Views: 3
(الحطاب راعي غابة الشعر)
اضاءة لقصيدة (أينعت الذئاب) للشاعر جواد الحطاب
أينعت الذئاب
وحان وقت قطافنا ..
ومثل أرملة تأخّر ابنها الوحيد
ألوب والعتمة ..
فقد أغلقت الكلمات ابوابها
وأَحَدُ ابيات قصيدتي
لم يأتِ بعد ..
يتها القصيدة ..
أكلّما انهمر الغياب على النوافذ
تحيكين أمطاري
فساتين لعري الليل
وتنسينَ خراف ابتهالاتك
على طرق السماوات ..؟
يتها القصيدة ..
يا الحامض النووي لحماقاتي
حرّري الصخرة
من عبودية الشاطيء
وافرشي للفجر
سجّادتك الحمراء
فثمّة من يطرق بابي
ثمّة من يطرقني ..
ثمّة ..
من ..
يطرق ..
فِي الْبَدْءِ نقف عند العتبة الغرائبية للنص في العنوان المبتكر ، ومدخلاً رمزياً لفهم النص وتأويله. في قصيدة،(أينعت الذئاب)، للشاعر جواد الحطاب، يبرز العنوان كعتبةٍ تحمل إيحاءاتٍ غنية تستدعي التمحيص من ناحية الانزياح اللغوي والتضاد الدلالي. وحين نَلِج في التناقض الظاهري ليجمع العنوان بين كلمتين متنافرتين دلالياً (أينعت) والتي ترتبط بالنبات والخصوبة والجمال وبِكل ما هو مرتبط بالأنبعاث، و( الذئاب) وهي رمز للتوحش والافتراس..، هذا الانزياح يخلق صدمةً شعريةً تجذب القارئ، وتدفعه إلى البحث عن تفسير لهذا التزاوج غير المألوف. وهذا التزاوج في معانيه الخصبة الأنسانية التي يؤثرها الحطاب من خلال تحويل الذئاب الكائنات الحية المُفترسة إلى كائنات تنبت أو تزهر ليُضفي عليها طابعاً غرائبياً، وكأنها جزء من مشهد طبيعي مُتحوّل، ليعكس لنا صراعاً بين الوحشية والجمال، أو بين الفناء والخلود.
فالذئاب تقليدياً تنحى إلى القسوة، والحرية، أو إلى التهديد الخفي..، لكن إقرانها بـالإيناع قد يشير إلى تحوُّل هذه الرموز. ف الإيناع قد يكون استعارةً لانبعاث قوةٍ كامنة، أو لظهور خطرٍ كان خامداً (كالثورات، أو الصراعات الداخلية).
وقد يُقرأ العنوان في ضوء السياق التاريخي أو الاجتماعي العربي، حيث تُصوَّر الذئاب كقوى مضادة (داخلية أو خارجية) تكتسب قوةً مفاجئة، بينما “الإيناع” يُحيل الصورة الدينامية إلى لحظةٍ حرجة من النضج أو الانفجار، وبين قوة العتبة والتناقضات الطبيعية يثير العنوان تساؤلاتٍ حول ثنائيات الوجود( الوحشية مقابل الإبداع)(الموت مقابل الحياة)، فـ إيناع الذئاب قد يكون تعبيراً عن هشاشة الحدود بين هذه المفاهيم. مما يدعونا إلى التشكيك في المألوف بتحويل الذئاب إلى كائناتٍ تُزهر، ف يُشكك الشاعر الحطاب (والشك يقين) في التصنيفات الثابتة للعالم، مُلمحاً إلى أنَّ الطبيعة والإنسان قادران على تجاوز التوقعات. ليضع العنوان للقارئ في مواجهةٍ مع لغزٍ يُحتِّم عليه الغوص في النص لفكِّ شفرته. فـ (أينعت الذئاب) ليست مجرد صورةٍ شعرية، بل هي مفتاحٌ لمواضيع القصيدة المركزية ومدخلاً إلى الصراع بين الحضارة القاتمة والبرية ليُطرح التساؤل: هل تُزهر الذئاب؟ لأن البشر أخفقوا في ترويضها، أم لأن الطبيعة استعادت سلطتها؟
