Views: 34
التنوّع الثقافي والسكّاني: سلاح ذو حدّين
الدكتور صلاح جرّار
ليس محموداً من وجهة نظر الدراسات الثقافية الحديثة أن يكون المجتمع منغلقاً على نفسه انغلاقاً تاماً، أي لا يسمح فيه بالتنوّع الثقافي والسكّاني ويكون أبناؤه جميعاً ينتمون إلى أصلٍ عائلي واحد ويتحدّثون لغة واحدة ويعتقدون بعقيدة مشتركة ويمارسون ثقافة واحدة لا يحيدون عنها، لأنّ لذلك أضراراً كثيرة على صحّة الجيل وتعليمهم وتطوّرهم وأمنهم، إذ يتحوّل المجتمع إلى ما يشبه حوض الماء الآسن أو السجن الذي لا يتجدّد هواؤه ويؤدي إلى فسادِ الماء والهواء وعدم التطوّر، لأنّ التنوّع الثقافي شرطٌ أساسيّ من شروط التطوّر الحضاري. وتشمل هذه الحالة أيضاً انغلاق بعض المكوّنات الاجتماعية على بعضها داخل المجتمع متعدّد المكوّنات، فإنّ مثل هذا الانغلاق لا يحقّق لها مصالحها أو فرص تطوّرها ونجاحها.
وفي مقابل ذلك فإنّ المجتمع متنوّع الثقافات والمكوّنات السكانية هو مجتمع لديه قابلية للتطوّر واستمرار البناء والنجاح، والشواهد على ذلك كثيرة في البلدان المتقدّمة، غير أنّ هذا النجاح مرهونٌ بشروط أساسية ودقيقة، أهمّها أن يلتزم النظام الحاكم في ذلك البلد بإقامة العدل بين مكوّنات المجتمع والنظر إلى أي فرد من أبناء أيّ مكوّن على أنّه مواطنٌ من مواطني ذلك البلد دون أي تمييز على أساس عرقيّ أو عنصري أو دينيّ أو طائفي أو غير ذلك، فكلّما ساد العدل وضمن كلّ فردٍ حقوقه وواجباته دون أي انتقاص، فإنّ انتماءه إلى بلده سوف يتقدّم على انتمائه العرقي أو المذهبيّ أو غيره.
والشرط الثاني هو أن يعمل النظام الحاكم في ذلك البلد على استثمار إمكانيات كلّ مكوّن وتوظيفها في خدمة البلد وتطويره، ممّا يتيح مجالاً واسعاً للاستفادة من خصوصية كلّ مكوّن وثقافته ومعرفته والتفاعل بين هذه المكوّنات والخصوصيات لإنتاج معارف ومهارات وأفكار جديدة تصبّ في خدمة جميع المكوّنات وبناء البلد وتقدّمه وتفوّقه على البلدان الأخرى.
ومن أهمّ شروط النجاح للمجتمعات ذات التنوّع الثقافي والسكّاني ضمان احترام ثقافة كلّ مكوّن من هذه المكوّنات على أن لا يشكّل أي عنصر من هذه الثقافات خطراً على المجتمع أو يتضمّن فكراً معادياً للمكوّنات الأخرى، وأن يحترم أبناء تلك المكوّنات القوانين والتشريعات المعمول بها داخل البلد.
