Views: 10
( شمس وقمر )
بقلم .. تامرجاويش
بالأمس ….
ضدان كانا فى هذا اليوم بين ذهاب وإياب بين صباح ومساء فبالصباح كان حوار مع زميل عن ناشئة اليوم وما أصابهم من ذهول عن الواقع وجهلهم بثوابت الدين ومعانى الانتماء وتأثرهم بالفن الهابط وجنوحهم إلى المادية العفنة والنفعية المقيتة .. راح الزميل المثقف يحدثنى عن كثير من القيل والقال مما سمع من هذا الجيل وهو يتألم أشد الألم من هذا الفراغ العقلى والروحى لدى معظم هذا النشء إلا من رحم ربى من الزهور النادرة التى نتعزى بها وسط هذا الغثاء التعليمى والمجتمعى .. ورحت أحدثه عن جيل لايسمع نصحا ولايفقه حديثا يستخفه كل تافه وغث فإن حدثته عن واقع عالمى وخطر محدق أصبح يتربص بأمتنا وجدته يعيش فى شرنقة لا يريد الخروج منها وغيبوبة لا يريد الإفاقة منها ولا يريد أن يتخطى حدود عقله المحدود وخياله المقيد المحصور فى لعبة أو غنوة أو رقصة لأحد الماجنين .. رحت أحدثه عن جيل إذا نبهته لعيب فيه وصرفت له النصح رآك عدوا مالم تقبله كما هو !!! ورأى من يزين له اللهو والكذب والغش والنفاق وحدثه فى تفاهات الأمورحبيبا صديقا .. أمامن يبنى عقله ويوسع أفقه ويوقظه من الثبات ويخرجه من الشرنقة التى يسكن فيها ليرى نور الحياة فهو العدو اللدود الذى يحاربه بكل الوسائل وأولها الشائعات والإفك والكذب وهو بلا شك فى ذلك خبير على يد خبراء من مجتمع لا شك مدان وينتظر العقاب الإلهى وأصبح على شفا سنة الاستبدال إذا لم يدركه لطف الرحمن .. رحت أحدثه عن جيل سريع التقلب تلهو به كلمة ويسوقه شعور دون وعى يفعل مايخطر بباله ويقول ما يغازل لسانه مندفعا طائشا دون تحر لدقة أو تمحيص لخبر .. رحت أحدثه عن كثير من الناشئة الذين لا يحملون للمعلم هيبة ولا توقيرا وإن تقربوا منه فلمصلحة مادية .. رحت أحدثه عن صدمتى فى كثير منهم ومنهن كنت أحسبهم وأحسبهن قطعة من القلب ولكنهم فجأة يتلونون بألف لون وترى منهم مايسوء بمجرد انتهاء المنفعة حتى استحضرت أفعالهم للذهن قول الفيلسوف :
” الحب والكراهية طاقتان جبارتان فلا تصرفهما لمن لا يستحقهما ” فلا تملك إلا أن تتأوه ألما وأنت ترفق بآلة قلبك التى عملت بأقصى طاقتها مع من لا يستحق وترى بعين البصيرة – بعد فوات الأوان- عين لئيم خبيث نظرت إليك بمبدأ المنفعة وأظهرت لك من الود ما خدعك وهى تطوى على حقد دفين مقيت يرسم لك الصور ويؤول لك كل فعل وقول بالهوى المريض فبئس تلك العين ومن حملها وبئس عقلا مريضا آسنا يرسل لها إشارات العفن والركود .
ويشاء الحليم وهو يعلم ما يعتمل فى القلب من الألم منذ الصباح أن يرسل لى هديتين فى مساء العودة بعد شقاء العمل مايقرب من ثلثى اليوم وأنا أقف على قارعة الطريق منتظرا سيارة تقلنى للمنزل الذى يشتاقه جسدى المنهك وعقلى المجهد وقلبى المتعب
سيارة تتوقف فجأة وأنا أسمع صرير الفرامل يملأ أذنى وأرى ” أميرة ” إحدى بناتى الغاليات المؤنسات من جيل سبق وليس ببعيد عقد ونصف لم أرها منذ كانت بالثانوية وهى تهل مع الرفاق والرفيقات على حلقات الدرس
ملامحها لم تتغير كثيرا ولاتزال ببهاء قلبها النقى وروحها الظليلة .. لم أنتبه لنزولها هى وامها الفاضلة من السيارة قبل منزلها بمسافة سيكملانها على الأقدام وما كانتا فى حاجة إلى ذلك لولا رؤيتى.. انتبهت إلى صرخة باسمى ووجه قمرى يهل من بعيد ويستدير بدرا باسما أمامى ووقفنا نتجاذب أطراف الحديث ونختصر السنوات ونسابق الوقت الذى سيسمح به هذا اللقاء ليغرف كل منا للآخر مما يشتهى من أخبار فعلمت أنها زوجة المستشار فلان ولديها طفلان جميلان وتعيش فى مدينة كذا بمحافظة كذا .. همت بالانصراف وودعتها وأمها بعبارات الحب والسعادة بلقائهما وودعتنى وهى تقول لأمها هذا أبى الروحى الذى علمنى كيف أكون إنسانة !!!!!