مما يعكس العنوان أزمةً وجوديةً للذات أو المجتمع، حيث تختلط السمات المُتعارَضة في كينونةٍ واحدة. وهنا لابد أن أُشير إلى الأنزياح والإيقاع الصوتي يسمى بالجناس الناقص ليحقق العنوان تناغماً صوتياً بين أينعت و الذئاب، مما يُعزز تأثيره الجمالي حتى قبل قراءة النص. لِيخلق جواً من الإثارة لكلمة (الذئاب) حتى في معناها الترميزي والوجودي ك كابوسٍ، لتُثير الإحساس بالقلق، بينما (أينعت) تُذكّر بدورة الحياة، مما يخلق إيقاعاً متناقضاً يعكس صراعاً داخلياً. أينعت الذئاب ليس مدخل للعنوان، بل هو عتبةٌ مُحمَّلةٌ بالأسئلة الفلسفية والاجتماعية. تدفع القارئ إلى استكشاف التناقضات الكامنة في النص، وتُعيد تعريف المفاهيم عبر الانزياح اللغوي..
جواد الحطاب من خلال هذه العتبة، يُشيد عالماً تذوب فيه الحدود بين( الوحشي والإنساني)، بين (الخصب والدماء) مُتحدياً القارئ لرؤية ما وراء الظاهِر المألوف..
تُعتبر قصيدة أينعت الذئاب للشاعر جواد الحطاب نموذجاً مكثفاً لقصيدة النثر العربية الحديثة، حيث تدمج بين الصورة الشعرية المبتكرة واللغة الرمزية الغنية، لتطرح أسئلة وجودية وفنية حول الإبداع والغياب والانتظار. فلا يسعنا إلا أن ندلي بدلونا فيما تتخذ رؤانا من تحليل لأبرز عناصر القصيدة في الصورة الشعرية والمجازات بمفارقة لافتة كما أسلفنا، أينعت الذئاب / وحان وقت قطافنا. الذئاب، رمز التوحش والافتراس، تُصوَّر هنا كثمار ناضجة، مما يُشير إلى تحوّل المفاهيم أو نضوج الألم. قد تكون هذه الصورة تعبيراً عن فكرة أن الشرور (الذئاب) تصل إلى ذروتها، فتُصبح قابلة للقطف وقطاف المواجهة يُعبر عن الاحتدام والصراع بين نقيضين.
الأرملة والابن الغائب/ التشبيه هنا في اللغة الشعرية الترميزية يُستخدم لربط الصور الملموسة بالمعاني المجردة عبر مقارنةٍ ظاهرة مما يخلق طبقات رمزية تتيح تأويلات متعددة وتكثيف الدلالات العاطفية أو الفكرية بشكل غير مباشر.
فالأرملة تنتظر ابنها الوحيد المتأخر يُجسّد الشعور باليتم الروحي والفقدان. والانتظار هنا ليس مجرد غياب، بل هو عتمة وجودية. (ألوب والعتمة)، حيث يصبح العودة إلى الذات مرادفاً للغرق في الظلام بمكابدة يشفها العتم لدرجة ألم يستسيغه فقط من يعانيه.
/الكلمات المُغلَقة/: يُصوّر الشاعر عجزه الإبداعي عبر صورة “الكلمات التي أغلقت أبوابها، وكأن اللغة نفسها ترفض أن تكون أداة تعبير، بينما بيتٌ من القصيدة /لم يأتِ بعد/، مما يُشير إلى الإحساس بفجوة في المعنى، أو عدم اكتمال الغصة في الوصول لتوصيف المعاني الحسية بمخاض يكابده ذياك الفيض الهادر من الروح المرهق الذي لا يكفيه أو تُعَبِرُ عنه الكلمات حتى لو أتت فيما بعد .
