Views: 9
مقدمة احتفائية
لرواية (وكر السلمان) للشاعر والروائي العراقي شلال عنوز
…
ماذا وراء العتبة؟:
“”””””””””””””””””””””
إذا كان العنوان-ونعني عنوان أي نص إبداعي- يمثل عتبة نصية يفترض أن تكون مرنة واسعة الأفق بحيث تستوعب المتن أو تدل على مضمون النص بحسب جيرار جينيت،فالحق أقول إنه يمثل هنا أول نجاحات الكاتب شلال عنوز ،إذ يبدو أنه قد اختاره بعناية فائقة على عدة مستويات:
1-الإيقاع الباذخ الذي سيكون له دور مؤثر في الذيوع والإنتشار .
2-ارتباط المعنى اللغوي والإصطلاحي بالحس الثقافي والشعبي،
*فالوكر لغةً يعني عشّ الطائر وأحيانا يختص به العقاب او الصقر،ولكنه يطلق أيضًا على كل عش في جبلٍ
أوشجر ..
ويطلق على المغارة أو الكهف أو المسكن مجازًا،وقد يطلق على (المقر المشبوه الذي يلجأ إليه ويختبئ به المجرمون،وطريدو العدالة،بحسب معجم المعاني الجامع).. وهذا الجزء الأخير هو الذي عناه كاتبنا،والذي سيتبين واضحًا من خلال عرض مختصر عن الحدث وطبيعة أبطاله..
بينما يرتبط المركب اصطلاحًا بجملة اقترانات عميقة الأثر في الذاكرة الجمعية للشعب العراقي خاصة،لكونه يشي باسم أحد أعتى سجون العالم ،الذي يشكل في الذاكرة الشعبية والسياسية رمز الرعب السلطوي الأكثر رهبة ودموية ،لأنه يجمع إلى جانب كونه سجنًا مؤبّدًا ،سمات المنافي النائية المنقطعة ،مع إشاعات مبثوثة في داخل هذا المنقطع وفي خارجه أنّ من يحاول الهرب فسيكون وجهًا لوجه أمام الذئاب المفترسة..
هذا المناخ على وجه التحديد هو الذي أفاد منه كاتبنا لتخليق فرشة وأجواء مناسبة في الأذهان لمسرودته المكتظة بالغرائبية التراجيدية..
تجدر الإشارة إلى وجود نص روائي بعنوان( وكر الشيطان)لمحمد عوض حسنون،ولكنه يستلهم فيه سمات الشيطان ذات الإرتباط بالمنحى الميثولوجي والسحري والعجائبي،في حين كان عنوان روايتنا شديد الإرتباط بالمنحى الواقعي والسياسي والإجتماعي والسيكولوجي فضلًا عن الدفائن الغريبة، بحيث يترك الباب مواربة على مرحلة بالغة الخطورة والقسوة من تاريخ العراق الحديث..
ضوء على الحدث :
..…………………….…..
حين سألت الكاتب عن الزمن الذي استغرقته فعاليات كتابة روايته حتى لحظات تحويلها إلى المطبعة،وعن غاياته وأهدافه ومراماته الأبستمولوجية التي قد تحتاج إلى تأويل،خاصة وقد وثب إلى ذهني احتمال أُرجِّحُهُ شخصيًّا يخص الشخصية المحورية وأعني”نعمان”،حيث يمكن أن يكون قناعاً ضخمًا ينطوي على مرحلة تاريخية كاملة،ولربما يكون قناعًا إستعاريًّا للشعب برمته،بعد ان تكشفت أمامنا مراياه المتناقضة واعني( البراءات الأولى أو السواء القيمي والسوسيو ثقافي في مرحلته الاولى حتى تخرجه واستيعابه لمطالب واشراط القانون ومدنية الدولة العصرية،ثم فجأة يحدث هذا الإنقلاب العجيب الذي يضج بالنقيض العبثي او الفوضوي أو المأزوم ..
