Views: 6
قراءة في قصيدة أرحام الحياة
للشاعرة القديرة
د. ريهان القمري Reehan Alkamary
أرحامُ الحياة
العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ ، و الربيعُ شتاءُ
كل سَيَفْنى في الحياةِ لأنَّها
زيفٌ …وما للتابعين بقاءُ
مَلِكٌ سيخلعُ مُلكَه ، تحت الثرى
تتعادلُ الألقابُ و الأسماءُ
كل سيؤكلُ في طعامِ دويدةٍ
القلبُ و العينانِ و الأحشاءُ
*******
قلبي كطفلٍ سارحٍ بين الربى
يعدو و يقفزُ مثلما العدَّاءُ
غَنَّى مع الأطيارِ يرقبُ سربَها
واخضوضرت في خطوِنا الصحراءُ
طارتْ فراشاتٌ تُحَلِّقُ حَولَنا
وتوقفتْ من أجلِنا الأنواءُ
لكنَّها الدنيا تُبَدِّلُ حلمنا
دوما تسود ال ح ر بُ و البغضاءُ
*********
يا قلب يُعقل أن تفيض محبةً
فيعود في سهمِ الحقودِ جزاءُ ؟
الغشُ يحكمُ و الضمائرُ بيننا
تحتَلُّها الأطماعُ و الوسطاءُ
عشتُ الحياةَ و كلُّ همي أن أرى
صدقَ الورى ؛ لكنني حمقاءُ
بانَ الكذوبُ أمامَ عيني ؛ فامَّحَى
وازداد فوقَ الغربةِ الغرباءُ
وُئِدتْ بقلبي طفلتي حتى طَغَتْ
تلك العجوزُ المرأةُ الخَرْساءُ
واعتدتُ أمشي في الطريقِ غريبةً
كم أرهقتْ أسماعيَ الضوضاءُ
أيقنتُ أني و الأنا بسفينتي
ويقودُ ذاتيَ نورُها و سماءُ
********
كيف الشموع تُضاءُ في وَسطِ الدجى
إن لم يَكُن بين اليدين ضياءُ ؟!
هذا السؤالُ المستمرُ جوابُهُ
جعلَ المحالَ يقينُه إعياءُ
وتظلُّ روحي في السؤالِ حبيسةً
وجوابُه بين الضلوعِ شقاءُ
لكنني لا أستسيغُ هزيمةً
حتمًا سيق ت حمُ الظلامَ سناءُ
أزهو …و أرحام الحياةِ تبوحُ لي :
” إن النماءَ جذورُه حَوَّاءُ ”
مهما نراها في احتراقٍ كاملٍ
بين الرمادِ ستولدُ العنقاءُ
منذ العتبة الأولى، تقدّم لنا الشاعرة عنوانًا مزدوج الدلالة: “أرحام الحياة”، وكأنها تُمسك بطرفَي الوجود: الألم والخلق، الاحتراق والبعث، الموت والحياة. فكلمة “أرحام” لا تحيل فقط إلى أصل التكوين، بل تتجاوزه إلى كل ما يُنبت ويولَد ويعاد تشكيله، حتى وإن بدا محترقًا أو ميتًا. إنها دعوة مبكرة للتأمل في دورة الحياة، لا بوصفها خطًّا مستقيمًا، بل كدائرة تتكرر فيها الولادة من الرماد.
في مجرّة الشعر، هناك نجومٌ لا تكتفي بالبريق، بل تترك أثرًا في مجرّد عبورها… وهنا، تحت هذا العنوان العميق “أرحامُ الحياة”، نكون أمام قصيدةٍ لا تكتفي بطرح الأسئلة الوجودية، بل تغوصُ في لُجّة الإنسان، تفتّش عن بذرة النور في رحم الألم، وعن ميلاد الحقيقة في رُكام الزيف.
تمضي الأبيات كأنها صدى قلبٍ خُذِلَ مرارًا، لكنه أصرّ على النبض. تنثرُ الحروفُ شجنًا نقيًا، تُعانق في آنٍ واحد وجدان القارئ ووعيه، حتى تكاد تشعر أن كل بيتٍ كُتب من شرفة الروح على اتساعها.
في هذه القصيدة، لا الموت نهاية، ولا الحزن مُطلق، بل كلّ انطفاء هو وعدٌ باشتعال جديد، وكلّ أنثى صامتة تحمل في رحمها عنقاءً قادمة.
العمرُ يمضي و الحياةُ عناءُ
صيفٌ خريفٌ، و الربيعُ شتاءُ
الشاعرة تفتتح قصيدتها بتأمل وجودي: العمر يركض، والحياة لا تمنح راحة؛ فحتى الفصول تختلط، والبهجة تتحوّل إلى برد، كأن لا شيء يبقى كما هو، ولا طمأنينة دائمة.
كل سَيَفْنى في الحياةِ لأنَّها
زيفٌ …وما للتابعين بقاءُ
تعلن هنا حقيقة فادحة: أن لا أحد ينجو من الفناء، لأن الحياة في جوهرها خدعة متقنة، ومهما تبعها الإنسان فلن يحظى بخلود.
