Views: 3
ضادنا الجميلة
في الشعر العربي
اثر تعدد المعاني في بلاغة البيت الواحد
اعتنى الشعراء العرب القدامى في قصائدهم بكثرة المعاني في بيت شعري واحد .. اعتناءهم باللفظة الشاردة و الكلمة المناسبة و بجزالة العبارة او الجمل .. وكان اعتناؤهم باللفظ من اكثر اهتماماتهم .. فالمعاني متواجدة دائما .. طالما كانت الالفاظ قائمة .
وقد قيل
اللفظ جسم .. و الروح هي المعاني … و ارتباطهما كارتباط الروح بالجسد .. يقوى بقوته .. و يضعف بضعفه
وهناك من الناس من يفضل اللفظ على المعنى .. فيجعله غايته وكده .. يذهبون الى فخامة الكلام و جزالته .. على مذهب العرب من غير تصنيع .
فقد قال بعض العلماء
اللفظ اغلى من المعنى ثمنا .. و اعز مطلبا
فان المعاني موجودة في طباع الناس .. يستوي فيها الجاهل و الحاذق .. و لكن الأصل هو العمل على جودة الألفاظ .. و حسن السبك .. و صحة التاليف .
وقد مثل ابن وكيع المعنى بالصورة و اللفظ بالكسوة .
فان لم تقابل الحسناء بما يشاكلها و يليق بها من اللباس .. فقد بخستها حقها .. و تضاءلت في عين مبصرها .
وكانت العرب .. تعتبر ان قلة الالفاظ مع كثرة المعاني هي اساس البلاغة .
و البلاغة في اللغة .. ان يقال
بلغت المكان .. اي أشرفت عليه و ان لم تدخله
وسئل بعضهم عن البلاغة فقال
كلام وجيز .. معناه الى قلبك .. أقرب من لفظه الى سمعك .
وسئل بعض الحكماء عن البلاغة فقال
من أخذ معان كثيرة .. فاداها بألفاظ قليلة .. و اخذ معان قليلة .. فولد منها ألفاظا كثيرة .. فهو بليغ .
و قيل
قلة الكلام و ايجاز الصواب
ولابد من القول
ان البلاغة هي غيرها الفصاحة
فالفصاحة .. خلوص الكلام من التعقيد .
و يزعم البعض .. ان البلاغة في المعاني .. و الفصاحة في الالفاظ .
و يستدل بقولهم
معنى بليغ .. و قول فصيح .
ولا بد من الإشارة الى انه .. كثيرا ما حاول الشعراء و تنافسوا في ان يأتوا بعدد من المعاني في بيت واحد .. فكلما احتمل البيت الواحد من الشعر .. عددا من المعاني و الجمل المفيدة .. كان الشاعر مبرزا و البيت متكاملا لغة و بلاغة . فتعدد المعاني .. تتعدد بما في البيت من جمل مفيدة .
ولئن لم يتحدث العرب عن هذا بشكل واضح .. الا ان اهتمامهم به .. تؤكده كتبهم التراثية و ما ورد فيها من حكايات و قصص تتعلق بالموضوع .
وما يؤكد ذلك ايضا .. مناقشاتهم واهتمامهم ببيت المتنبي الاشهر
ازورها و سواد الليل يشفع لي … و انثني و بياض الصبح يغري بي
لقد اخذ هذا البيت المثير من اهتمام ادباء العرب و شعرائهم
و نقادهم لما فيه من معان متعددة و لما فيه من عدد من الطباقات التي لم يصل اليها احد من قبله و لا بعده حتى اليوم .
قد يكون هناك العديد من الشعراء ممن اورد خمسة معان كما في بيت المتنبي .. الا انهم عجزوا عن الاتيان بخمس طباقات في بيت .
يقول ابن ابي الاصبع في كتابه
تحرير التحبير في صناعة الشعر و النثر
فانه .. يقصد المتنبي .. جمع بين عشر مقابلات
قابل
ازور بانثني
وسوادا ببياض
و الليل و الصبح
و يشفع بيغري
و اللفظة لي باللفظة بي
ثم يضيف ابن ابي الاصبع
ولا اعلم في باب التقابل افضل من هذا البيت .. لجمعه ما لم يجمعه بيت لشاعر قبله و لا بعده حتى يومنا هذا .
ويقول ابن جني انه التقى المتنبي فقال له
قال لي ابن حنزابة وزير كافور .. احضرت كتبي كلها و جماعة من الادباء .. يطلبون لي من اين اخذت هذا المعنى . فلم يظفروا بذلك ..وكان أكثر من رايت كتبا .