فمن الواضح ان شخصية بطله المحورية من طراز الشخصيات الروائية الحيوية النامية ،بما في ذلك شخصية القطة السوداء ذات الصلة بالمفاهيم الميثولوجية الشعبية الشائعة،والتي كانت في غاية النشاط،بل عميقة الأثر،حد مجاورتها المستمرة كرديفٍ يكاد يوازي بحيويته البطل المركزي،فهي اقوى حضورًا من بعض الشخصيات (المسطحة) او( السكونية)الأخرى،
كون العمل الروائي والقصصي والمسرحي صورة تعبيرية عن الواقع الحياتي مرة،والانثروبولوجي اخرى ،هذا الواقع الذي يضمُّ شتى أنماط الشرائح المجتمعية ،والشخصيات الناشطة والجامدة في آن واحد،وإن اكتنفها الغموض،فالقطة السوداء ليست مجرد مفردة محايثة ،إنما هي رمز تعبيري كبير،يعبر عن وجهة نظر تداولية توسع السياق السردي وتمنحه افقًا وعمودًا يفضح او يكشف عن طريقة تفكير مجتمعية في جغرافية مكانية ما.. وهذ امر يتعلق ادراكه بطبيعة التلقي،وهنا يميز زيجفريد شميث بين السياق الموضوع من قبل الكاتب والوضعية التواصلية 1،وهي حالة تشبه المحايثة او المجاورة كون المتلقي يقوم تلقائيا مرة ،وتحليليًّا نخبويًّا تصعيديًّا مرة،وكلاهما يقوم خلال عملية التلقي بتخليق النص المحاذي او المحايث،بحسب قدرات القارئ بكل تأكيد،وهذا هو مانحاوله مع هذا الرمز الذي دفع به الكاتب لغاية بعينها..
من هذا المنطلق بادرنا في محاولة للإستشفاف بطرح الأسئلة الآنفة على كاتبنا الفاضل
فأجاب قائلًا:
-“وكر السلمان؛ هي رواية استغرقت في كتابتها قرابة الخمس سنوات؛ وسميت بهذا الاسم لأن أحداثها وقعت في قضاء السلمان في محافظة المثنى التي يتواجد فيها سجن (نقرة السلمان) سيء الصيت والذي كان معتقلا ومنفى للسياسيين الوطنيين ورجالات الفكر والثقافة والأدب، وأخذ اسم الرواية من رمزيته الشهيرة الشريرة، وهي رسالة شاهدة على دموية الحرب، وآثارها ودورها الخطير في تعاسة البشرية وشيوع الجريمة في الأرض، لأن الحرب هي الجريمة الأم التي تتناسل منها الجرائم الفتاكة الأخرى في المجتمعات، وهي الجريمة الكبرى التي تورّث أجيالا من المعاقين نفسيا و”نعمان” هو أحد نتاجاتها باعتباره بذرة سيئة منها، وهي رد ايضًا على نظرية عالم الإجرام الطبيب الإيطالي لامبروزو الذي وضع نظريته في كتابه (الإنسان المجرم) والتي أوضح فيها الخصائص والصفات التكوينية للمجرمين، وقال فيها أن المجرمين معروفون بأشكالهم وصفاتهم، فكان كل شخص تنطبق عليه تلك الصفات يؤخذ بوصفه مجرما، في حين أن “نعمان” لاتنطبق عليه كل تلك الصفات التي حدّدها لامبروزو ،خاصة في مرحلته الاولى.
ألرواية تتحدث عن جريمة حدثت أثناء الحرب العراقية الإيرانية، البطل فيها “نعمان”حيث كان من أسرة متوسطة الحال، زرع فيه والداه كل الصفات الحسنة والخيّرة، والده يملك متجرا لبيع الملابس في سوق الشورجة في بغداد وتوفى وهو مايزال في الدراسة المتوسطة، وتولى بن عمته محسن إدارة هذا المتجر، واستمر بالدراسة بدعم والدته وجدته من أبيه، وأكمل دراسته في كلية القانون وكان من الطلاب المتميزين.