نتلمس من خلال حوار الشاعر حين
يخاطب قصيدته بنداءين متتاليين (يتها القصيدة)، مما يُحوّلها إلى كيان مستقل، بل إلى شريك وجودي:
/القصيدة كـحامض نووي/ يصفها بأنها الحامض النووي لحماقاته، أي أنها الجوهر الوراثي لأخطائه وهفواته. هنا، تُصبح الكتابة عملية كشف عن الأعطاب الداخلية، وليست مجرد إبداع جمالي فقط.
القصيدة والحِراك الوجودي: يطلب منها تحرير الصخرة من (عبودية الشاطئ) كناية عن تحرير الثابت (الصخرة) من حدود الزمن (الشاطئ الذي يُغيِّره المد والجزر). هذا الطلب يعكس رغبة الشاعر في تحرير الذات من قيود الواقع، وتهيئة أرضية جديدة للفجر (سجّادتك الحمراء)، ربما كرمز للأمل أو الثورة، وهنا السجادة الحمراء مجازًا تعكس التمييز والاحتفاء الاستثنائي.
التناغم الآسر في الإيقاع والبنية للتكرار والتقطيع البصري :تكرار عبارة (ثمّة من يطرق…) مع التقطيع التدريجي للجملة (“ثمّة .. / من .. / يطرق ..) يُحاكي صوت الطرق المتقطع، مُشكِّلاً إيقاعاً قلقاً يزيد من حدة الترقب. الفراغات بين الكلمات تُضفي طابعاً درامياً، كأن الصمت نفسه جزء من النص. مما يشكل انزياحات لغوية: مثل (انهمر الغياب) مما يستشف المعنى في انزياح التوصيف للغياب كمادة سائلة)، و(خراف ابتهالاتك) (جمع بين الخراف كرمز البراءة والابتهالات كصلاة)، مما يخلق لغةً هجينة بين الواقعي والمتخيل.
ومن الواجب أن نقف على الثيمات الرئيسية:
(الغياب والانتظار): يهيمن الغياب على القصيدة، من غياب الابن إلى غياب الكلمات، وصولاً إلى الطرق الغامض على الباب. والانتظار هنا ليس سلبياً، بل هو فعل مقاومة ضد العدمية. مما يعكس الصراع بين الإبداع والعجز فيُجسّد الشاعر أزمة المبدع الذي تحاصرُه اللغة نفسها، فالقصيدة التي من المفترض أن تُحرِّره تصبح جزءاً من إحباطاته (وتنسينَ خراف ابتهالاتك).
لعلها دعوة إلى( تحرير الصخرة) و(فرش السجادة الحمراء للفجر) تُعبّر عن محاولة لتجاوز القيود، سواءً كانت اجتماعية أم وجودية، وخلق مسار جديد للوجود..
قصيدة شاعرنا الحطاب مرآة للذات العربية: وقد تُقرأ القصيدة في سياق الثقافة العربية المعاصرة، حيث يُعبّر الشاعر عن إحساسه بالعجز أمام واقعٍ مُعقَّد، بينما يطرق، الباب، قادمٌ مجهول (ربما التغيير، الموت، أو الثورة).
فالقصيدة بانزياحاتها ترفض الشكل الكلاسيكي، مستعينةً بالانزياحات المجازية والبنية التصويرية، ما يعكس سعي الشعر العربي الحديث إلى تجاوز الأطر التقليدية.
وهذا ما يُميز الحطاب وديدنه في الصورة المكثفة بكل معنيها الوجدانية والترميزية.
في الإجمال، القصيدة تُجسّد أزمة الإنسان بين سعيه للتحرر واستسلامه لعبثية الانتظار.
علاء الدين الحمداني