و يضيف ابن جني
الا انني عثرت بالموضع الذي اخذه منه .. اذ وجدت لابن المعتز مصراعا بلفظ لين صغير جدا .. فيه معنى المتنبي كله على جلالة لفظه .. وحسن تقسيمه .
هو قول ابن المعتز
فالشمس نمامة .. و الليل قواد
ولن يخلو بيت المتنبي من احدى ثلاث
انا ان يكون ألم بهذا المصراع و حسنه .. و صار اولى به
و اما ان يكون قد عثر بالموضع الذي عثر عليه ابن المعتز .. فاربى عليه في جودة الاخذ .
واما ان يكون قد اخترع المعنى و ابتدعه و تفرد به .. فلله دره .. ناهيك بشرف لفظه و براعة نسجه .
من الملاحظ ان الكثير المثير من كتب التراث العربي التي اهتمت ببيت المتنبي .. و ما ذلك الا لما فيه من المعاني المتعددة في بيت واحد
وهناك واقعة اخرى تشير الى هذا الاهتمام حيث ان من بين هذه الكتب التراثية التي اهتمت بكثرة المعاني في البيت الواحد أيضا الكتاب الاشهر .. الاغاني .. فقد جاء فيه
اخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال
لما قال حماد عجرد في بشار يهجوه
نسبت الى برد و انت لغيره … و هبك ابن برد – … امك – من برد ؟
قال بشار
تهيأ له ( يقصد حمادا ) علي في هذا البيت خمسة معان من الهجاء .. قوله
نسبت الى برد .. معنى
ثم قوله
و انت لغيره .. معنى ثان
وقوله
وهبك ابن برد .. معنى ثالث
وقوله
… امك .. شتم مفرد و استخفاف مجدد وهو معنى رابع
ثم ختمها بقوله
من برد .. اي من هو برد؟ .. هو المعنى الخامس
و يضيف
و لقد طلب جرير في هجائه للفرزدق تكثير المعاني .. ونحا هذا النحو .. فلم يتهيأ له اكثر من ثلاث معان في بيت
وهو قوله
لما وضعت على الفرزدق ميسمي … و ضغا البعيث جدعت انف الاخطل
فلم يدرك أكثر من ذلك
اننا من خلال هذه القصة التي اوردها الاصفهاني في الاغاني .. نلاحظ امرا غاية في الاهمية
ان بشار بن برد لما سمع بيت حماد عجرد يهجوه .. لم يهتم بموضوع الهجاء تحديدا .. اهتمامه بما جاء في البيت من كثرة المعاني حيث قام بتعدادها واحدا واحدا ومعنى معنى .. ما يشير الى اهتمام العرب بان يعزز البيت الشعري بأكثر ما يمكن من المعاني .
ولا بد من الاشارة
ان هناك الكثير من شعرائنا الأقدمين بل و المحدثين من انتبه الى هذا الامر فلا تخلو قصائدهم من مثل ذلك
واورد هنا على سبيل المثال قول ثابت بن جابر .. تأبط شرا في هذا البيت
اذا المرء لم يحتل و قد جد جده … اضاع و قاسى امره وهو مدبر
في البيت اربع جمل فعلية مفيدة و اخرى اسمية
و من اجمل ما قرات في قصيدة للأخطل الصغير بشارة الخوري من قصيدته
المتنبي والشهباء و اقصد البيت الثاني في قوله
نادى أبوه عظيم الجن عترته … فاقبلوا ينظرون البدعة العجبا
ماذا نسميه ؟ قال البعض صاعقة … فقال كلا فقالوا عاصفا فابى
لننظر ما في البيت الثاني من الجمل و المعاني
ماذا نسميه .. معنى اول
قال البعض صاعقة .. معنى ثان
فقال كلا .. معنى ثالث
فقالوا عاصفا .. معنى رابع
فأبى .. المعنى الخامس
الله الله لهذا الحوار و لهذه البلاغة في البيت ولهذه المعاني المترادفة في بيت واحد .
و لا بد ان اختم مقالتي بأبيات تحتمل ما ذكرته في مقالتي
من قصيدة
نقش على جبين القمر
سما ليلحق بالعلياء فاتصلا … و جاوز الشمس حينا وارتقى زحلا
الافعال
سما .. ليلحق .. فاتصلا .. جاوز .. ارتقى
وهناك البيت التالي مت قصيدة
الشاعر و الوطن و الزمان
هتفت و رحبت الرياض بركبه … و شدت بلابلها فرد و سلما
الافعال
هتفت .. رحبت .. شدت .. رد .. سلما
اما في البيت الثالث فاقول
اصوغ حرفي و اشقى كي اراه ذرا … فيستحيل جمانا زانه الالق
اكتفي بهذا المقدار من الشواهد على اهتمام العرب
بالبيت من القصيد
…
خالد ع . خبازة