي طريق يسلك؟
ولرصد هذا الوعي النازف من ثقوب ذاكرتها المثخنة بالجراح، عبرت الكاتبة عن معاناتها وبثتها في ثنايا قصتها بداية من العنوان مرورا بالمقدمة بكلمات عبرت بقوة عن حالة الخوف والقهر والحيرة التي يعانيها المهجرون، وقد جاء بالنث…( شقّت صرختُها /جلباب المخيّم المهترئ/قلبي المرتعش/ رقصة الموت).
وهي-الكاتبة- إذا تعبر عن هذه المأساة إنما تعبر بضمير السارد العليم العارف بتفاصيل الأمور ومجريات الأحداث، هذ التعبير الذي تداخل فيه الزمان والمكان، وأصبح المكان مسرحا كبيرا لكل الأحداث، لكن حين انفصل الزمان عن المكان بعد التهجير أصبح الزمان غائما باهتا، تداخل فيه الماضي والحاضر بالمستقبل، وأمسى الزمن قاصرا على اللحظة الراهنة، لحظة الحسرة والحيرة والقلق من مصير مجهول، ومن ثم كان التعبير عن الزمن تعبيرا مشوشا تميز بالغموض الدلالي، وكأنه حين فارق المكان فقد معناه وخصوصيته التأريخية أو الحَدثية وتحول إلى معناه الفزيائي ( الوقت ) فلم يعد يعبر عن الماضي الذي يحمل الذكريات ولا عن الحاضر المعاش ولا عن المستقبل الذي يحمل الأحلام والآمال، وإنما هو فقط ( وقت ) يومان… شهران… سنةٌ… سنتان،
وإن كان تداخل الزمان بالمكان قد أعطي للأحداث هذه الخصوصية وجعل من المكان شاهدا ومسرحا للأحداث، إلا أن التهجير قد قضى على تلك الخصوصية، ورسم ملامح المكان مرة أخرى في ضوء هذه الأجواء الضبابية ( الحصى/ الأتربة القذائف / الحرائق / الركام / الموت ) رسما فنيا متقنا تجمدت فيه كل الصور، ولم تعد تعبر إلا عن تلك اللحظة الراهنة التي توقف عندها الزمن وتجمدت عندها الأحداث حتى بدا المشهد صورة جامدة لكل ما فيها من أشخاص وأحداث(لم أعد أسمع بكاء صغاري/ بدوا كالتّماثيل/ تجمّدت الدّموع في المآق/ ويبست الأشداق/ سكونٌ كالموت)
إنّ ظلم التهجير والنفي يقطع الإنسان من جذوره ويلقي به بعيدا تاركا كل ما يملك، لا يستطيع أن يحمل معه إلا الذكريات، والتي تصبح حملا ثقيلا ، يضاف إلى ما يحمله من أثقال، فيظل الإنسان ينزف شوقا وحنيا كلما مرت بخياله الذكريات، وإن كان عنوان القصة قد وفق إلى حد بعيد في تسليط الضوء على معاناة المهجرين فإن الخاتمة تماهت مع العنوان لتوكد أيضا على هذه الغربة التي بدأت أولا بترك الديار والنزوح للسكن في المخيمات ومساكن الإيواء، ومن ثم ندرك أن التهجير ليس وليد اللحظة وإنما هو حلقة من حلقات الظلم والاضطهاد والمعاناة.
النص…
وين بدنا نروح …؟
شقّت صرختُها جلباب المخيّم المهترئ و الفضاء وصدري.
لمستُ قلبي المرتعش على تواتر نبضه، ضبطت الرّوح؛ ستستيقظ رقصة الموت هناك…
_لا نملك الوقت، بسرعة إلى السّيّارة …يومان فقط ونعود
_وجبةٌ ثانيةٌ للأولاد فقط!
_ بسرع…
تناثر الصّوت مع الحصى والأتربة، حتّت ريح القذائف البيوت وإرادَتنا، انحشرت خطواتنا في الرّكام مجاهدةً لمسابقة الحرائق حتى السّيّارة، وهناك بدأنا أخرى مع الموت الذي يتربّص في منحنيات الطّرق.
_إلى أين سنذهب؟!
_لا أعرف…
حطّت بنا الرّحال في بلدةٍ مجاورةٍ آمنةٍ. تناثرنا في طرقاتٍ فرشها الجليد. بردٌ يزوي الوجوه، يسيل الأنوف، يحجر العيون. صقيعٌ يقشف الأبدان، يدقّ مساميره في الأعضاء، فتنتفض الأحشاء.
لم أعد أسمع بكاء صغاري؛ بدوا كالتّماثيل، تجمّدت الدّموع في المآق، ويبست الأشداق.
سكونٌ كالموت رافق خطواتنا المرتجفة الباحثة عن مأوى.
في بيتٍ كبيرٍ، كان قد خصّصه أصحابه للتّصييف، اجتمعنا مع عائلاتنا، تغطّت أرضه الجرداء بأجسادنا وأقاربنا…
في الظّلام نتحسّس أيّ قطعة قماش، أيّ بساطٍ، أيّ وسيلةٍ ندفع عنهم بها لحاف البرد. لا ماء، لا كهرباء، لا كلمةً يجود بها الّلسان فتكسر الوجوم. لا أدري أهو وجوم الحزن، أم الخوف، أم التّرقب، أم كلُّ ما سبق.
كلّ صباحٍ نكسر الجليد في البحيرة، ونكسر ضلعاً في الأمل، وتستعصي أضلاع الإرادة واالعزم، تنتفخ الأيدي، تحمرّ، تتخدّر حتى ننتهي من الغسل ..
مرّ يومان… شهران… سنةٌ… سنتان …
مرّ زوجي مهاجراً أيضاً.
مرّت الأيّام بعده …
مرّت على حوافّ الانتظار، انتظار الفرج، انتظارٌ لمّ الشّمل؛ انتظارٌ مبهمٌ ختمته تأشيرة سفر .. .
على باب المطار تأمّلت صورة بيتي الذي لم أودّعه، قبّلتها قائلة:
“سنعود بعد يومين”.
؛؛ منى عز الدين