لم تكد ” أميرة ” تنطلق لحال سبيلها وأنا فى خمرة كلماتها النديات حتى كانت صرخة شبابية هذه المرة أعادت إلى الصحوة بعد ذهول السرور
سمعتها تقول بلهفة وسعادة :
” لا أصدق أما مفاجأة ” فاستدرت لأجد “محمود” الفتى الثلاثينى ويقفز إلى قلب شعور غامر بالبهجة والسعادة ما تلك النفحات التى تنفح على فى هذه الساعة التى بلغ فيها ذروة التعب بعد ثلاث عشرة ساعة من العمل أرهقت الذهن وضاعف إجهادها هذا الألم النفسى الذى أشعر به منذ الصباح؟!! .. لم أتمكن من السيطرة على صرختى أيضا وأنا أفتح ذراعى لهذا الفتى الذهبى وأقول ” واد يا محمود !! ” ونتعانق طويلا والابتسامة تخط وجهه الملائكى وهويقول : ” أوحشتنى كلمة واد يا محمود كم أشتاق لسماعها ” .. والواد محمود هذا طبيب بشرى رائع كان عائدا من القاهرة للتو لنلتقى صدفة بعدما يقرب من عقد من السنوات بعدما التقينا حينها صدفة أيضا – وهو بالامتياز- بمستشفى دمنهور العام مع حالة قريبة مصابة بالجلطة لأجد هذا الحبيب يضع يده فى ذراعى من الخلف ونتعانق بشوق ولم يكد يتعرف منى عن سبب تواجدى هناك حتى وجدته يصرخ فى مجموعة من الأطباء تزيد عن الخمس فيقفزوا للتو حول الحالة ولم يتركونا لحظة حتى استقرت الحالة فى الإفاقة على سريرها آمنة ولم أشعر بالاجراءات الورقية إلا وهو واثنين من زملائه يسلموننى ملف الحالة ويجلسون معنا بالغرفة بعد هذا الجهد وكأنهم ملائكة ترفرف علينا بأجنحتها البيضاء .. شعرت بالفخر وسط من حولى من الأقارب وهم يتعجبون وأنا أتعجب أيضا كيف يستطيع طبيب فى الامتياز أن يحرك كل هذا الحراك فى مستشفى ضخم كهذا يمضى فيه الطبيب سنوات ولا يكاد يعرف بضعة أسماء ممن يعملون معه فى القسم التابع له ولكنها أخلاق هذا الفتى الذهبى وروحه البشوشة ووجهه الطلق ..
أطبق المساء ومحمود ينصرف مودعا بعد ربع ساعة نظمنا فيها عقدا من ألمع ذكرياتنا معا .. انصرف محمود ولكنه وأميرة يشرقان فى قلبى وروحى كالشمس والقمر فيذوب الألم بنفحات الماضى من تلك الزهور من هذا الجيل الذى سكن القلب وسكنت قلبه ويزداد الشعور لدى بالرجاء أن تمر السنون سريعا لننتهى من هذه المهنة التى تلوثت بالآلاف من الآفات والمسوخ البشرية وتقاعس المجتمع عن التطهير ولا زال يتقاعس والزمان يتسارع والغثاء يزيد والألم يتضاعف أود أن أغمض عينى فأجد نفسى خارج هذه الوزارة التى أصبح اسمها حلية جوفاء .. أريد أن أحتفظ بهذه النفحات الطيبة التى هف نسيمها اليوم والتى أخشى أن يزاحمها فى السنوات القادمة فى النفس آلام وآلام باتت متوقعة من هذا الغثاء القادم
ولا حيلة لنا إلا الصبر .
بقلم … تامر جاويش