مَلِكٌ سيخلعُ مُلكَه، تحت الثرى
تتعادلُ الألقابُ و الأسماءُ
حتى الملوك، بأبهتهم وجبروتهم، ينتهون في ذات التراب الذي يضم البسطاء. في الموت، تتلاشى الفوارق، وتغدو الألقاب مجرّد صدى باهت.
كل سيؤكلُ في طعامِ دويدةٍ
القلبُ و العينانِ و الأحشاءُ
صورة عميقة قاسية، ترسم مصير الجسد الإنساني. نحن، مهما تعالينا، سنصير غذاءً لدودة، ولن ينجو من ذلك حتى القلب والعين، مصدرَي الحب والرؤية.
قلبي كطفلٍ سارحٍ بين الربى
يعدو و يقفزُ مثلما العدَّاءُ
تبدأ الشاعرة بتصوير القلب بريئًا حرًا، كطفل يلهو في المروج، ممتلئًا طاقة وحياة، دون قيود أو خوف.
غَنَّى مع الأطيارِ يرقبُ سربَها
واخضوضرت في خطوِنا الصحراءُ
القلب كان شريكًا في نشيد الطبيعة، يلاحق الطيور، حتى أن الصحراء القاحلة اخضرّت تحت خطاه، في دلالة على الأمل والفرح الذي كان يسكنه.
طارتْ فراشاتٌ تُحَلِّقُ حَولَنا
وتوقفتْ من أجلِنا الأنواءُ
عالم من الأحلام، حيث الفراشات ترقص حول الحالمين، وحتى الرياح تهدأ احترامًا لهما، كأن الطبيعة تبارك هذا الصفاء القلبي.
لكنَّها الدنيا تُبَدِّلُ حلمنا
دوما تسود الحربُ و البغضاءُ
وهنا الانقلاب: تتبدد الأحلام، ويعلو صوت الحرب على أنشودة السلام، والبغضاء تطغى على البراءة، كما لو أن الحياة تأبى الثبات على خير.
يا قلب يُعقل أن تفيض محبةً
فيعود في سهمِ الحقودِ جزاءُ؟
نداء للقلب الطيب، تستنكر فيه الشاعرة: أيمكن للمحبة أن تُقابَل بالحقد؟ أيُعقل أن يكون جزاء الطهر هو الطعنة؟
الغشُ يحكمُ و الضمائرُ بيننا
تحتلُّها الأطماعُ و الوسطاءُ
تصور الواقع المؤلم: حيث أصبح الغش قانونًا، والضمائر تُباع وتُشترى، وتخترقها مصالح الوسطاء.
عشتُ الحياةَ و كلُّ همي أن أرى
صدقَ الورى؛ لكنني حمقاءُ
اعتراف مؤلم بنُبل الحلم وبسذاجته. كانت تحيا على أمل أن تجد الصدق في الناس، لكنها تعترف بأن ذلك كان حلمًا ساذجًا.
بانَ الكذوبُ أمامَ عيني؛ فامَّحَى
وازداد فوقَ الغربةِ الغرباءُ
الكاذب انكشف وسقط قناعه، لكن بدلاً من أن يقلّ الزيف، تكاثرت وجوه الغُرباء من حولها، وتفاقمت غربتها في العالم.
وُئِدتْ بقلبي طفلتي حتى طَغَتْ
تلك العجوزُ المرأةُ الخَرْساءُ
استعارة مؤلمة: “الطفلة” قد تكون براءة أو حلمًا أو شعورًا رقيقًا، وقد وُئدت، ليعلو بدلاً عنها صوت الجمود، القسوة، أو السكون العقيم، الممثلة في “العجوز الخرساء”.
واعتدتُ أمشي في الطريقِ غريبةً
كم أرهقتْ أسماعيَ الضوضاءُ
تسير وحيدة وسط ضجيج لا يرحم. الغرابة ليست في الغربة الجغرافية بل في غربة الروح، والصخب يزيدها وحدة.
أيقنتُ أني و الأنا بسفينتي
ويقودُ ذاتيَ نورُها و سماءُ
إعلان استقلال: لا أحد ينقذ أحدًا. هي وقلبها، تمضيان في مركب الحياة، يقودها بصيص داخلي، نور الذات وسموها.
—
كيف الشموع تُضاءُ في وَسطِ الدجى
إن لم يَكُن بين اليدين ضياءُ ؟!
تساؤل وجودي عميق: كيف نحارب الظلام، وننير العتمة، إن لم نحمل النور بأيدينا؟ المسؤولية ذاتية.
هذا السؤالُ المستمرُ جوابُهُ
جعلَ المحالَ يقينُه إعياءُ
البحث المتواصل عن معنى، عن حل، أنهكها. صار اليقين بأن المحال محالًا عبئًا على روحها.
وتظلُّ روحي في السؤالِ حبيسةً
وجوابُه بين الضلوعِ شقاءُ
الروح أسيرة السؤال، تبحث عن أجوبة تسكن داخلها، لكنها مؤلمة، لأنها تحرق وتنهك.