نشأت لديه ملكة كتابة الشعر الذي يكتب نثارات منه، أحب زميلة له في الكلية من أسرة أرستقراطية تهتم بالشعر تكتبه وأكمل مراسيم خطوبتها، ثم التحق بالخدمة العسكرية الإلزامية، والتحقت خطيبته بمعهد القضاء العالي، وسيق هو إلى الجبهة حيث تعرض هناك إلى إصابة في رجله اليمنى وبتر جزء مهم من بدنه يتصل برجولته، وهنا حدث الزلزال الذي قاد إلى سلوكه الاجرامي المتأخر ،حيث غادر هو وأمه مدينة بغداد وعادا إلى بيتهم القديم في قضاء السلمان الذي توجد فيه مزرعة اكتشف فيها نفقا كان في غابر الأزمنة مقبرة لإحدى العوائل الملكية السومرية، وفيه كثير من الآثار واللقى الثمينة وأخذ يتردد على هذا الوكر الذي أسماه وكر الشيطان، وبعد وفاة والدته، برزت على مسرح الأحداث قطة سوداء على القارىء الحصيف تأويل وجودها، استدرج خطيبته سناء إلى هذا الوكر وقتلها، ثم أخذ يستدرج أصدقاءه الذين يثقون به ويقوم بقتلهم ودفنهم في ذلك النفق، وبعد اكتشاف أمره قام بتفجير النفق والهروب جهة الصحراء.. نعمان المجرم هو نتاج الحروب العبثية التي عصفت بالوطن والمجردة من كل هدف نبيل، وهو صنيعة ثنائية التطرف في الشخصية العراقية..
…
*أسباب تسمية البطل..
وهذا موضوع سيميائي يستدعي الإلتفات والتركيز..
ترى هل حافظ كاتبنا على إسم االبطل الذي ورده أو شهد عليه في الحدث الواقعي الاصلي؟..
فمعنى نعمان معجميًّا هو التالي:
المعنى الابرز لكلمة نعمان هو ( الدم) ،ومنه شقائق النعمان وهي الورود ذات اللون الأحمر المنقط بالاسود،كما ورد في اللسان لابن منظور والمعجم الجامع..
وهناك معان أخرى تتعلق بالنعمة والترف ،ولكننا نهتم بالمعنى الابرز،إذ يبدو أن أديبنا الكاتب قد اختاره لهذا المقصد بالذات بحكم مآلاته السلوكية الأخيرة..
وقد يكون لهذه التسمية صلة تاريخية بمسلك الملك النعمان بن المنذر،ملك الحيرة ،ولكنه تاويل بعيد..
كما ويرد على الخاطر الملك شهريار وحكايته عبر ألف ليلة وليلة،ولا ننسى الكونت دي ساد الشهير،الذي استنبط علماء النفس من بنيته العقدة السادية،وهكذا يحضر كل فلم سينمائي يحكي عن أصناف شتى من مشاهد القتلة المتسلسلين،وكل هدا الذي ذكرناه ليس تناصّا حدثيًّا وإنما هي طبيعة الحياة البشرية التي تتكرر باشكال متقاربة حد التماثل احيانًا،وكثيرًا ماسمعنا بمقولة( التاريخ يعيد نفسه)..
إنما يخطر على بالنا السؤال التالي:
ترى هل انّ حدث هذه الرواية واقعي شاهده كاتبنا بنفسه أم رواه له شخص آخر ؟..
فجغرافية الحدث( المكان) بالغة الأهمية في عالم القص عمومًا..هذا السؤال فرضه كون الروائي يسكن في محافظة أخرى،والمسافة بين محافظة النجف مسقط رأسه ومحافظة المثنى موقع الحدث المركزي ليست قصيرة،والحال تستدعي المتابعة الحثيثة والتركيز على أدق التفاصيل..
يقول بحراوي في آحدى دراساته” إن المكان ليس عنصراً زائداً فى الرواية، فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معانى عديدة، بل إنه قد يكون فى بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله”1..
فأنْ يكون الحدث واقعيًّا شيء،وأنْ يكون متخيّّلًا شيء آخر؟..
لكنهما في كلا الحالتين خاضعان لمخيلة الكاتب..
كماوأننا لاننكر احتمالية ان يكون بعض المُتَخيَّل المتقن المحترف واقعًا أيضا..
ولابد ونحن بإزاء مثل هذا السؤال أن نسأل الكاتب عن سبب اختياره لجغرافية نائية عن محل إقامته،وهو بكل تأكيد غير ملزم بالإجابة ،لذا لابد ان نحاول استنباط السبب من خلال التمحيص والتحليل ..
*مديات إنفتاح النص الروائي بحكم محموله الفكري والحركي على المشغل السينمي والتلفازي..ومستوى ضرورة هذا التوجه في العراق خاصة..فالتوجه إلى كتابة الرواية متأخر كثيرًا عما شهدنا عليه في الساحة العربية..كما وان اهتمام الكتاب الذين ابدعوا لاحقًا بتقنية توجيه السرد باتجاه الشاشة ليس كما يتوجب،ولهذا كان لابد من كاتب سيناريو رديف يعمل على تهيئة النص للعرض كما اسلفنا..