ومن أخطر ما يهدّد أيّ مجتمع متنوّع الثقافات والمكوّنات أن يقوم النظام الحاكم في ذلك البلد بإقصاء مكوّن منها أو تهميشه أو حرمانه من حقوقه، أو أن يحاول أيّ مكوّن من هذه المكوّنات الاستقواء على المكوّنات الأخرى واضطهادها والاستيلاء على مقدّراتها وفرض سيطرته عليها خدمة لأبناء المكوّن الذي ينتمي إليه وتعبيراً عن تعصبه لهم، أو أن يحاول أحد هذه المكونات أن يستقلّ بذاته وينعزل عن باقي المكوّنات وينفرد بحكم إقليم أو مدينة أو جهة في ذلك البلد. ذلك أنّ هذه المخاطر متى حدث أيٌّ منها فإنّه يهدّد أسس البناء الكلّي للمجتمع ويشجّع سائر المكوّنات على الانفصال أو التمرّد أو الاستعانة بأعداء خارجيّين. وفي حالة إقصاء أيّ من هذه المكوّنات أو تنمّرها على سائر المكوّنات أو انفصالها عنها فإنّ ذلك يشبه سقوط لبنة أساسيّة من لبنات المجتمع مما يهدّد بتداعي البناء برمته وانهياره ويلحق ضرراً بالغاً بجميع مكوّنات المجتمع. وتوجد شواهد كثيرة على صحة هذه القاعدة في محيطنا العربي وفي دول كثيرة في أمريكا اللاتينية ودول القارة الإفريقية وغيرها.
إنّ الخطر الأكبر على أيّ مجتمع في حالة تعرّض أحد مكوّناته للإقصاء، أو محاولة أحد مكوّناته الاستحواذ على السلطة والتسلّط على المكوّنات الأخرى، أو محاولة أحد مكوّناته الانفصال عن المكوّنات الأخرى، أنّ ذلك يترك في جسد المجتمع وفي روحه جرحاً نازفاً وقلقاً دائماً في أعماق المجتمع يصعب شفاؤه. ولذلك فإنّ هذه القاعدة- بما يقوم عليها من شواهد كثيرة في الماضي والحاضر- تشير إلى حقيقتين مهمّتين: الأولى أنّ على كلّ دولة من الدول التي تبحث عن أمنها واستقرارها وفرص تطوّرها ونهضتها أن لا تتخلّى عن أيّ شرط من الشروط التي تحافظ بها على تماسك المجتمع وتلاحم مكوّناته، وهي العدل، واستثمار تنوّع الطاقات والثقافات في بناء المجتمع، واحترام ثقافة كلّ مكوّن من المكوّنات ما لم تكن هذه الثقافة موجّهة ضدّ المكوّنات الأخرى في المجتمع.
والحقيقة الثانية هي أنّ هذه القاعدة هي الضامنة لانهيار دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، لعدم توافر أي شرط من الشروط المبيّنة أعلاه لتماسك المجتمع وتلاحم مكوّناته، فهو مجتمعٌ لا عدل فيه على الإطلاق، وفيه ظلمٌ فادح وإقصاء بالغ شديد لأحد مكوّناته أو لأكثر من مكوّن، وليس فيه أيّ احترام لثقافة المكوّنات الأخرى، ويسعى إلى الانغلاق التام، وعلى ذلك فالمجتمع الصهيوني مجتمع هشّ ومعرّض للانهيار في أي لحظة وليس لديه أيّ فرصة لإصلاحه أو تحصينه ضدّ الانهيار.
ولمــّا كان زعماء الصهاينة منذ النكبة الفلسطينية سنة 1948 يدركون خطورة ما يعانيه المجتمع الصهيوني من آثار التفكك الداخلي على كيانهم وصعوبة تلافي هذه الخطورة، فإنهم يبذلون أقصى جهودهم لنقل هذه الآفة إلى المجتمع الفلسطيني ومجتمعات الأقطار العربية المحيطة كي يضمنوا عدم قدرة هذه الأقطار على استغلال حالة الهشاشة الصهيونية الداخلية لإنهاء الاحتلال، إلاّ أنّه مهما طال نجاح الصهاينة بوسائلهم المختلفة في تأليب المكوّنات الاجتماعية العربية بعضها ضد بعضها الآخر، إلاّ أنّ هشاشة المجتمع الصهيوني لا بدّ أن تبلغ حدّها عاجلاً أو آجلاً مما يؤدّي إلى انهيار هذا الكيان وانتهاء خطره وكلّ ما يسبّبه من توتّرات في المنطقة العربيّة.