لكنني لا أستسيغُ هزيمةً
حتمًا سيقتحمُ الظلامَ سناءُ
تنهض من الرماد كالعنقاء. ترفض الهزيمة، وتؤمن بأن النور، مهما طال الغياب، سيشُقُّ طريقه في العتمة.
أزهو… و أرحام الحياةِ تبوحُ لي:
” إن النماءَ جذورُه حَوَّاءُ ”
تفتخر بأنها من رحم الحياة، وأن النمو، التجدّد، الإبداع، له أصل أنثوي – حواء – كأن الخصب الأول في الكون أنثويٌ ومقدّس.
مهما نراها في احتراقٍ كاملٍ
بين الرمادِ ستولدُ العنقاءُ
الصورة الختامية: حتى لو بدت حواء (أو الحياة) محترقة تمامًا، فإن من رمادها تُخلق العنقاء، رمز البعث والنهضة المتكررة. إنها دورة الحياة، ومجد الأنوثة في الخلق من الرماد.
تُشيّد الشاعرة بنيان قصيدتها على ثنائية وجودية شديدة التوتر: الحياة بوصفها مشقة، والموت كعدالة مُطلقة؛ البراءة التي تُوأد، مقابل القسوة التي تعلو؛ الحلم الذي يتبدّد، مقابل واقع يحكمه الزيف.
إنها لا تقدّم خطابًا سوداويًا محضًا، بل تنسج رؤيتها الفلسفية من داخل الألم، فتطرح الأسئلة الكبرى حول جدوى الحب، وصدق البشر، ومصير القلوب الطاهرة، ثم تنقض تلك الكآبة بيقينٍ حاسم:
“لكنني لا أستسيغ هزيمةً / حتمًا سيقتحم الظلامَ سناءُ”.
هنا يتحوّل اليأس إلى عنادٍ نبيل، والرؤية إلى مقاومة روحية داخلية، لا تنتظر الخلاص من الخارج، بل تولده من ذاتها.
الصوت الذي نسمعه في القصيدة هو صوتٌ أنثويّ ناضج، لا يكتفي بالبكاء على العالم، بل يعرّيه، ويواجهه، ويشهر في وجهه دهشته ورفضه معًا.
هي أنثى عاقلة، تحاور قلبها كأنها تحاور طفلًا، تؤنّبه، تُربّت عليه، ثم تواصل الطريق معه رغم الألم. تُذكّرنا بأسلوب “نازك الملائكة” في بعض صورها، وبتنهيدات “فدوى طوقان” حين تقف على جراح الوجود، لكنها تملك هُويتها الخاصة، حيث لا تستجدي، ولا تتهرّب من السؤال، بل تُمعن في طرحه حتى تبلغ به أقصى شفافيته.
لغة القصيدة مشحونة بالعاطفة المتّقدة، لكنها محكومة بعينٍ تأمّلية واعية. الشاعرة توزّع صورها ما بين البساطة الصادقة (كصورة الطفل الذي يلهو بين الربى)، وبين الكثافة الرمزية العميقة (كالشموع التي تحتاج ضياءً في اليدين، أو العنقاء التي تولد من الاحتراق).
نلحظ توظيفًا بارعًا للرموز الأسطورية مثل “العنقاء”، والمجازات الجريئة كصورة “دويدة تأكل القلب والعين”، مما يخلق توازنًا بين الواقع المادي والمجاز الروحي. هذه الصور لا تأتي تزيينيّة، بل تخدم المعنى، وتُضفي عليه طابعًا فلسفيًا ووجدانيًا معًا.
اختارت الشاعرة أن تُحافظ على الوزن والقافية، ممّا يضفي على القصيدة جرسًا موسيقيًا حزينًا ومتماسكًا. وقد أحسنت في توزيع هذا الإيقاع دون افتعال، فالكلمات تسيل على اللسان كما تسيل الدموع على الخد: بلا تكلّف، ولكن بحضورٍ أخّاذ.
أقوى ما في القصيدة هو ختامها؛ إذ لا تنهي الشاعرة النصّ على نغمة انكسار، بل ترفعه على أجنحة الأمل المشتعل. فـ”أرحام الحياة” تُعلن أن الخصب ليس صنيعة الراحة، بل ابن الاحتراق.
و”العنقاء” هنا ليست مجرّد رمز، بل هي المرأة – الذات – القصيدة نفسها، التي تحترق لتُولد، وتتكسّر لتنهض، وتكتب لتكون.
“أرحام الحياة” قصيدة تليق بزمنٍ ضلّ فيه الضوء طريقه.
هي مرآة لامرأة تعبت من الكذب، لكنها لا تزال تحب. خذلتها الأصوات، لكنها تؤمن بالصدى. كتبت الشاعرة بصدقٍ حارق، وأهدت لنا نصًا يتجاوز الشعر، ليكون تجربةً وجودية، ومرآةً لكل من يسير في الحياة بقلبه لا بعقله فقط.
ليلاس زرزور