إنما ارى ضرورة ان يسهم الكاتب في تهيئة المباني بحيث يكون المتن السردي مناسبًا كسيناريو قابلًا للعرض على الشاشة الكبيرة والصغيرة فضلًا عن المسرح اصلًا..واعني ان يضع هذا التوجه في ذهنه بالاساس وقبل الشروع..
ولقد تلمست هذا التوجه لدى الاستاذ الكاتب ،خاصة حلال اختياره إسلوبية المنهج الكلاسيكي في السرد المتعاقب المتوالي للحدث المركزي،وهو امر سيسهل كثيرًا فعاليات الإحالة من الروي الحكائي إلى المشهد السينمي ،وأظن كاتبنا قد اخذ بعين الإعتبار هذا الإحتمال فتبسط في السرد بعيدًا عن العنقدة التشعيبية المتفرعة التي يمكن ان تربك السيناريست والمخرج معًا..كما ومن الفطنة الشروع بكتابة الرواية من خلال هذا المنهج الذي هو المنطلق الولود لكل مابعده من الحداثات..يقول نزار عبدالستار:
“ثمة حقيقة يتجاهلها الجميع وهي أن الشكل الكلاسيكي هو من يجعل الرواية باقية للأبد، وهو الذي يساعد على ولادة عباقرة جدد يكتبون الروايات الجميلة لأن الشكل الروائي يتوافق مع آليات عمل العقل البشري وخزينه الصوري والمعرفي”.*
بقي علينا ونحن في مسك الختام الإشارة العاجلة إلى العقدة السيكولوجية التي خلق من آثارها كافة التحولات السلوكية للبطل ،وبالتالي تخليق الوجه الثاني لمرآة ( وكر السلمان) ..
فلو تساءلنا السؤال التالي:
هل بالغ الكاتب في تحميل شخصيته الأولى كل هذه النتائج الفاجعة ،بحيث صيَّرَهُ قاتلًا متسلسلًا ،وأحاله من إنسان خير إلى بشريٍّ متوحّشٍ رهيب؟!..
لكننا بعد التدقيق سنعثر على الإجابة في نظرية التحليل النفسي لسيجموند فرويد،الذي يؤكد فيها على ان الجزء المفقود من جسد نعمان يمثل التمظهر الفاعل لمركز النشاط الدفين الحافز المتخفي في أناه العليا ..
بقي هناك من يستسلم ،وهناك من يتحمل كاتمًا وجعه أو شعوره بالنقص بل بالدونية،في حين هناك شخص آخر كنعمان( الدم) يتحوّل إلى كائن مأزوم وخطير ،ليكون وجهًا لشريحة غير قليلة من المتخمين بالمقت والغل حد الحقد المأزوم المتوحش..وربما يمثل في الإطار العام نوعًا من الماسكين بزمام احد الحاكميات المركبة في المجتمع الشرقي العربي العراقي على وجه الخصوص..من هنا فإن الإكتفاء بإطلاق صفة الأنانية وحب الذات على بطل هذه الرواية تقصير تحليليٌّ إذا لم يكن قصورًا..فمن يقف وراء هذا العمل أديب واسع الأفق عميق الغور بعيد المدى يقصد كل مفردة في النص،فكيف برموز الرواية المحورية..
الواقع تمنعنا حدود الإحتفاء من السفر الواسع النطاق في هذا الباب خاصة،ولكننا نود الإشارة الجديرة إلى ان شعور البطل بالفقد المركب كان أكبر من حدود حياته الشخصية..وماسناء إلا الرمز الآخر الخفيّ الذي نحتاج إلى تأويله هو الآخر،ولكن( طلع على شهرزاد الصباح ،وبان اثر السهاد على شهريارفي خضم الليالي الملاح)..
آملين العودة مجددًا،لقراءة تفصيلية واسعة لهذا العمل الملهم ،ومن الله التوفيق..
غازي احمد ابوطبيخ
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””
هوامش:
“””””””””””
1-مفهوم التلقي من خلال الإنموذج التواصلي لنظرية زيجفريد شميث،مجلة عالم الفكر،المجلد35،4ابريلص330.
2-حسن بحراوى ،بنية الشكل الروائي ،ص 33 ،1990،المغرب.
.
*مقال بعنوان ” خيبة جيمس جويس”…
“””””””
***
*