Views: 6
“مطعون بالبيشلي”
حداء النهر
محمد الحفري
ازدادت نبضات قلبها ارتفاعاً أو لعلها شعرت أنه سيقفز من بين جوانحها حين سمعته يرفع صوته إلى درجة الصراخ وهو يقول سائلاً عمها : إصبعي “دوحست” هل أقطعها ؟ أم نداويها ؟
رد وهو يهز رأسه وبصوت لا يكاد يسمع : نداويها.
كانت تعرف أن حديثهما الملغز يخصها وحدها وقد تقصدا ذلك، لأن النهر يفصل بينهما ويمكن أن يلتقطه أي مار بالقرب من المكان.
كلمة عمها أعادت قليلاً من الطمأنينة إلى نفسها، ففيها ضمان لسلامتها وبقائها على قيد الحياة، ولابد أنه قد وجد حلاً لمشكلتها.
فكرت قليلاً والحسرة تدهم قلبها والسواد يكاد يغطي ما بقي من روحها، فهي ليست واقعة في مشكلة وحسب، بل في ورطة حقيقية قد تؤدي إلى قتلها وفضيحتها بين الناس.
لقد عاد والدها في ذلك النهار أقل غضباً من ذي قبل، وقد طلب من والدتها أن تجهزها للزفاف غداً إلى ابن عمها عواد.
ـ الأهبل.
كاد تصرخ بتلك الكلمة وقد أخذتها الدهشة من ذلك القرار المتعجل، لكنها تداركت الأمر ووضعت يدها على فمها، وقد جحظت عيناها من شدة الخوف، ولو شعر والدها أنها تحمل بين أنفاسها ذرة واحدة من الاعتراض على ما نطق به لاستل “شبريته” وغمسها في دمها، لذلك بقي السكوت ساطياً عليها، تستمع لصوت والدتها الهامس وهي ترجوه أن تسير الأمور ضمن مجراها الطبيعي كي لا يثير زواجها من ابن عمها بهذه السرعة الريبة أو الشك من قبل الجيران والأقارب والأصدقاء، وحين ألحت في طلبها، نهض مستفزاً، ضرب الأرض بعصاه الغليظة، وقبل أن يمضي إلى ضفة النهر قال: سأشاور أخي.
الآن ليس في رأسها سوى ذكرى تلك المواعدات الليليلة التي جمعتها مع حبيبها راسم، والفجيعة التي فاجأتها صباح البارحة، وقد كانت من قبلها تنتظر أن يغمرها الفرح عند نهاية موسم الخراف حين يتقدم لخطبتها ويأخذها إليه بعد عرس مهيب، لكن الأمور لم تسر كما تحب وتشتهي وذلك عندما اكتشف أهل الديرة أن هناك أيدي قد تسللت إليهم ليلاً وسرقت بعض الرؤوس من حلالهم، ولذلك نصبوا الكمائن للإيقاع بالفاعل، وشاءت المصادفة أن يأتي حبيبها في ذلك الليل حاملاً أشواقه ولهفته إليها، وحين سمع الصوت الآمر بالتوقف أطلق ساقيه للريح غير أن الرصاص لم يمكنه من ذلك.
والدها هو الوحيد الذي لاحظ أن هذا الشاب الذي كان ممداً أمام الجميع ليس لصاً، ولا يمكن أن يكون كذلك، وملابسه النظيفة والعطر الذي كان يحمله تشير إلى غير ذلك، وقد أحس بشهقتها حين رأته مضرجاً بدمائه صباحاً، وسمعها حين راحت تغني قرب النهر ما يشبه الحداء:
“ياول مطعون بالبيشلي
وساهي العين ضرابي
وأنتو ش عليكم يا هلي
والبلشو حبابي
يا ول حفار وسع اللحد
تاوسد الغالي ”
في ذلك اليوم كانت ترقبهم والحسرة بادية عليها وهم يحملون جثته إلى القبر وقد خمن أنها ستزوره وتبكي عليه وهذا ما حصل بالفعل.
تتذكر الآن لقائهما الأول، عندما شعرت أن النهر قد عاد إلى مجراه بعد أن كان محبوساً في مكان ما، وكيف كان صوته شجياً والرياح تداعب الوشوشات فوق مياهه، وتلاعب أشجار الغرب والطرفاء التي زينته بزهوتها، وفي اللقاءات التي تلته بدت أعشاب الضفاف وكأنهن صبايا يرقصن للحلم المرتجى، لتتناغم مع قبل جمعت عسل العشق وحلاوته في أتون محرقتها التي رفعت نار أشرعتها متعجلة وصل الحبيب وغير عابئة بالعواقب وما يمكن حدوثه فيما بعد.
ـ المهبولة والعايبة هي من تسلم مفاتيحها للرجال من دون تحسب الأمور بشكل صحيح.
فاجأها صوت والدتها وقد جاءها مثل سيف بتار قطع أفكارها وأعادها من شرودها الطويل ووصلت الكلمات إلى طرف لسانها حين أرادت أن تجيبها بالقول:” لست مهبولة ولاعايبة ولكنني عاشقة وحبيبي تركني من دون وداع” وقد استغربت يومها من عدم قدرة لسانها على النطق وبقيت لوقت غير قليل وهي على تلك الحال.
كان الصمت يسطو على كل شيء فيها، ودموعها سحت بهدوء على الوجنتين ولم يسمع صوت بكائها سوى النهر وهي تعبر إلى ضفته الأخرى حيث كان عمها وعائلته ينتظرونها هناك، وكان عريسها يقفز وينط كما الأطفال مردداً:” هئ هئ ، عروسة ، عروسة ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ ” البيشلي” بندقية قديمة
ـ “البلشو” بمعني الحبيب أو الأحباب الذين سقطوا أو ماتوا.